مظاهرات «سلم الرواتب» تجتاح محافظات عراقية وسط استمرار الخلافات حول الموازنة

العراق في المركز الـ78 عالمياً بين الدول الأكثر فقراً

وقفة احتجاجية بمناسبة اليوم العالمي للعمال في المنطقة الخضراء وسط بغداد أمس (إ.ب.أ)
وقفة احتجاجية بمناسبة اليوم العالمي للعمال في المنطقة الخضراء وسط بغداد أمس (إ.ب.أ)
TT

مظاهرات «سلم الرواتب» تجتاح محافظات عراقية وسط استمرار الخلافات حول الموازنة

وقفة احتجاجية بمناسبة اليوم العالمي للعمال في المنطقة الخضراء وسط بغداد أمس (إ.ب.أ)
وقفة احتجاجية بمناسبة اليوم العالمي للعمال في المنطقة الخضراء وسط بغداد أمس (إ.ب.أ)

لم تتمكن الكتل السياسية والبرلمانية معاً من حسم الخلافات بشأن الموازنة المالية للعام الحالي (2023)، في حين قدمت حكومة محمد شياع السوداني موازنة وُصفت بالطموحة للسنوات الثلاث المقبلة.
وفي وقت يخلو جدول البرلمان العراقي لجلسة اليوم (الثلاثاء) من مناقشة أهم قضية ينتظرها ملايين العراقيين، وهي الموازنة المالية للبلاد المعطلة منذ نحو سنتين، بيد أنه تضمن قضايا مثل انضمام العراق إلى النظام الأساسي للمنظمة الإسلامية للأمن الغذائي أو مشروع قانون تصديق اتفاق بين حكومة جمهورية العراق والجمهورية التونسية بشأن الخدمات الجوية بين إقليميهما.
الأسباب الرئيسية لعدم إقرار الموازنة مع أنه تمت قراءتها مرتين؛ وهو ما كان ينبغي أن يمهد للتصويت عليها يعود بعضها إلى أسباب غير معلنة، وهي عدم رغبة بعض القوى السياسية في إطلاق يد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي أطلق مجموعة كبيرة من المشاريع الخدمية التي تحتاج إلى غطاء مالي لتنفيذها، وهو ما يعني من وجهة نظر بعض تلك القوى نجاحاً لرئيس الوزراء الذي يبدو أنه في وارد تطبيق كل ما تعهد به بعيداً عن رؤية القوى السياسية التي اعتادت ألا يخرج أي رئيس حكومة عن طاعتها. وطبقاً لمصادر سياسية متطابقة من خلال ما يدور في الغرف السرية إنه بعد أن بدا أن الموازنة اكتملت نهائياً وباتت جاهزة للتصويت، فإن ما أعلنه السوداني عن رغبته في إجراء تعديل وزاري جعل من العديد من القوى السياسية تعيد النظر في حساباتها حياله بما في ذلك مراجعة موضوع إقرار الموازنة، وذلك بالعودة إلى أصل الخلافات التي كان ينبغي أنها حسمت عند القراءتين الأولى والثانية.
الاعتراضات التي عبّرت عنها بعض القوى السياسية تمثلت في ثلاث نقاط، وهي كون الموازنة لثلاث سنوات لا لسنة واحدة، والثانية كون الموازنة تحتوي على عجز كبير، والثالثة تتمثل في سعر البرميل الواحد للنفط مقابل الدولار البالغ 70 دولاراً للبرميل الواحد مع الخشية من إمكانية انخفاض أسعار النفط.
السوداني الذي لم يقدم تنازلات بات مقلقاً للكثيرين، فضلاً عن إصراره على التعديل الوزاري ومباشرته أوائل هذا الأسبوع تنفيذ أول مشروعين كبيرين لفك الاختناقات المرورية في العاصمة بغداد، وهو ما يؤشر مضيه في تنفيذ خططه مع سعي واضح لجعل الكتل السياسية في مواجهة الشارع الغاضب عليها أصلاً. لكن بعض الكتل السياسية لديها ما يمكن أن تضغط به على الحكومة حتى لو كانت هي جزءاً من مسؤوليته، مثل موضوع «سلم الرواتب». ففي صباح أمس وفي محافظات عراقية عدة وفي توقيت واحد انطلقت مظاهرات عدة من قِبل موظفي الدولة، مطالبين بتعديل سلم الرواتب قبل إقرار الموازنة. وطبقاً للمراقبين وخبراء المال، فإن قضية سلم الرواتب التي هي إحدى الإشكاليات المهمة على صعيد الوظيفة العامة في العراق وما تشهده من فوارق بين موظفي الدولة لا يمكن حلها في وقت باتت الموازنة جاهزة للتصويت. فطبقاً لما أعلنه عدد من النواب في البرلمان العراقي، وكذلك الخبراء الماليون أن مناقشة