الخرطوم: احتدام معركتي «القيادة العامة» والقصر الرئاسي

قبل ساعات من «هدنة إنسانية هشة»... وآلاف المدنيين محاصرون في العاصمة

سكان الخرطوم يحاولون الفرار منها تحت القصف أمس (أ.ف.ب)
سكان الخرطوم يحاولون الفرار منها تحت القصف أمس (أ.ف.ب)
TT

الخرطوم: احتدام معركتي «القيادة العامة» والقصر الرئاسي

سكان الخرطوم يحاولون الفرار منها تحت القصف أمس (أ.ف.ب)
سكان الخرطوم يحاولون الفرار منها تحت القصف أمس (أ.ف.ب)

اشتدت حدة المعارك في السودان، لليوم الرابع على التوالي أمس، بين الجيش وقوات «الدعم السريع»، إذ استخدم الجيش سلاح الطيران في قصف مكثف على مقر القيادة العامة للجيش حيث سيطرت على أجزاء منه قوات «الدعم السريع». واشتدت المعركة في محيط القيادة العامة، قبل ساعات من بدء هدنة لمدة 24 ساعة، وافق عليها الطرفان بوساطة من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، الذي اتصل بقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان، وقائد «الدعم السريع» الفريق محمد حمدان دقلو «حميدتي».
وأعلن بلينكن أنه حضّ كلاً من البرهان وحميدتي، في اتصالين هاتفيين، على «الموافقة على وقف لإطلاق النار مدته 24 ساعة للسماح للسودانيين بلمّ شملهم بأمان مع عائلاتهم والحصول على إمدادات الإغاثة التي تمس الحاجة إليها». كما اتصل بلينكن أيضاً بكل من وزيري الخارجية؛ السعودي الأمير فيصل بن فرحان، والإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد، لهذه الغاية. وأعلن الطرفان المتحاربان في السودان موافقتهما على هدنة لمدة 24 ساعة، جاءت بعد التدخل الأميركي واتصالات لدول في الإقليم لتخفيف الضغط على المدنيين المحاصرين وسط القتال الدائر منذ أيام.
- قصف جوي
في غضون ذلك، قصف الطيران الحربي للجيش مواقع حول القيادة العامة للجيش والقصر الرئاسي وسط العاصمة الخرطوم، بزعم سيطرة قوات «الدعم السريع» عليها، التي بدورها تصدت بالمضادات والقذائف المحمولة للطائرات أثناء عبورها الأجواء فوق تلك المواقع الاستراتيجية. وتواصلت العمليات الحربية العنيفة لليوم الرابع على التوالي؛ حيث وسّع الجيش السوداني من عملياته الجوية في المناطق التي تنتشر فيها قوات «الدعم السريع» بالخرطوم ومدن البلاد الأخرى.

