النظر إلى الوجود البشري من بوّابة الذكاء الصناعي

لوغر يقدم «سياحة فلسفية في عالم الأفكار المضيئة» في كتاب من ثلاثة أجزاء

جورج ف. لوغر
جورج ف. لوغر
TT

النظر إلى الوجود البشري من بوّابة الذكاء الصناعي

جورج ف. لوغر
جورج ف. لوغر

نعيشُ هذه الأيام عصراً غير مسبوق، تبدو فيه البشرية وقد ولجت أولى البوّابات التي قد تؤدّي بنا إلى عصر المتفرّدة التقنية Technological Singularity التي تبشّرُ بها التطورات التقنية المتسارعة في الذكاء الصناعي، وهي تطوّرات لم تأتِ مفاجئة أو غير متوقّعة، بل كانت مدار كشوفات بحثية معمّقة منذ عقود بعيدة.
لعلّنا نعرفُ جميعاً بعض طبيعة الكلام الذي يثارُ حول الفتوحات التقنية المستجدة في حقل الذكاء الصناعي، وهي فتوحات عنوانها الأشمل «روبوتات المحادثة» على شاكلة ChatGPT الذي طوّرته شركة OpenAI إحدى الأذرع التقنية للعملاق الرقمي «مايكروسوفت». إنّ تطوير روبوتات المحادثة إلى حدود معقولة، وبغضّ النظر عن مدى بدائيتها الحالية، يعني أنّ البشرية قد تكون على عتبة تحقيق المعايير الأولى للذكاء الصناعي الآلاتي؛ أي بمعنى القدرة على تخليق آلات تمتلك بعض القدرات المناظرة للقدرات البشرية من حيث التفكير التحليلي المُسَبب، والمساءلة المنطقية، والقدرة على التعامل مع المعطيات واستخلاص قيمة مفيدة منها، يمكن أن تكون عنصراً مؤثراً في توجيه العقل البشري «البيولوجي». يمكن أن نسمّي هذه العتبة «عتبة تورنغ» Turing Thtreshold، التي وصفها العالم الحاسوبي والرياضياتي البريطاني الأشهر، آلان تورنغ، أفضل وصف في مقايسته الصارمة: «إذا ما كان البشر يتعاملون مع مصدر ما عبر جهاز حاسوب (مثلاً) ولم يستطيعوا التمييز بين –أو معرفة– أنّ ما يتعاملون معه هو كائن بشري أم آلة فعندئذ نستطيع الحديث عن عصر آلات ذكية». لا بد للقارئ الشغوف بمعرفة شيء معقول عن الأساسيات المحرّكة لعالمنا من الوجهة التقنية، وبخاصة في الجبهة القائدة لهذه الأساسيات، وهي الذكاء الصناعي، من معرفة بعض الشيء عن عمل آلان تورنغ في أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها، وبخاصة مقايسته الشهيرة «مقايسة تورنغ» بشأن تحديد معيار، تكون عنده الآلات ذكية.