وإقرار سلم الرواتب الجديد الذي لم تتم المباشرة به بعد يحتاج إلى وقت طويل، وهو ما يعني في حال ربطه بالموازنة تعطيل إقرارها لعام آخر مثلما تعطلت منذ منتصف عام 2021 وحتى منتصف 2023 مروراً بعام 2022. في حين تغص خزينة البنك المركزي العراق بأكثر من 115 مليار دولار أميركي، أغلبها من مبيعات النفط التي بلغت حتى آخر شهر مارس (آذار) نحو 7 مليارات دولار أميركي. المتظاهرون الذين انطلقوا في وقت واحد في محافظات بغداد والبصرة وذي قار ومدن أخرى طالبوا بتعديل سلم الرواتب بهدف تقليل الفوارق بين الموظفين. علماً بأن عدد الموظفين والمتقاعدين في العراق يتجاوز 6 ملايين موظف تنفق عليهم الدولة نحو 5 مليارات دولار رواتب؛ وهو ما يستنزف أكثر من 70 في المائة من موازنة الدولة التي تذهب إلى ما هو تشغيلي في حين ترتفع نسبة البطالة بشكل كبير في البلاد وكذلك نسبة التضخم. وكانت أسعار الدولار مقابل الدينار العراقي سجلت ارتفاعاً حاداً خلال الأشهر الماضية بلغت 170 ألف دينار لكل مائة دولار أميركي قبل أن تتخذ الحكومة إجراءات صارمة بما فيها مفاوضات مع «الفيدرالي» الأميركي أدت بعدها إلى انخفاض واضح في أسعار صرف الدولار ليقترب من معدله الرئيسي الذي حددته الحكومة، وهو 132 ديناراً لكل دولار بينما سعره الحالي في السوق يقف عند نحو 140 ديناراً لكل دولار أميركي.
إلى ذلك، صنّف آخر تقرير دولي بلداً غنياً مثل العراق بالمرتبة الـ78 عالمياً والثامنة عربياً من بين أكثر الدول فقراً خلال العام الحالي. ووفقاً لمجلة «غلوبال فاينانس» المتخصصة بتصنيف دول العالم، فإن «العراق احتل المرتبة الـ78 من أصل 193 دولة مدرجة بالجدول من حيث نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، متقدماً مركزاً واحداً نحو الفقر بالمقارنة مع العام الذي سبقه وكان يحتل فيه المركز الـ79». وذكرت المجلة، أن «دولة جنوب السودان احتلت المرتبة الأولى كأكثر دول العالم فقراً تليها بوروندي ثانياً، في حين احتلت جمهورية جنوب أفريقيا المرتبة الثالثة، ومن ثم جاءت جمهورية أفريقيا الوسطى رابعاً، وجاءت الصومال، وجمهورية الكونغو، وموزمبيق، والنيجر، ومالاوي وتشاد عند المراتب الخامسة، والسادسة، والسابعة، والثامنة والتاسعة والعاشرة على الترتيب، بينما تذيلت آيرلندا ولوكسمبورغ وسنغافورة الترتيب بأقل دول العالم فقراً».
وعربياً، جاءت الدول العربية الأكثر فقراً هي، الصومال بالمرتبة الأولى تليها ثانياً اليمن، ومن ثم إرتيريا ثالثاً، والسودان رابعاً، ومن ثم موريتانياً خامساً، والمغرب سادساً، والأردن سابعاً، والعراق ثامناً، وتونس تاسعاً، والجزائر جاءت بالمرتبة العاشرة. وأشارت إلى أن «قياس مدى فقر أو ثراء أمة معينة مقارنة بأمة أخرى يتم على أساس نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من خلال تعويض الفروق في تكاليف المعيشة ومعدلات التضخم».


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

المشرق العربي الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

حثت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لدى العراق، جينين هينيس بلاسخارت، أمس (الخميس)، دول العالم، لا سيما تلك المجاورة للعراق، على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث التي يواجهها. وخلال كلمة لها على هامش فعاليات «منتدى العراق» المنعقد في العاصمة العراقية بغداد، قالت بلاسخارت: «ينبغي إيجاد حل جذري لما تعانيه البيئة من تغيرات مناخية». وأضافت أنه «يتعين على الدول مساعدة العراق في إيجاد حل لتأمين حصته المائية ومعالجة النقص الحاصل في إيراداته»، مؤكدة على «ضرورة حفظ الأمن المائي للبلاد».

