الخرطوم مدينة أشباح يعبث بها اللصوص وقطاع الطرق

بعد فرار الآلاف من سكانها هرباً من القتال

لم تعد الخرطوم تلك المدينة الوادعة... لا يُسمع فيها غير دوي الانفجارات ولا يُرى إلا  أعمدة الدخان (أ.ب)
لم تعد الخرطوم تلك المدينة الوادعة... لا يُسمع فيها غير دوي الانفجارات ولا يُرى إلا أعمدة الدخان (أ.ب)
TT

الخرطوم مدينة أشباح يعبث بها اللصوص وقطاع الطرق

لم تعد الخرطوم تلك المدينة الوادعة... لا يُسمع فيها غير دوي الانفجارات ولا يُرى إلا  أعمدة الدخان (أ.ب)
لم تعد الخرطوم تلك المدينة الوادعة... لا يُسمع فيها غير دوي الانفجارات ولا يُرى إلا أعمدة الدخان (أ.ب)

لم يعد السودانيون يتغزلون بعاصمتهم التي يخاصرها النيل، ويغنّون لها أغنيتها الأثيرة «يا جمال النيل والخرطوم بالليل». فقد أطفأت الحرب «السراج»، وخيّم الظلام على ليلها. أما نيلها، فقد تحول مقبرة عظيمة ابتلعت الجثث المتقيحة، وهو، بشموخه القديم، لم يسلم من الاستهداف بالقنابل والمقذوفات التي تسقط على مائه، فتحيل حتى حياة أسماكه جحيماً، ولم يعد المتنزهون يتنزهون على شاطئه، أو يمخرون عبابه على قواربهم الملونة.
ضاقت الخرطوم على سكانها، وبدأ الكل يفكر في الهرب منها إلى مدينة أخرى، أو بلاد أو ملاذ آمن. إنها الحرب.
الخرطوم التي اشتهرت بأنها تقرأ كل ما يخرج من بطون مطابع العالم، لم تعد قائمة، ولم تعد القراءة أولويتها؛ لأن القذائف لم توفر حتى الجامعات، التي تحولت هي الأخرى «مقابر». ففي أيام الحرب الأولى تقطعت السبل بعدد من طلاب جامعة الخرطوم، أم الجامعات السودانية، وهم يراجعون دروسهم في المكتبة، وفجأة، وجدوا أنفسهم تحت نيران المتقاتلين المتقاطعة، فأصابت رصاصة طائشة أحدهم، ولم يستطيعوا نقله لتلقي العلاج، فمات، واضطروا إلى دفنه في «الميدان الغربي»، أحد أشهر ميادين الجامعة، ليسجلوا أول حالة دفن داخل جامعة.
الخرطوم، ومنذ نحو أسبوعين وحتى الآن ساحة معركة. دوي القذائف والصواريخ وأزيز الطائرات الحربية، أصبح سيد الأجواء والأرض فيها. هذه هي «حرب الخرطوم» التي يتبادل الطرفان الاتهامات حول من أطلق رصاصتها الأولى، دون أن يعرفوا ميقات الرصاصة الأخيرة. وقد قالها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان «لا أحد يمكنه معرفة متى وكيف ستنتهي الحرب».

