«بوليكريسيس» أو زمن «الأزمات المتراكبة»

رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
TT

«بوليكريسيس» أو زمن «الأزمات المتراكبة»

رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)
رجل يعبر حاملاً سلماً أمام جدارية لاجتماع قمة الـ20 بالهند في مارس الماضي (أ.ف.ب)

ظهر مفهوم «الأزمات المتراكبة» (polycises) تحت تأثير الأزمات التي اجتاحت العالم مؤخراً. صادف المفهوم قبولاً في أوساط عدة، وصل إلى ذروته عندما تم تبنيه في تقرير المخاطر العالمية لعام 2023 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي المعروف بـ«منتدى دافوس».
«بوليكريسيس» أو «الأزمات المتراكبة»، هي حزمة مخاطر يغذي بعضها بعضاً، لها آثار مضاعفة؛ بحيث إن الأثر الإجمالي للحزمة يزيد على مجموع آثار المخاطر المكونة لها. وفقاً لهذا المفهوم، فإن العالم قد دخل مرحلة جديدة كفت فيها المخاطر عن أن تأتي فرادى متتابعة. فالتسارع في معدلات التطوير التكنولوجي والانتشار السريع لفنون الإنتاج والتكنولوجيا، وسلاسل التوريد المعقدة، والزيادة السريعة في حركة السفر، والثورة في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، كل هذه عوامل تؤدي إلى تسارع توليد وانتقال المخاطر والتهديدات، مما جعلها تأتي في حزم شديدة الوطأة تستعصي على المواجهة.
ينطبق مفهوم «الأزمات المتراكبة» على الوضع الراهن الذي تتداخل فيه أزمة صحية ممثلة في وباء «كوفيد 19» مع أزمة جيوسياسية بسبب الحرب في أوكرانيا، وأزمة في النظام الدولي بسبب التوتر الناتج عن صعود الصين، وأزمة اقتصادية ناتجة عن كل هذا، وأزمة بيئية بسبب اقتراب أزمة التغير المناخي من نقطة اللاعودة، فيما يتواصل الإخفاق العالمي في اتخاذ الإجراءات الضرورية للمواجهة.
يبشرنا أنصار مفهوم «بوليكريسيس» بأن الأزمات المتلاحقة التي تضرب العالم الآن لا تمثل لحظة استثنائية في تطور البشرية والنظام الدولي، لكنها بداية لمرحلة جديدة، تكون فيها الأزمات المتراكبة هي القاعدة، حيث تتفاعل المخاطر المتعددة بعضها مع بعض، وتنتج أزمات مكبرة متعددة الأبعاد، تضرب بشكل متزامن في عدد من النظم العالمية في مجالات الاقتصاد والأمن والنظام السياسي الدولي والصحة العامة والبيئة. الأزمات المتعددة تضرب في المجالات المختلفة، وتضرب أيضاً في المساحات الموجودة بين هذه المجالات، ففي هذه المساحات البينية يوجد عدم وضوح للمسؤوليات، وتغيب استراتيجيات واضحة ومجربة للعمل، بما يحول المساحات البينية إلى مناطق غير محمية مفتوحة تنمو فيها الأزمات والتحديات. التحول الرقمي السريع يغير من طبيعة المجالات المختلفة، ويسهم في خلق مساحات بينية واسعة، تضعف فيها القواعد المنظمة، ولا توجد فيها هياكل واضحة للسلطة وصنع القرار، بما يضاعف من تحديات المخاطر المتعددة.
في مقال نشره في «فاينانشيال تايمز» العام الماضي، تتبع المؤرخ البريطاني آدم توز Adam Tooze تطور مفهوم «بوليكريسيس»، الذي ظهر لأول مرة في تسعينات القرن الماضي، على يد المفكر الفرنسي إدغار موران Edgar Morin، أحد أهم المنظرين لما يعرف بالأنظمة المعقدة (complex systems). يعد موران من رواد التفكير العابر للتخصصات الأكاديمية (multidisciplinary)، وهو ما أهله لصك مصطلح «بوليكريسيس» العابر بطبيعته للحدود الأكاديمية الصارمة. في عام 2016 استخدم جان كلود يونكر، الرئيس السابق للمفوضية الأوروبية، هذا المفهوم لما وجده فيه من قدرة على شرح الحالة الدولية، مما أسهم في إخراج مفهوم «بوليكريسيس» من مجال التفكير والتحليل إلى مجال السياسة العملية.