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي بارزاني: ملتزمون قرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل

بارزاني: ملتزمون قرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل

أكد رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان بارزاني، أمس الخميس، أن الإقليم ملتزم بقرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل، مشيراً إلى أن العلاقات مع الحكومة المركزية في بغداد، في أفضل حالاتها، إلا أنه «يجب على بغداد حل مشكلة رواتب موظفي إقليم كردستان». وأوضح، في تصريحات بمنتدى «العراق من أجل الاستقرار والازدهار»، أمس الخميس، أن الاتفاق النفطي بين أربيل وبغداد «اتفاق جيد، ومطمئنون بأنه لا توجد عوائق سياسية في تنفيذ هذا الاتفاق، وهناك فريق فني موحد من الحكومة العراقية والإقليم لتنفيذ هذا الاتفاق».

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي: علاقاتنا مع الدول العربية بلغت أفضل حالاتها

رئيس الوزراء العراقي: علاقاتنا مع الدول العربية بلغت أفضل حالاتها

أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن علاقات بلاده مع الدول العربية الشقيقة «وصلت إلى أفضل حالاتها من خلال الاحترام المتبادل واحترام سيادة الدولة العراقية»، مؤكداً أن «دور العراق اليوم أصبح رياديا في المنطقة». وشدد السوداني على ضرورة أن يكون للعراق «هوية صناعية» بمشاركة القطاع الخاص، وكذلك دعا الشركات النفطية إلى الإسراع في تنفيذ عقودها الموقعة. كلام السوداني جاء خلال نشاطين منفصلين له أمس (الأربعاء) الأول تمثل بلقائه ممثلي عدد من الشركات النفطية العاملة في العراق، والثاني في كلمة ألقاها خلال انطلاق فعالية مؤتمر الاستثمار المعدني والبتروكيماوي والأسمدة والإسمنت في بغداد.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي السوداني يؤكد استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»

السوداني يؤكد استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»

أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»، داعياً الشركات النفطية الموقّعة على جولة التراخيص الخامسة مع العراق إلى «الإسراع في تنفيذ العقود الخاصة بها». جاء ذلك خلال لقاء السوداني، (الثلاثاء)، عدداً من ممثلي الشركات النفطية العالمية، واستعرض معهم مجمل التقدم الحاصل في قطاع الاستثمارات النفطية، وتطوّر الشراكة بين العراق والشركات العالمية الكبرى في هذا المجال. ووفق بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء، وجه السوداني الجهات المختصة بـ«تسهيل متطلبات عمل ملاكات الشركات، لناحية منح سمات الدخول، وتسريع التخليص الجمركي والتحاسب الضريبي»، مشدّداً على «ضرورة مراعا

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي مباحثات عراقية ـ إيطالية في مجال التعاون العسكري المشترك

مباحثات عراقية ـ إيطالية في مجال التعاون العسكري المشترك

بحث رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروسيتو العلاقات بين بغداد وروما في الميادين العسكرية والسياسية. وقال بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي بعد استقباله الوزير الإيطالي، أمس، إن السوداني «أشاد بدور إيطاليا في مجال مكافحة الإرهاب، والقضاء على عصابات (داعش)، من خلال التحالف الدولي، ودورها في تدريب القوات الأمنية العراقية ضمن بعثة حلف شمال الأطلسي (الناتو)». وأشار السوداني إلى «العلاقة المتميزة بين العراق وإيطاليا من خلال التعاون الثنائي في مجالات متعددة، مؤكداً رغبة العراق للعمل ضمن هذه المسارات، بما يخدم المصالح المشتركة، وأمن المنطقة والعالم». وبي

حمزة مصطفى (بغداد)

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
TT

هكذا بدّلت سطوة «حزب الله» هويّة البسطة تراثياً وثقافياً وديموغرافياً

عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)
عناصر من الدفاع المدني يعملون على رفع الأنقاض والبحث عن الضحايا إثر القصف الذي استهدفت مبنى بمنطقة البسطة في بيروت (رويترز)

لم تكن الغارة الإسرائيلية الثالثة التي استهدفت منطقة البسطة، وسط بيروت فجر الجمعة، ذات طابع عسكري فقط، بل كان لها بُعدٌ رمزي يتمثّل في ضرب منطقة أضحت من البيئات الشعبية المؤيدة لـ«حزب الله»، وتماهت معه منذ تأسيسه في عام 1982 يوم انشق عن حركة «أمل» بصفته تنظيماً مسلّحاً حمل اسم «حركة أمل الإسلامية».