ولأن الرصاصة الأخيرة لا تزال بعيدة، ولا أحد يستطيع تحديد ميقاتها، فقد سارع مواطنو المدينة إلى مغادرتها، راسمين مشهد «فرار جماعي»، يتجلى في أشد مظاهره على الطريق البرية التي تربط الخرطوم بود مدني في الوسط، الذي تحول «ميدان سيارات» من الأنواع كافة، وهي تنقل المواطنين الفزعين بعيداً عن مرمى الرصاص.
مثال على ذلك، قصة المدرّسة نادرين أبو القاسم، ورحلتها مع عائلتها من منطقة شرق النيل إلى «رفاعة» في ولاية الجزيرة؛ هرباً من الموت الذي يحاصر سكان المنطقة التي تعيش فيها. تقول نادرين «مساء الأحد والاثنين الماضيين، استقللنا شاحنة (ونش)، وكنا نحو 25 شخصاً بين أطفال وشيوخ ونساء وشباب. فرشنا أرضية العربة بالمراتب القطنية حتى نستطيع الجلوس عليها، وإلى جوارنا حقائب أغراضنا الشخصية والمواد التموينية التي يمكن الحصول عليها، وتشاركنا العربة مع 5 خراف».
تتابع نادرين، أنها لم تكن تتوقع يوماً أن تركب سيارة لنقل الحيوانات، وأن تنقل هي وتلك الحيوانات على سطح واحد. وتضيف «كانت عائلتي كلها تبكي بحرقة خوفاً على بعض شبابها الذين رفضوا مرافقتها في الهرب، وظلوا في البيت يواجهون الخطر».
وأثرت حرب الخرطوم على أوضاع المواطنين بصورة كبيرة. فالفقراء ليس أمامهم غير الانتظار العدمي. أما من يملكون بعض المال، فقد تبدد مالهم نتيجة لشلل النظام المصرفي، وانهيار «التطبيقات البنكية»، فلم يعودوا قادرين على شراء احتياجاتهم. ورغم شح النقود، فإن أسعار السلع تضاعفت مرات عدة؛ إذ استغل الجشعون الحرب ليحققوا أكبر الأرباح. إنها «تجارة الحرب».
ويدعو الخبير الاقتصادي محمد الناير، في حديثه إلى «الشرق الأوسط»، التجار إلى أن يتحملوا المسؤولية ويتمتعوا بالروح الوطنية، ويحافظوا على الأسعار مراعاة لظروف الموطنين. ويتابع «للأسف، أسعار السلع والخدمات شهدت ارتفاعاً كبيراً، سببه الرئيسي تعقد سلاسل الإمداد للسلع الناتج من الحرب».
ومثلما تأثرت أسعار السلع، فقد تأثرت سوق العملات الأجنبية. ويقول عنها الناير «يحدث ذلك لأن السوق الموازية للعملات لم تعد موجودة. فمركزها وسط الخرطوم تحول ساحة حرب». ويتابع: «ستتفاقم قضية سعر الصرف ابتداءً من الأسبوع المقبل، وإذا استمرت الحرب، فستؤثر على الاقتصاد وتزيد من معدلات التضخم، فيتعقد الوضع أكثر».
ورغم سوداوية الوضع، فإن الخبير الاقتصادي الناير بدا متفائلاً بنهاية قريبة للحرب، بقوله «رغم أن الاشتباكات تدور حول القيادة العامة والقصر الجمهوري ومطار الخرطوم والأحياء القريبة من هذه المناطق، أتوقع أن يكون أمد الحرب قصيراً».
ولمزيد من الاضطراب في المدينة التي كانت وادعة، اختفت الشرطة وأخلت الشوارع لعصابات النهب، ولم ير المواطنون شرطياً واحداً يحرس أي مكان منذ بداية الحرب، وحتى خلال فترات الهدنة المؤقتة. وزاد الأمر سوءاً أن سلطات السجون اضطرت هي الأخرى إلى إطلاق سراح أكثر من 13 ألف نزيل، بينهم متهمون في جرائم إرهاب ونهب وقتل، فنتج من ذلك «إحراق وسرقة كثير من المحال التجارية والمصانع، ولم تنج حتى منازل المواطنين».
وأرجع خبراء في الشرطة ما أسموه «تقاعس الشرطة عن دورها» إلى عدم تدريب عناصرها على العمل أثناء الحروب الداخلية، وقالوا إن «الشرطة اعتبرت الوضع الحالي نزاعاً داخلياً بين القوتين، ومجرد تمرد لقوات تابعة للجيش».
ويقول الجيش إن قوات «الدعم السريع» التي يحاربها ضالعة في عمليات النهب والسرقات، بسبب قطع خطوط إمدادها، ولتدفع التهمة عن نفسها تسمح للمواطنين باقتحام المحال التجارية، لعلها تكسب تعاطف المواطنين، بينما تقول قوات «الدعم السريع»، إن فلول نظام البشير، مدعومة بالجيش، تنتحل صفتها وترتدي أزياءها وتمارس النهب لتشويه صورتها.
ونتيجة لانفراط عقد الأمن، شهدت ضاحية «الحاج يوسف» شرق الخرطوم، عمليات نهب وسلب واعتداء على المواطنين من مجموعات مسلحة بالأسلحة البيضاء. يقول المواطن محمد الصادق، إنه وفي طريقه لشراء الخبز مساء الاثنين الماضي، اعترضته هذه المجموعة وطلبت منه تسليمها هاتفه الذكي والنقود التي بحوزته. وأضاف «على رغم أنني لم أقاومهم، فإن أحدهم وجّه لي لكمة على وجهي، وركلني آخر حتى سقطت أرضاً». وتابع «لم أقاومهم حفاظاً على حياتي».
بدورها، قالت آمنة عبد القيوم، وهي ربة منزل، إن مجموعة من 7 ملثمين بأزياء مدنية اقتحمت منزلها بضاحية شمبات شمال الخرطوم، في أول أيام الحرب، وطلب أفرادها منها ذهبها وإلا سيطلقون الرصاص عليها وعلى أطفالها. وأضافت «اضطررت إلى الاستجابة لهم، فأعطيتهم أربع أساور وعقداً ذهبياً. وقبل أن يغادروا طلب أحدهم أن أسلمه حتى دبلة زواجي». وتابعت «أصاب الرعب أطفالي وبدأوا في الصراخ والبكاء. لكن، لدهشتي، فإن أحد اللصوص سارع إلى كفكفة دموعهم».
لا أحد يستطيع تقدير حجم الذعر والدمار والاعتداءات على الناس بسبب الحرب بين الجيش وقوات «الدعم السريع»، وأساليب المواطنين في حماية ممتلكاتهم، وأغربها ما رصدته وسائط التواصل الاجتماعي، من أن البعض قام ببناء الحيطان أمام أبواب المحال وصبّها بالخرسانة المسلحة للحيلولة دون سرقتها أو حرقها. فعمليات النهب لا تقتصر على أماكن الاشتباكات، بل شملت مناطق كثيرة في الخرطوم وبعض الولايات.


