عيد العمل فرصة للنقابات الفرنسية للتعبير عن استمرار رفضها قانون التقاعد

الحكومة تراهن على «تعب» المواطنين وتسعى لقلب صفحة الاحتجاجات

أفراد من الاتحاد الفرنسي العام للعمال خلال مظاهرات في احتفالات عيد العمل (أ.ف.ب)
أفراد من الاتحاد الفرنسي العام للعمال خلال مظاهرات في احتفالات عيد العمل (أ.ف.ب)
TT

عيد العمل فرصة للنقابات الفرنسية للتعبير عن استمرار رفضها قانون التقاعد

أفراد من الاتحاد الفرنسي العام للعمال خلال مظاهرات في احتفالات عيد العمل (أ.ف.ب)
أفراد من الاتحاد الفرنسي العام للعمال خلال مظاهرات في احتفالات عيد العمل (أ.ف.ب)

تختلف مسيرات ومظاهرات يوم «عيد العمل» التي تعرفها باريس وغالبية المدن الكبرى والمتوسطة عن سابقتها بسب باختلاف السياق. وثمة رهانات متضاربة؛ فمن جهة تسعى النقابات ليكون ما سيحصل اليوم «تاريخياً» لأنه سيعدّ الرد على الحكومة التي لم تتراجع عن السير بقانون تعديل نظام التقاعد رغم المعارضة الشديدة التي واجهتها من النقابات مجتمعةً في الشارع ومن أحزاب المعارضة في البرلمان. من هنا، فإنها تأمل نزولاً «مكثفاً» إلى الشوارع وتراهن على أن تكون المظاهرات «مليونية» خصوصاً أنها المرة الأولى التي تحصل فيها باجتماع جميع النقابات وبطلب من اللجنة النقابية المشتركة منذ عام 2009. ورغم أن قانون التقاعد الجديد أصبح نافذاً بعد أن أصدره الرئيس ماكرون في اليوم نفسه الذي عبَر فيه عقبة البرلمان، وأن هناك دعوة من رئيسة الحكومة للقادة النقابيين للالتقاء معها الأسبوع المقبل على الأرجح لمناقشة مواضيع تتناول قوانين العمل والمرتبات، فإن المزاج العام ما زال رافضاً أداء الحكومة. والدليل على ذلك قرع الطناجر الذي يستقبل الرئيس ماكرون ورئيسة الحكومة والوزراء ونواب الأكثرية أينما يحلّون. وفيما تشيع الحكومة أنها قلبت صفحة القانون الجديد، لا تزال أمامها عقبتان: الأولى قانونية، والأخرى سياسية. فمن جهة، ينتظر أن يُصدر المجلس الدستوري بعد غد (الأربعاء)، فتواه بخصوص طلب نواب من المعارضة الموافقة على إجراء استفتاء بشأن رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، وهو الثاني من نوعه الذي قُدم للمجلس الذي سبق له أن رفض الطلب الأول. ومن جهة ثانية، تقدمت المعارضة اليسارية باقتراح قانون إلى البرلمان ينص على الإبقاء على 62 عاماً حداً رسمياً للتقاعد، ما يعطّل القانون الجديد إذا ما حصل الاقتراح على الأكثرية النسبية. وسيتم التصويت على اقتراح القانون في 8 يونيو (حزيران) المقبل.
أما من الجانب الحكومي، فإن القراءة مختلفة. ويبدو ماكرون وإليزابيث بورن مقتنعين بأن «ما حصل قد حصل» ولا مكان للتراجع رغم تدهور شعبية الطرفين. وترفض الحكومة العودة لمناقشة بنود القانون الجديد وهي واثقة من أن البرلمان لن يتجاوب مع المعارضة، فيما تبقى مسألة قرار مجلس الدستوري معلّقة. وتجدر الإشارة إلى أن المجلس المذكور لم يُجز أبداً «مبادرة الاستفتاء المشترك». ويرى كثيرون أن الحكومة تتمتع بأغلبية موالية