يكفي الحديث عن تاريخ هذه المنطقة لإدراك أن استهدافها وتدميرها لا يقفان عند حدود تعقّب قيادات «الحزب» واغتيالهم وترويع بيئته في قلب العاصمة بيروت فقط، بل الأمر يتعدى ذلك إلى تدمير أحياء ومبانٍ ما زالت تحفظ على جدرانها وفي ذاكرتها كثيراً من تاريخ بيروت الجميل، رغم تغيّر هويتها، لا سيما شارع المأمون الذي تحمل عقاراته ومبانيه أسماء عائلات بيروتية سنيّة ومسيحية رغم انتقال ملكيتها في السنوات الماضية إلى أسماء أشخاص من الطائفية الشيعية الذين يدورون في فلك «حزب الله»، بعد أن عزز الأخير وجوده ونفوذه في البسطة وامتداداً منها إلى مناطق أخرى، سواء بفعل استملاك العقارات، أو بنقل سجلات قيد عائلات من الجنوب إلى بيروت لغايات سياسية انتخابية وأحياناً أمنية.

لا يختلف اثنان من أبناء بيروت على أن الهوية الطائفية والسياسية لمنطقة البسطة تغيّرت كثيراً، ويشير مختار المصيطبة، صائب كلش، إلى أن «المنطقة التي استهدفتها الغارة الإسرائيلية، وتحديداً شارع المأمون، ذات غالبية سنيّة بامتياز، وأغلب سكانها من عائلات: عيتاني، وشاتيلا، والنويري، وعيدو، والتنير، ومنيمنة، ومغربل، وسوبرة، وكان فيها عدد لا بأس به من العائلات المسيحية مثل: مجدلاني، وجنحو، ومنيّر، والمطران، وعودة... وغيرها».

وأوضح كلش لـ«الشرق الأوسط» أنه «على أثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، والتهجير من الجنوب إلى بيروت، استوطنت عائلات شيعية في هذه المنطقة، وآثرت البقاء فيها، واستملكت عقارات وشققاً سكنية، ورفضت مغادرتها حتى بعد انسحاب إسرائيل إلى خلف ما كان يعرف بالشريط العازل في الجنوب».

مجزرة «فتح الله»

اللافت أن دور «حزب الله» ووجوده بدأ يتعزز مع اكتشاف ارتباطه بإيران، واتخذ في بداياته من منطقة البسطة مكاناً لقياداته وتقوية نفوذه، وحوّل ثكنة «فتح الله» الواقعة في شارع المأمون مقراً لقيادته. لكن بعد أشهر قليلة من عام 1987، وفي ظلّ تمدده عسكرياً بالمنطقة، اصطدم مع القوات السورية إثر دخول الأخيرة إلى «بيروت الغربية» على أثر إقدام «الحزب» على قتل جندي سوري، عندها عمد الجيش السوري إلى تصفية 27 عنصراً من مقاتلي «الحزب» داخل هذه الثكنة وسيطر عليها، وعرفت العملية يومها بـ«مجزرة فتح الله»، لينقل على أثرها «الحزب» مركز قيادته إلى الضاحية الجنوبية.

اتخذ «حزب الله» من تلك المجزرة عبرة لإعادة صوغ علاقته بالجيش السوري، خصوصاً في ظلّ العلاقات المتنامية بين إيران وسوريا. وأكد المختار كلش أنه «بعد سيطرته عسكرياً على بيروت، سمح الجيش السوري لـ(الحزب) بأن يتمدد في منطقة البسطة شعبياً، وهذا سهّل عليه وعلى مؤيديه استملاك الشقق والمنازل، خصوصاً بين عامي 1988 و1990عندما أطلق العماد ميشال عون ما سماها (حرب التحرير) ضدّ الجيش السوري، وتسبب ذلك في هجرة المئات من أبناء العائلات البيروتية السنيّة والمسيحية من المنطقة، والخشية من استهداف منطقتهم من الجيش اللبناني الذي كان تحت إمرة ميشال عون، كما شمل التهجير النهائي غالبية المسيحيين، وبقي وجود بعضهم رمزياً».