مقالات ذات صلة

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

بعد 3 أيام عصيبة قضتها المسنة السودانية زينب عمر، بمعبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان، وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على غر

شمال افريقيا الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

أعلنت الأمم المتحدة، الخميس، أنها تحتاج إلى 445 مليون دولار لمساعدة 860 ألف شخص توقعت أن يفروا بحلول أكتوبر (تشرين الأول) المقبل من القتال الدامي في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأطلقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين هذا النداء لجمع الأموال من الدول المانحة، مضيفة أن مصر وجنوب السودان سيسجّلان أكبر عدد من الوافدين. وستتطلب الاستجابة للأزمة السودانية 445 مليون دولار حتى أكتوبر؛ لمواجهة ارتفاع عدد الفارين من السودان، بحسب المفوضية. وحتى قبل هذه الأزمة، كانت معظم العمليات الإنسانية في البلدان المجاورة للسودان، التي تستضيف حالياً الأشخاص الفارين من البلاد، تعاني نقصاً في التمو

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

وجّه الصراع المحتدم الذي يعصف بالسودان ضربة قاصمة للمركز الرئيسي لاقتصاد البلاد في العاصمة الخرطوم. كما عطّل طرق التجارة الداخلية، مما يهدد الواردات ويتسبب في أزمة سيولة. وفي أنحاء مساحات مترامية من العاصمة، تعرضت مصانع كبرى ومصارف ومتاجر وأسواق للنهب أو التخريب أو لحقت بها أضرار بالغة وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه، وتحدث سكان عن ارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. حتى قبل اندلاع القتال بين طرفي الصراع في 15 أبريل، عانى الاقتصاد السوداني من ركود عميق بسبب أزمة تعود للسنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق عمر البشير واضطرابات تلت الإطاحة به في عام 2019.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)
شمال افريقيا فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

فيصل بن فرحان وغوتيريش يبحثان وقف التصعيد في السودان

بحث الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله وزير الخارجية السعودي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، اليوم (الخميس)، الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف في السودان، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين السودانيين والمقيمين على أرضه. وأكد الأمير فيصل بن فرحان، خلال اتصال هاتفي أجراه بغوتيريش، على استمرار السعودية في مساعيها الحميدة بالعمل على إجلاء رعايا الدول التي تقدمت بطلب مساعدة بشأن ذلك. واستعرض الجانبان أوجه التعاون بين السعودية والأمم المتحدة، كما ناقشا آخر المستجدات والتطورات الدولية، والجهود الحثيثة لتعزيز الأمن والسلم الدوليين.