ومنذ الصباح الباكر، تحلق طائرات الجيش السوداني فوق مناطق متفرقة من مدن العاصمة السودانية المثلثة: الخرطوم، وأم درمان، وبحري. وسمع دوي الضربات الجوية المتواصل بقوة في الأحياء المتاخمة لمقر القيادة العامة للجيش في وسط الخرطوم، الذي أعلن في وقت سابق عن اعتزامه توجيه ضربات عسكرية محددة حول المقر، تستهدف قوات الدعم السريع.
وقالت مصادر محلية لـ«الشرق الأوسط» إن طائرات الجيش نفذت ضربات على معسكرات ومواقع تابعة لقوات «الدعم السريع» في مدينة أم درمان، ونشر نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي فيديوهات وصوراً لحرائق وألسنة اللهب تتطاير في تلك المواقع.
- معركة القصر الرئاسي
وفي موازاة ذلك، احتدمت الاشتباكات أيضاً بين الجيش و«الدعم السريع» في محيط القصر الجمهوري الرئاسي بالخرطوم، بالإضافة إلى استهدافه بالطيران. ونشرت الصفحة الرسمية لـ«الدعم السريع» على منصة «فيسبوك» مقاطع مصورة لقواته داخل القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش.
وبحسب بيانات الجيش السوداني، فإنه يسعى إلى خوض معارك كبيرة خلال الساعات المقبلة في مواجهة قوات «الدعم السريع» التي تتحدث عن إحكام سيطرتها على مواقع عسكرية استراتيجية للجيش بالخرطوم، الذي بدوره يؤكد سيطرته على معظم المقار العسكرية، بما في ذلك القيادة والقصر الرئاسي. ومن المقرر أن تبدأ الهدنة الإنسانية مساء أمس، لمدة 24 ساعة، لكي تسمح للمواطنين بالتحرك وقضاء حاجاتهم، وسط شكوك بين المدنيين بالتزام الطرفين بالهدنة. وأعلنت الأمم المتحدة أمس بحسب بعثتها في السودان «يونتامس» مقتل 185 وإصابة أكثر من 1000 شخص وسط المدنيين، منذ اندلاع الاشتباكات يوم السبت الماضي، فيما تتحدث منظمات وهيئات طبية محلية عن سقوط أعداد أكثر. وأثناء ذلك، أعلن قائد الدعم السريع «حميدتي» الموافقة على هدنة لمدة 24 ساعة، كما أعلن عضو مجلس السيادة، الفريق شمس الدين كباشي، قبول الجيش بالهدنة. إلا أن المتحدث الرسمي نفى علم الجيش بأي تنسيق مع الوسطاء والمجتمع الدولي حول هدنة، مشيراً إلى أن إعلان «التمرد» للهدنة بهدف التغطية على الهزيمة الساحقة التي سيتلقاها خلال ساعات.
- حشد القوات
وقال المتحدث الرسمي باسم الجيش، نبيل عبد الله، في بيان نشر على الصفحة الرسمية، في منصة «فيسبوك»: «نستغرب من حديث العدو عن هدنة، في ظل معلوماتنا المؤكدة لحشد قوة كبيرة في مدينة مروي بغرض تأمين هبوط طائرة مساعدات عسكرية من جهات إقليمية». وأضاف أن العدو يستنفر قواته من مدن دارفور (نيالا، الفاشر، الجنينة، الطينة) للحضور إلى العاصمة الخرطوم. وقال عبد الله، وفقاً للبيان: «دخلنا مرحلة حاسمة، وجهودنا منصبة نحو تحقيق غاياتها على المستوى العملياتي».

أعمدة الدخان تغطي سماء العاصمة أمس (رويترز)