يرى توز أن المشكلة تصبح أزمة عندما تستعصي على قدرتنا على المعالجة. وأنه بينما كان من الممكن حتى مطلع هذا القرن لكل منا، حسب توجهه الآيديولوجي، تحديد أزمة واحدة أو عوار واحد مسؤول عن المشكلات التي تواجهنا، وبالتالي اقتراح حل يمكننا من السيطرة على كل التحديات، فإن أحداً في عالم اليوم، بما في ذلك أصحاب العقائد الآيديولوجية الصماء، لا يمكنه الادعاء بأن هناك أزمة واحدة، وحلاً واحداً أحادي البعد يمكنه حل الأزمات التي تواجه العالم.
جذور فهم آدم توز لمفهوم «بوليكريسيس» نجدها في كتاب نشره في عام 2018 بعنوان «الانهيار: عقد الأزمات المالية التي غيرت العالم». لم يقف توز في هذا الكتاب عند حدود أزمة 2008 الاقتصادية، وإنما وسع نطاق اهتمامه ليشمل ما أسماه قوس التحول التاريخي الكبير ذا الأبعاد الثلاثة: بعد اقتصادي جسدته الأزمة الاقتصادية لعام 2008، وبعد جيوسياسي تمثل في الهجمات التي شنتها روسيا ضد دول مرشحة لعضوية حلف ناتو، والبعد السياسي المتمثل في الأزمة السياسية التي يمر بها النظام السياسي الأميركي، والتي عدَّ انتخاب الرئيس ترمب دليلاً عليها.
أنصار مفهوم «الأزمات المتراكبة»، أو «بوليكريسيس»، في تزايد، وفي كندا خصص «معهد كاسكاد» (cascade institute)، المتخصص في دراسة الأزمات الدولية، برنامجاً لدراسة «الأزمات المتراكبة»، لبحث آليات انتقال التأثير بين النظم المختلفة، وكيفية الاستفادة من ذلك لمعالجة الأزمات.
على الجانب الآخر، هناك نقاد يشكون في القيمة التحليلية لهذا المفهوم، وما إذا كان فعلاً قادراً على تحسين فهمنا للأزمات، وتحسين قدرتنا على معالجتها. في رأي هؤلاء فإنه ليس هناك جديد في القول بأن تغييراً في أحد النظم الإيكولوجية أو الاقتصادية يسبب تغييراً في نظم أخرى، سياسية أو اجتماعية. فهذا هو الأمر العادي الذي يحدث طوال التاريخ.
يتحفظ النقاد على ما يقع فيه البعض من المساواة بين اجتراح لفظ أو مصطلح جديد، وبين تطوير مفهوم يمسك بظاهرة اجتماعية. اللفظ هو مجرد تعبير جذاب، فيما المفهوم هو أداة تحليلية ذات قيمة معرفية وعلمية أصيلة. المؤرخ الأسكوتلندي الأميركي نيل فيرغسون، يعد «بوليكريسيس» مجرد بديل بلاغي لمصطلح بلاغي آخر هو «العاصفة الكاملة» (perfect storm). جيدون رايهن Gideon Raihen، محرر الشؤون الدولية في «الفاينانشيال تايمز»، التي ينشر فيها آدم توز مقالاته، يرى أننا إزاء أكليشيه لا مفهوم تحليلي ذي قيمة معرفية وعملية.
الأزمات المتراكبة التي تواجه العالم ليست ادعاء أو ظاهرة مفتعلة، لكن التحدي الذي يواجهه مفهوم «البوليكريسيس» هو تعيين الآليات التي تتكون وفقاً لها الظاهرة، وشروط وجودها حتى تتأكد قيمته النظرية والعملية. فالعولمة تزيد من مستوى الترابط والتشبيك، وبالتالي التعقيد، عبر العالم، وتجلب معها سهولة انتقال الأموال والمنتجات والأفكار، وأيضاً الأزمات. غير أن العولمة تأتي أيضاً بالمصالح المشتركة والتعاون بين الأطراف، بما يمكنهم من إدارة الأزمات المعقدة. لقد تشكلت مجموعة العشرين عام 1999 على مستوى وزراء المالية، ثم تحولت منذ عام 2008 إلى مؤسسة قمة تجتمع سنوياً. هكذا سهل التعاون إدارة أزمات العولمة، وعندما تعطل التعاون ظهرت الأزمات المتراكبة المستعصية على الحل.