«الشرق الأوسط» (الرياض)

مؤتمر دولي بالقاهرة يدعو إلى «ضوابط» لمواجهة «فوضى الفتاوى»

جانب من مؤتمر دار الإفتاء المصرية بالقاهرة (دار الإفتاء المصرية)
جانب من مؤتمر دار الإفتاء المصرية بالقاهرة (دار الإفتاء المصرية)
TT

مؤتمر دولي بالقاهرة يدعو إلى «ضوابط» لمواجهة «فوضى الفتاوى»

جانب من مؤتمر دار الإفتاء المصرية بالقاهرة (دار الإفتاء المصرية)
جانب من مؤتمر دار الإفتاء المصرية بالقاهرة (دار الإفتاء المصرية)

دعا مؤتمر دولي في القاهرة إلى «ضوابط» لمواجهة «فوضى الفتاوى»، وأكد أن آراء «غير المختصين» تُشكل «خطورة» على المجتمعات. وأشار مشاركون إلى أن «الفتوى الصحيحة تعد أحد الأسس المحورية لتعزيز الأمن الفكري في المجتمعات الإسلامية».

وقد عقد المؤتمر، الأحد، برعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ونظمته «الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم»، تحت مظلة دار الإفتاء المصرية، بعنوان «الفتوى وتحقيق الأمن الفكري»، بمشاركة علماء ومفتين من مختلف دول العالم.

ووفق مفتي مصر، نظير عياد، فإن هناك تحديات «خطيرة» تواجه أمن المجتمعات، ومنها «فوضى الفتاوى»، التي تصدر من غير ذي صفة، وتكون بعيدة عن الاستدلال الصحيح المتفق مع نصوص الشريعة ومقاصدها، وهذه الفتاوى أصبحت سبباً للطعن في الإسلام، وتشويه صورته، ومعوقاً رئيساً لتحقيق الأمن والاستقرار، ولا شك أن تسميتها فتوى، هو بالأساس من «باب المجاراة»، وإلا فحقها أن تسمى «دعوة أو دعوات للإفساد».

ولفت إلى أن التطرف نحو تكفير المسلمين، واستباحة دمائهم، وتخويف الآمنين وترويعهم ليس من الإسلام في شيء، مؤكداً أن وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت على انتشار هذه «الفوضى»، حتى أننا «نجد عدد المفتين في الواقع الافتراضي يكون بعدد من لهم صفحات أو مواقع على هذه الوسائل، الأمر الذي أثّر بالسلب على الأمن الفكري، والاستقرار المجتمعي بشكل خطير».

وحذّر مفتي مصر من «خطورة الجماعات المتطرفة على الأمن الفكري والمجتمعي على السواء؛ حيث إنها تغرس أفكاراً منحرفة في العقول، تجعل الإنسان مسخاً مشوهاً من دون انتماء أو هوية، غير الانتماء لها ولمصالحها». وأشار إلى أن الفتوى لها دور مهم في «تعزيز الانتماء الوطني والشعور بالهوية، وإرساء مبادئ المواطنة الشاملة، التي تقوم على التعايش والتسامح وقبول التنوع الديني والعرقي والمجتمعي في الوطن الواحد».

مؤتمر دار الإفتاء المصرية يدعو إلى «ضوابط» لمواجهة «فوضى الفتاوى» (دار الإفتاء المصرية)

وفي كلمته بالمؤتمر، قال وزير الأوقاف المصري، أسامة الأزهري، إن «الفتوى ليست مجرد توجيه ديني، بل هي عملية تفاعل فكرية تتطلب الفهم العميق لواقع الناس ومتطلباتهم في مختلف المجالات»، مؤكداً أن «الفقيه يجب أن يكون على دراية تامة بأحوال الناس وعاداتهم»، مشيراً إلى أن «الفقه لا يتحقق إلا من خلال الفهم الشامل للظروف المستجدة، والأفكار المتغيرة».

وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، أثارت فتاوى بشأن عمل المرأة وتربية الحيوانات انتقادات وجدلاً واسعاً بين رواد مواقع «التواصل»، ما دفع دار الإفتاء المصرية للرد عليها.

وأكد وكيل الأزهر، الدكتور محمد الضويني، أن «ظهور متطفلين على الفتوى أسهم في تعميق أزمات عالمنا العربي والإسلامي»، مبيناً أنه «كلما كانت الفتوى أكثر (شذوذاً وغرابة) ازداد الاهتمام بها، وتناقلتها بعض وسائل الإعلام ومنصات (التواصل)».

وبيّن الضويني أن موطن الداء في «الفتاوى غير المؤصلة وهؤلاء المفتين المفتونين بالشاشات والصفحات»، حيث إنها «لا تعبر إلا عنهم أو عن مذهبهم أو عن جماعتهم، وإنها قد تغفل أبعاداً أخرى ضرورية في صناعة الفتوى»، داعياً إلى «إقرار قوانين وضوابط ومعايير تُعنى بضبط وتصحيح مسيرة الإفتاء، ووقاية المجتمع من تداعيات الانحراف بها عن الصواب، والسعي لتأكيد ثقة الناس في المؤسسات الرسمية، بدلاً من هذه الهوة المقصودة التي تسعى اتجاهات وأجندات لتجذيرها».

وقد وافقت «اللجنة الدينية» بمجلس النواب المصري (البرلمان) في مارس (آذار) عام 2022 على مشروع قانون مقدم من 61 نائباً بتعديل بعض أحكام قانون «تنظيم ممارسة الخطابة». ونصّت التعديلات المقترحة حينها على أن تكون ممارسة الخطابة والدروس الدينية، والحديث في الشأن الديني في وسائل الإعلام المرئية، أو المسموعة أو الإلكترونية «للمختصين فقط». وحدّدت عقوبات على المخالفين، تتمثل في «غرامة مالية أو حبس».

مشاركون في مؤتمر دار الإفتاء المصرية بالقاهرة (دار الإفتاء المصرية)

وقال الأمين العام لـ«مجمع الفقه الإسلامي الدولي» المنبثق عن «منظمة التعاون الإسلامي»، قطب مصطفى سانو، إن «الأمن الفكري هو صمام أمان المجتمع، وضمان استقراره وحمايته من الانحرافات الفكرية والغلو»، داعياً إلى الالتزام بضوابط الإفتاء التي تضمن نشر الوسطية والاعتدال، وتواجه الفكر المتطرف.

وفي كلمتها بالمؤتمر، أشارت الأمين العام لـ«مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي»، ماريا محمد الهطالي، إلى أن الأجيال الحالية تواجه مخاطر متعددة، على رأسها تأثير العوالم المفتوحة، ووسائل التواصل الاجتماعي التي أدت إلى ظهور ظواهر مثل «الإفتاء الافتراضي»، و«السيولة الإفتائية»، مشددة على ضرورة بناء «الوعي الإفتائي» بوصفه ضرورة ملحة.

وأوضحت أن عصر التقنية والذكاء الاصطناعي يتطلب منا فهم طبيعة التساؤلات التي تطرحها الأجيال الجديدة، وعدم الاكتفاء بالتحليل السطحي لهذه التحديات، مؤكدة أن «مواجهة هذه التحديات ليست خياراً؛ بل هي واجب وطني وديني». وأشارت إلى أهمية تقديم إجابات شافية لهذه التساؤلات، وإلا فإن «الفراغ الفكري سيتيح للجماعات المتطرفة استغلال هذه الحاجة لنشر أفكارها السامة».

بينما شدّد أمين عام مكتب الإفتاء بسلطنة عمان، أحمد بن سعود السيابي، على «ضرورة أن يراعي المفتي أحوال الناس عند إبداء الآراء الشرعية»، لافتاً إلى «أهمية العمل الجماعي لتحقيق الأمن الفكري في المجتمعات».