وقالت قوات «الدعم السريع»، في بيان، أمس، إنه بناء على الاتصال المباشر بين قائدها «حميدتي» مع وزير الخارجية الأميركي، وجهود الدول الشقيقة والصديقة، وافقنا على وقف مؤقت لإطلاق النار وفتح مسارات آمنة لعبور المدنيين وإخلاء الجرحى لمدة 24 ساعة. وأكد قادة «الدعم السريع» التزام القوات بالتوجيهات الصادرة بشأن الهدنة المؤقتة، اعتباراً من فجر اليوم.
واتهمت قوات «الدعم السريع»، في بيان، الجيش بعدم الالتزام بالهدنة، وأن طائراته توجه ضربات داخل المناطق المأهولة بالسكان، واعتبرت ذلك تجاوزاً سافراً لأسس ومبادئ القانون الدولي والإنساني. وأشارت إلى أن الطيران الحربي التابع للجيش وجّه ضربة عسكرية استهدف بها مركزاً طبياً لقوات «الدعم السريع» في ضاحية شمبات السكنية بمدينة بحري، إحدى المدن الثلاث للعاصمة الخرطوم. وأوضحت أن الضربة الجوية استهدفت المركز، وبداخله أسرى من الجيش السوداني، وعدد من المصابين من العسكريين والمدنيين الذين يتلقون المساعدات الطبية والإنسانية.
- بعثة الأمم المتحدة
وكان رئيس بعثة الأمم المتحدة بالسودان، فولكر بيرتس، كشف في مؤتمر صحافي عقب إحاطته لمجلس الأمن الدولي، أمس، عن أن الطرفين؛ الجيش و«الدعم السريع» لم يلتزما بهدنة لفتح مسارات آمنة للمدنيين لمدة ساعات يومياً من الساعة 4 عصراً إلى 7 مساء للحالات الإنسانية. وأعلن الجيش السوداني عن توسيع نطاق عملياته بعد أن نجحت قوات المرحلة الأولى في امتصاص الصدمة وتأمين الموقف، وأن الظروف مهيأة للانتقال للمرحلة التالية بقوات جديدة.
وبالتزامن مع العمليات العسكرية الميدانية، أصدرت وزارة الخارجية السودانية بيان مناشدة للمجتمع الدولي، ممثلاً في الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وجميع المنظمات الإقليمية، بإدانة «تمرد قوات الدعم السريع على القوات المسلحة، بوصفها المؤسسة الرسمية الشرعية المسؤولة عن الاستقرار في السودان». وقالت، في بيان: «ندعو الأمم المتحدة لإدانة القوات المتمردة لانتشارها واستمرارها في القتال في المدن والمناطق السكنية. الأمر الذي يعرض المدنيين بما فيهم النساء والأطفال للخطر». وكان قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان أصدر قراراً بالعفو عن كل من يضع السلاح من ضباط وجنود «ميليشيا الدعم السريع، واستيعابهم في القوات المسلحة اعتباراً من تاريخ التبليغ».
- تحالف «الحرية والتغيير»
من جانبها، قالت قوى الحرية والتغيير في السودان، في بيان لها، أمس (الثلاثاء)، إنها على تواصل مع القوات المسلحة وقوات الدعم السريع حول أحكام الهدنة الإنسانية. ودعا بيان قوى الحرية والتغيير إلى «عدم التهاون مع الانتهاكات التي تحدث ومحاسبة مقترفيها». كما شددت «الحرية والتغيير» على ضرورة تكاتف كل القوى المحلية والدولية لمعالجة «الكارثة الإنسانية» التي نتجت عن اندلاع المعارك في السودان، وأكدت على ضرورة «التزام القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع بتيسير الوصول للمستشفيات والمرافق الرئيسية وتوفير المساعدات الإنسانية والخدمات الأساسية». كما دعا البيان إلى ضرورة عزل خطابات من وصفهم «فلول النظام البائد»، التي قال إنها تنشر «خطابات تأجيج الحرب وإشعالها رغبة في العودة للسلطة».
ويقضي سكان الخرطوم، الذين يعيشون حالة ذعر، آخر أيام رمضان، وهم يشاهدون من نوافذهم الدبّابات تجوب الشوارع، بينما تهتزّ المباني ويتصاعد الدخان نتيجة الحرائق التي تسبّبت بها المعارك. ويجد الأشخاص المضطرون لمغادرة منازلهم أنفسهم وسط طوابير طويلة للحصول على الخبز والوقود في المتاجر والمحطات التي ما زالت تفتح أبوابها، في ظلّ انقطاع للكهرباء.


مقالات ذات صلة

الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

شمال افريقيا الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

كثَّفت المملكة العربية السعودية، جهودَها الدبلوماسية لوقف التصعيد في السودان، إلى جانب مساعداتها لإجلاء آلاف الرعايا من أكثر من مائة دولة عبر ميناء بورتسودان. وأجرى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أمس، اتصالات هاتفية، مع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ووزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف، بحث خلالها الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف السودانية، وإنهاء العنف، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين، بما يضمن أمنَ واستقرار ورفاه السودان وشعبه.