«البوليكريسيس» هي نتيجة فشل القوى الدولية الرئيسية في مواصلة التعاون، فلا هي تعمق التعاون بينها، ولا هي قادرة على الإبقاء على نفس مستوى كفاءة أداء مؤسسات التعاون القائمة. فعندما أخذت العولمة في التراجع، وضعفت قدرة أطراف النظام الدولي على التعاون، انطلقت حزم الأزمات المتراكبة، واحتجنا لصك مفهوم ومصطلح جديدين لوصفها وتحليلها. الأزمات المتراكبة هي، إذن، نتيجة لاتجاه العولمة ناحية الانحسار. فشبكات الإمداد، والنظم المالية والمصرفية وحركة السياحة والسفر واندماج الأسواق، كل هذا ما زال يعمل على الأقل بقوة الدفع وكميراث وصل لنا من زمن ازدهرت فيه العولمة، في حين أصبحت القوى الدولية الرئيسية عاجزة عن مواصلة التعاون من أجل إدارة شبكات الاعتماد المتبادل المعقدة هذه، بل ساد بينها الشك وعدم الثقة، ودخلت في صراعات حادة (الحرب في أوكرانيا والتنافس الاستراتيجي بين الصين والولايات المتحدة نموذجاً)، أصبحت ضمن مكونات حزمة الأزمات «البوليكريسيس»، التي تضرب العالم.
غياب الثقة، زيادة الشكوك، التنافس الاستراتيجي، سباق التسلح، عسكرة العلاقات بين القوى الكبرى؛ هذه هي آليات تكوين الأزمات المتراكبة، ليس لأنها تخلق الأزمات، ولكن لأنها تعطل التعاون الضروري لإدارتها، بما يتيح لها الفرصة للاستمرار والتكاثر والتفاعل.
لكل مفهوم عائلة فكرية ينتمي لها، ومفهوم «البوليكريسيس» ينتمي لتيار التشاؤم الذي يرى الحضارة الإنسانية مقبلة على أزمة كبرى. يجد هذه التيار أصوله لدى الاقتصادي الإنجليزي توماس مالتوس (ت 1834) الذي صدمه الازدياد السكاني السريع الذي شهدته أوروبا في مطلع العصر الحديث، فنشر في عام 1798 كتاباً شهيراً قال فيه بأن عدد السكان يزيد بمتوالية هندسية، فيما تزيد الموارد بمتوالية حسابية، وعند نقطة معينة تعجز الموارد عن مجاراة الاحتياجات المتزايدة. الجذر الأقرب لمفهوم «بوليكريسيس» يرجع إلى مطلع السبعينات عندما صدر تقرير حدود النمو عن المجموعة المعروفة بنادي روما. كتب واضعو تقرير حدود النمو أن «المشكلات التي تواجه البشرية شديدة التعقيد والتداخل بحيث إن المؤسسات والسياسات التقليدية لم يعد بإمكانها التعامل معها ولا حتى فهمها، وأن فشل البشرية في مواجهة هذه الأزمة ناتج بالأساس عن أننا نواصل دراسة عناصر الإشكالية منفردة، دون أن نفهم أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء، وأن التغيير في أحد العناصر يعني تغييراً في العناصر الأخرى». إنه تقريباً المنطوق نفسه الذي استخدمه أصحاب مفهوم «بوليكريسيس»، بما يؤكد الصلة الفكرية مع الجذر الذي تم وضعه في عام 1972 في تقرير حدود النمو.
اللافت هو تبني منتدى دافوس لهذه الرؤية المتشائمة. لقد اشتهر «دافوس» بعقيدة متفائلة، بشرت بالعولمة والتوسع الاقتصادي والاعتماد المتبادل والتوسع غير المحدود للأسواق، وتشجيع الدول على الالتحاق بالمنظومة الاقتصادية العالمية؛ لكن يبدو أن عصر التفاؤل هذا قد انتهى، وأن التشاؤم أصبح له أنصار أقوياء حتى في مجال الأعمال.
حتى التشاؤم يأتي في أنواع. هناك تشاؤم وظيفي، يؤدي مهمة التنبيه للمخاطر وزيادة جاهزيتنا للتعامل معها. النبوءات المتشائمة التي يطلقها متشائمون وظيفياً هي من نوع النبوءات التي تهزم نفسها لأنها تزيد قدرتنا على التغلب على تحديات بادئة. هناك تشاؤم آيديولوجي، يرى أنصاره أن العالم مقبل على كارثة طالما استمرت أوضاع معينة سياسية واقتصادية. أغلب أنصار هذا التيار نجدهم بين نقاد الرأسمالية، الذين يرونها مصدراً لخراب الكوكب وضياع البشرية، التي لا أمل لها بغير تجاوز النظام الرأسمالي. هناك متشائمون ميتافيزيقيون يؤمنون بأن للكون نهاية، وأنها حادثة لا محالة، سواء كان هذا بسبب كارثة بيئية أو حرب نووية. فهل يكون تشاؤم «البوليكريسيس» من النوع الوظيفي الذي يساعدنا على الانتصار على المخاطر، أم أن هذا رأي متفائل بأكثر مما يسمح به الحال؟
* باحث مصري



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.