لها داخل المجلس المشكّل من تسعة أعضاء وحكمه لا يُنقَض ولا يُرَدّ. ومن جانب آخر، تراهن الحكومة على «تعب» النقابات والرافضين، وهي تعمل على اجتذاب الشرائح الأكثر هشاشة من خلال توفير مساعدات مالية إنْ للمحروقات أو للأزمة الغذائية، وارتفاع الأسعار، وحث الشركات على رفع مرتبات العمال والموظفين فيما التضخم يضرب أرقاماً قياسية. ومن المقرر أن تعقد النقابات اجتماعاً غداً (الثلاثاء)، للنظر في الخطوات اللاحقة. ويبدو منذ اليوم أن هناك تشققات داخل الصف النقابي، الأمر الذي برز من خلال تفاوت الردود على دعوة رئيسة الحكومة للقاء المسؤولين النقابيين. فمن جهة، قال لوران بيرجيه، أمين عام «الفيدرالية الديمقراطية للعمل»، إن نقابته ستلبّي الدعوة فيما بدا الاتحاد العام للشغل القريب من الحزب الشيوعي متردداً وأكثر ميلاً للرفض.
واليوم، تَشخص الأنظار لمعرفة ما إذا كانت المظاهرات والمسيرات ستشهد أعمال عنف كما حصل في «أيام التعبئة» الـ11 التي عرفتها فرنسا منذ شهر يناير (كانون الثاني) الماضي. ولتلافي المفاجآت، عمدت وزارة الداخلية إلى تعبئة 12 ألف رجل أمن ودرك، منهم خمسة آلاف للعاصمة وحدها. وللمرة الأولى، ستلجأ الشرطة لاستخدام المسيّرات لمراقبة تحرك المتظاهرين وذلك بناءً على أمر صادر عن لوران نونيز، مدير الشرطة في باريس. وعبّرت مصادر أمنية عن تخوفها من أعمال شغب قد يقوم بها ما بين 1000 و2000 فرد ينتمون إلى مجموعات متطرفة أبرزها «بلاك بلوك» اليسارية الفوضوية التي دأب أفرادها على ارتداء لباس أسود، ومن هنا جاءت تسميتهم. إضافةً إلى ذلك يُتوقع مشاركة ما بين 1500 و3000 فرد من «السترات الصفراء» الذين لا يترددون في مواجهة رجال الأمن. وقالت صوفي بينيت، أمينة عام «الاتحاد العمالي»، إن تسلل «بلاك بلوك» يعد «مشكلة». إلا أنها في المقابل، عبّرت عن قلقها لاستخدام المسيّرات، وهو ما رأت فيها «منزلقاً خطراً». وتجدر الإشارة إلى أن المحكمة الإدارية في مدينة روان (شمال غربي فرنسا) علّقت لجوء الشرطة إلى المسيّرات. وتقدمت النقابات بطعن مماثل في باريس وبوردو.
ومثل كل مرة، تضاربت التوقعات؛ فبينما رأت المصادر النقابية أنها تتوقع مشاركة 1.5 مليون شخص في المظاهرات مؤكدةً أنها ستكون «احتفالية»، رأت مصادر «الداخلية» أنها ستتراوح ما بين 500 و650 ألف مواطن. وأكد لوران بيرجيه أن يوم الاثنين سيشهد ما لا يقل عن 300 تجمع ومظاهرة عبر البلاد. وكانت أولى المظاهرات قد بدأت في مدن تولوز وأميان ومولوز... أما مظاهرة باريس التي ستكون الأكبر والأهم، فإن انطلاقها مقرَّرٌ في الثانية بعد الظهر، وهي ستنطلق من ساحة «لا ريبوبليك»، (الجمهورية)، إلى ساحة «لا ناسيون»، (الأمة)، مروراً بساحة «الباستيل» التاريخية التي كانت منطلق شرارة الثورة الفرنسية في عام 1789. ورأى فريدريك سويو، أمين عام نقابة «القوة العمالية»، أن عيد العمل يتم في ظل الوحدة النقابية، «وهذا الأمر، بحد ذاته، تاريخي».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