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

بعد 3 أيام عصيبة قضتها المسنة السودانية زينب عمر، بمعبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان، وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على غر

شمال افريقيا الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

أعلنت الأمم المتحدة، الخميس، أنها تحتاج إلى 445 مليون دولار لمساعدة 860 ألف شخص توقعت أن يفروا بحلول أكتوبر (تشرين الأول) المقبل من القتال الدامي في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأطلقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين هذا النداء لجمع الأموال من الدول المانحة، مضيفة أن مصر وجنوب السودان سيسجّلان أكبر عدد من الوافدين. وستتطلب الاستجابة للأزمة السودانية 445 مليون دولار حتى أكتوبر؛ لمواجهة ارتفاع عدد الفارين من السودان، بحسب المفوضية. وحتى قبل هذه الأزمة، كانت معظم العمليات الإنسانية في البلدان المجاورة للسودان، التي تستضيف حالياً الأشخاص الفارين من البلاد، تعاني نقصاً في التمو

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

وجّه الصراع المحتدم الذي يعصف بالسودان ضربة قاصمة للمركز الرئيسي لاقتصاد البلاد في العاصمة الخرطوم. كما عطّل طرق التجارة الداخلية، مما يهدد الواردات ويتسبب في أزمة سيولة. وفي أنحاء مساحات مترامية من العاصمة، تعرضت مصانع كبرى ومصارف ومتاجر وأسواق للنهب أو التخريب أو لحقت بها أضرار بالغة وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه، وتحدث سكان عن ارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. حتى قبل اندلاع القتال بين طرفي الصراع في 15 أبريل، عانى الاقتصاد السوداني من ركود عميق بسبب أزمة تعود للسنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق عمر البشير واضطرابات تلت الإطاحة به في عام 2019.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

دعوات «إلزامية الحجاب» تفجر صراعاً مجتمعياً في ليبيا

تواجه دعوات تحجيب النساء «جبراً» رفضاً لفكرة «تقييد الحريات» في مجتمع غالبية نسائه أصلاً من المحجبات (أ.ف.ب)
تواجه دعوات تحجيب النساء «جبراً» رفضاً لفكرة «تقييد الحريات» في مجتمع غالبية نسائه أصلاً من المحجبات (أ.ف.ب)
TT

دعوات «إلزامية الحجاب» تفجر صراعاً مجتمعياً في ليبيا

تواجه دعوات تحجيب النساء «جبراً» رفضاً لفكرة «تقييد الحريات» في مجتمع غالبية نسائه أصلاً من المحجبات (أ.ف.ب)
تواجه دعوات تحجيب النساء «جبراً» رفضاً لفكرة «تقييد الحريات» في مجتمع غالبية نسائه أصلاً من المحجبات (أ.ف.ب)

وجدت دعوات تحجيب النساء «جبراً»، التي تنتصر لها السلطة في العاصمة الليبية، عدداً من المؤيدين، لكنها خلقت أيضاً تياراً واسعاً من الرافضين لفكرة «تقييد الحريات» في مجتمع غالبية نسائه أصلاً من المحجبات.

فبعد إعلان السلطة، ممثلة في عماد الطرابلسي، وزير الداخلية بحكومة «الوحدة» المؤقتة، عن إجراءات واسعة ضد النساء، من بينها «فرض الحجاب الإلزامي»، بدت الأوضاع في ليبيا متجهة إلى التصعيد ضد «المتبرجات»، في ظل صراع مجتمعي محتدم.

بين الرفض والقبول

تفاعل الشارع الليبي بشكل متباين مع تصريحات الطرابلسي، بين من رفضها جملة وتفصيلاً، ومن قال إنه «ينفذ شرع الله ويسعى لنشر الفضيلة»، في وقت شرعت فيه أجهزة أمنية في إغلاق صالات رياضية ونوادٍ نسائية، بينما لم تعلّق سلطات البلاد، ممثلة في المجلس الرئاسي أو «الوحدة»، على هذا الأمر، وهو ما عده مقربون منهما «رضاً وقبولاً» بما تعهد به الطرابلسي.