رجال أمن لبنانيون في وسط بيروت... وتبدو خلفهم صورة الأمين العام الراحل لـ«حزب الله» حسن نصر الله (أ.ب)

صحيح أن شوارع وأحياء المصيطبة، القريبة من البسطة، لا تزال تحمل أسماء شخصيات بيروتية سنيّة، إلّا إن وجهها تبدّل أيضاً، وهذا تظهّر بشكل كبير بعد انخراط «حزب الله» في العمل السياسي؛ بدءاً من الانتخابات النيابية في عام 1992 وحصوله على كتلة وازنة، كما تعزز أكثر بعد تحرير الجنوب في عام 2000، لكنّ التحوّل الأكبر انطلق في عام 2005 على أثر خروج الجيش السوري من لبنان على خلفية اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، وتصدّر «الحزب» المشهد السياسي ليأخذ الدور الذي كان يمارسه السوريون في لبنان.

نقل نفوس

ويلفت كلش إلى أن «عدد الشيعة المسجلين في دوائر النفوس ببيروت كان ضئيلاً جداً، لكن بعد عام 2005 نُقلت نفوس آلاف العائلات من الجنوب إلى بيروت، وسُجلوا في مناطق مثل المصيطبة، والباشورة، والمرفأ، امتداداً إلى ميناء الحصن وعين المريسة، والسبب في ذلك تعزيز حضور (الحزب) في الانتخابات النيابية والبلدية والاختيارية، بدليل أن نائب (الحزب) عن بيروت، أمين شرّي، حصد 33 ألف صوت في الانتخابات الأخيرة، بينها 28 ألف صوت شيعي، مقابل 6 آلاف صوت فقط لنائب حركة (أمل) محمد خواجة».

ذاكرة المصيطبة

لم يُكتب الكثير عن منطقة المصيطبة، إلّا إن أبناءها المتجذرين فيها يحملون في ذاكرتهم ووجدانهم تاريخ منطقتهم، ويشير المحامي مروان سلام، رئيس جمعية «بيروت منارتي»، إلى أن البسطة «مصنّفة ضمن قائمة أشهر المناطق التراثية، لكن العوامل التي دخلت عليها غيّرت كثيراً من مزاياها». ويؤكد سلام لـ«الشرق الأوسط» أن المنطقة «تميزت بما تحتوي من مراكز إدارية وتعليمية وطبية، بالإضافة إلى عدد من الحدائق والمتنزهات التي جرى تشويه وجهها؛ إما عمداً، وإما تقصيراً»، لافتاً إلى أنها «غنيّة بالمطاعم والمقاهي الواقعة في مبانٍ تراثية قديمة». ويردّ سلام تسمية المنطقة «البسطة» إلى أنها «اعتُمدت مقراً لسلطة المماليك، وحملت هذا الاسم نسبة إلى الكرسي الخشبي التي كان يجلس عليه السلطان».

أكثر من ذلك، حملت المنطقة اسم «البسطة الشريفة»، كما يقول المحامي مروان سلام؛ «ففيها كانت تقام حلقات تلاوة القرآن الكريم ورواية الأحاديث النبوية الشريفة، وكان لأهل بيروت في ذلك الحين مكانان يتحلقون فيهما للغرض المذكور؛ هما (البسطة الفوقا) و(البسطة التحتا)، ويعنون بهما الحلقات الدينية».

محطة القبضايات

ويتحدث عن مزايا أبناء المنطقة؛ «إذ كانت محطة دائمة للقبضايات الذين يرتادون مقاهيها، وكانت معبراً لـ(ترامواي بيروت) الذي ينطلق من البربير إلى النويري ثم البسطتين الفوقا والتحتا، والباشورة، وصولاً إلى محطته في (ساحة رياض الصلح)». ويضيف سلام أن البسطة «رغم صغر مساحتها، فإنها كات تحوي عدداً من المستشفيات منها: (البربير)، و(الإسلامي)، و(مليح سنو) و(مستشفى الدكتور محمد خالد)، إضافة إلى مدارس: (الشيخ نور)، و(عزيز مومنة)، و(شريف خطاب)، و(العلماوي) و(مكارم الأخلاق). كما خرّجت عدداً كبيراً من الفنانين، منهم: نجاح سلام، ومحمد سلمان، وأنطوان كرباج، وشوشو، ومحمد شامل، ومحيي الدين سلام، والرسام مصطفى فروخ... وغيرهم. وهؤلاء جميعاً من أبنائها وكانت تفخر بهم ويفخرون بها وبتاريخها».