الدبيبة والمنفي لم يعلّقا على تصريحات الطرابلسي (المجلس الرئاسي الليبي)

وبين هذا التيار وذاك، ظهرت شكاوى من التضييق والتحريض ضد «متبرجات»، أعقبتها دعوات للنائب العام بضرورة التدخل لحمايتهن وتفعيل القانون. وأمام تصاعد هذا الاتجاه الذي حذرت منه منظمات دولية، عدّت زهراء لنقي، عضو ملتقى الحوار السياسي الليبي، أن الهدف منه «إشغال الناس عن القضايا الجوهرية، مثل الفساد المالي والإداري وتهريب الأموال».

وقالت الزهراء لـ«الشرق الأوسط» إن هذا التوجه «يأتي ضمن سلسلة من الإجراءات التي تفعلها حكومة (الوحدة) بين الحين والآخر، في إطار توجّه منهجي لعودة المنظومة الأمنية القمعية، وكبت الحريات العامة، وملاحقة المجتمع المدني عبر توظيف خطاب متشدد».

منظمة «العفو الدولية» قالت إن تصريحات الطرابلسي من شأنها «ترسيخ التمييز ضد النساء» (وزارة الداخلية)

وسبق لمنظمة «العفو الدولية» القول إن تصريحات الطرابلسي من شأنها «ترسيخ التمييز ضد النساء والفتيات، والانتقاص من حقوقهن في حرية التعبير والدين، والمعتقد والخصوصية الجسدية، بما في ذلك خطط لإنشاء شرطة الأخلاق لفرض الحجاب الإلزامي».

من جهته، عدّ جمال الفلاح، رئيس «المنظمة الليبية للتنمية السياسية»، أن هذه الإجراءات «قسّمت المجتمع بين جماعة مؤيدة، وأخرى تعد هذا التوّعد إهانة للمرأة الليبية، التي ترفض فرض الحجاب عليها بالقوة».

وقال الفلاح الذي يرى أن المرأة الليبية «قيادية ورائدة في مجالات عدة»، لـ«الشرق الأوسط»: «إذا كنا نتحدث عن الأخلاق والفضيلة، فليبيا اليوم تعج بالربا وفساد السلطة والمسؤولين، بالإضافة إلى الرشى في أوساط من هم في السلطة؛ ولذلك كان من الأولى التركيز على قضايا الرشوة والابتزاز والقتل خارج القانون».

جمال الفلاح رئيس المنظمة الليبية للتنمية السياسية (الشرق الأوسط)

وكان الطرابلسي قد قال في مؤتمر صحافي في السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، باللهجة الليبية: «نلقى واحد مقعمز (جالس) هو وبنت برقدهم في الحبس، والبنت بترقد هي وأهلها في الحبس. والنساء اللي تسوق من غير ستر شعرها بنستلم منها السيارة... لا نعرف زميل لا صديق لا شريك لا موظف».

وسيلة للإلهاء

أمينة الحاسية، رئيس مجلس إدارة ملتقى التغيير لتنمية وتمكين المرأة، ربطت بين توجه سلطات طرابلس لتفعيل الحجاب «جبراً»، والأزمة السياسية في البلاد، وهو ما ذهبت إليه أيضاً لنقي.

تقول الحاسية لـ«الشرق الأوسط»: «عادة ما يضع المسؤولون في ليبيا المرأة في مكان بين السياسة والدين؛ ولو تريد الدولة حقاً المحاسبة فعليها أن تبدأ أولاً بمواجهة الفساد، وتدع المرأة وشأنها»، مضيفة: «هم الآن في وضع سياسي سيئ».

زهراء لنقي عضو ملتقى الحوار السياسي الليبي (الشرق الأوسط)

وعدت لنقي التركيز على المرأة وزيها وشعرها «زوبعة يستهدفون الإلهاء من ورائها»، معتقدة أن حكومة طرابلس «تسعى لأن تكون سلطة دينية وهي ليست كذلك... و 90 في المائة؜ من الليبيات تقريباً يرتدين الزي نفسه داخل ليبيا. هذه في رأيي زوبعة للإلهاء عن القضايا الجوهرية لا أقل ولا أكثر».

حماية الآداب العامة

غير أن صمت السلطة حيال ما ذهب إليه الطرابلسي توقف بعد قرار أصدره الدبيبة، وتم تداوله على نطاق واسع، وهو القرار الذي قضى باستحداث إدارة بالهيكل التنظيمي لوزارة الداخلية، تسمى «الإدارة العامة لحماية الآداب العامة».

وحدد القرار، الذي لم تنفه حكومة الدبيبة، مهام إدارة «حماية الآداب العامة»، من بينها ضبط الجرائم التي ترتكب في الأماكن العامة، والمقاهي والمطاعم ودور العرض والفنادق، وغيرها من الأماكن العامة أو المخصصة للارتياد العام بالمخالفة للتشريعات الخاصة بحماية الآداب العامة، ومكافحة الأفعال التي تتنافى مع توجهات المجتمع، وتسيء إلى قيمه وأخلاقه ومبادئه، وتطبيق التشريعات النافذة، بالإضافة إلى القيام بأعمال البحث والتحري، وجمع الاستدلال في الجرائم المتعلقة بالآداب العامة.

وتوجه مقربون من الإعلامية الليبية، زينب تربح، ببلاغ إلى النائب العام، بعد شكايتها في مقطع فيديو من مضايقات وهي تقود سيارتها من طرف مجهولين لكونها حاسرة الرأس، وقالت إيناس أحمدي، إحدى المقربات من الإعلامية، إن تربح «تتعرض لحملة شرسة من العنف والتعدي»، مشيرة إلى أن الحملة «ما زالت في بدايتها، وما زالت تأخذ أشكالاً أكثر تعنيفاً دون أي رادع».

وانتشر على تطبيق «تيك توك» تأييد واسع لرغبة سلطة طرابلس في تفعيل الحجاب، كما أسبغ بعض المعجبين على الطرابلسي أوصافاً عديدة، تعود لشخصيات تاريخية، وعدّوه «حامياً للإسلام والأخلاق». وهنا تلفت الحاسية إلى «تغول التيار الديني في غرب ليبيا، وتأثيره على من هم في السلطة، لما يملكه من مال وسلاح وميليشيات»، وقالت بهذا الخصوص: «أصبحت هناك حالات تعد على صالات الرياضة والنوادي النسائية بالقوة، وقد حاولوا أن يغلقوها بحجج كثيرة، من بينها الدين والحجاب. وربما نقول إن الطرابلسي له علاقة بهذه التشكيلات المسلحة وهذا التوجه الديني».

أمينة الحاسية في لقاء سابق مع سيتفاني ويليامز (الشرق الأوسط)

ووسط تباين مجتمعي، يراه كثيرون أنه سيتفاعل في قادم الأيام كلما تعددت حالات التضييق على «المتبرجات»، قالت المحامية الليبية ثريا الطويبي، إن ما ذهب إليه الطرابلسي، «جاء مخالفاً للإعلان الدستوري، الذي نص على حماية الحقوق وصيانة الحريات». مضيفة لـ«الشرق الأوسط»: «يعد لباس المرأة من الحقوق والحريات الشخصية، ما لم يكن فاضحاً أو خادشاً للحياء العام، وليس من اختصاص وزير الداخلية وضع القيود على لباس المرأة، أو تنقلها وسفرها للخارج».

المحامية الليبية ثريا الطويبي (الشرق الأوسط)

واتساقاً مع ذلك، تعتقد الحاسية أن ليبيا تعيش راهناً في فوضى، ومواجهة من تيار ديني يريد الهيمنة على زمام الأمور والقوانين ودسترة هذه المشكلات، لكنها قالت جازمة: «الليبيون والليبيات سيرفضون هذا الإلزام، إلا لو فرض عليهم بقوة السلاح».