يكمن التميّز الهائل الذي تختصّ به الآلات الذكية بالمقارنة مع البشر، وبغضّ النظر عن مديات ذكائها، في خصيصتين اثنتين؛ قدرتها على التعامل مع البيانات الكبيرة Big Data، وسرعة معالجة هذه البيانات بمعدلات تفوق كثيراً سرعة المعالجة البشرية. في المقابل، لا يزال البشر يحتكرون بعض الخواص الإبداعية التي بقيت خارج نطاق التعامل الآلاتي، وإن كان كثير من خبراء الذكاء الصناعي يرون أنّ هذه المعضلة ليست سوى مسألة وقت، قبل أن تتمكّن الآلات من ولوج الفضاء الإبداعي الذي ظلّ احتكاراً بشرياً خالصاً.
يمثل الذكاء الصناعي في عصرنا الحاضر «ملعبة» اشتباك معرفي أكثر تعقيداً من أي حقل تقني آخر. لم أزل أذكر تلك المقالة «الرؤيوية» الرائعة التي كتبها الفيزيائي وأحد مطوّري الذكاء الصناعي، ديفيد دويتش David Deutsch، عام 2012 في صحيفة «الغارديان» بعنوان «الفلسفة ستكون المفتاح الذي يفكّ مغاليق الذكاء الصناعي»؛ حيث العبارة الافتتاحية تقول بكيفية تنمّ عن رؤية استبصارية كاشفة: «الذكاء الصناعي ممكن؛ لكنّ الأمر سيحتاج أكثر من علوم الحاسوب والعلوم العصبية لتطوير آلات تفكّر مثل البشر».
«لا فعلَ مؤثراً يمكن أن يتحقق من غير معرفة حقيقية وجادة بالأصول والمنابع الفكرية والفلسفية». أوقنُ كثيراً بصوابية هذه العبارة وقيمتها الإجرائية الفاعلة. لا أحد منّا سيمتلك القدرة على التطوير والتغيير من غير معرفة رصينة، لا تقتصر على الحيثيات التقنية، بل ترتفع إلى مديات التخوم التاريخية والفلسفية للموضوعات المبحوثة. المعرفة توفّرُ الشغف اللازم للاستمرارية في البحث والتطوير والتطلّع إلى مستقبل أفضل من حيث إمكانات العيش على الصعيد الفردي، ومكانة البلد الاستراتيجية على الصعيد الجمعي.
كُتِبَ كثير من الكتب حول الذكاء الصناعي بكلّ تفريعاته البحثية، وقد سبق لي أن تناولتُ بالمراجعة في ثقافية «الشرق الأوسط» أكثر من كتاب منها. وهي في المجمل كتب يمكن تبويبها في فئتين؛ كتب تقنية خالصة، أو كتبٌ وصفية لبيئة العيش في أماكن يسودها الذكاء الصناعي (العادي أو العميق). يضاف إلى ذلك أنّ معظم الكتب السائدة كتبها أناسٌ خبراء أو مهندسون تقنيون يهتمون بالتفاصيل الإجرائية الدقيقة (لغات برمجية، نظم خبيرة... إلخ) أكثر من الصورة البانورامية التاريخية والفلسفية لما يمكن أن يكون عليه الذكاء الصناعي في المستقبل القريب والبعيد. أعتقد من واقع خبرة قرائية معقولة ومقارنة للكتب المنشورة أنّ مَنْ تناول «موضوعة» الذكاء الصناعي بكتاب أو أكثر، وكان سبق له أن نشر كتاباً منهجياً Textbook، ربما يكون أقدر من غيره في مقاربة الموضوعات البحثية وعرضها في سياق فلسفي - تاريخي جذاب وشديد الإمتاع.
أحد أهمّ البحّاثة الخبراء في موضوعة الذكاء الصناعي بكلّ جوانبها التقنية والمعرفية والفلسفية هو جورج ف. لوغر George F. Luger، المولود عام 1940، الذي تقاعد عن عمله أستاذاً مميزاً في قسم الحاسوب بجامعة نيومكسيكو عام 2013. لندققْ بعض الشيء في خبرات لوغر؛ حصل على شهادتي ماجستير في الرياضيات الصرفة والتطبيقية، ثم حصل على شهادة دكتوراه من جامعة بنسلفانيا عام 1973. أعقبها بـ5 سنوات بحثية لما بعد الدكتوراه في جامعة إدنبرة بأسكوتلندا حيث ساهم في تطوير كثير من أوائل النظم الخبيرة Expert Systems، وكذلك تطوير لغة البرولوغ، وهي إحدى اللغات الخاصة بالبرمجة الحاسوبية. عندما انضمّ لوغر إلى قسم الحاسوب بجامعة نيومكسيكو، حرص أن يكون أيضاً أستاذاً في كلّ من قسمي علم النفس واللغويات، هذا ما يعكسُ شغفه البحثي المشتبك والمتداخل، وتلك هي الخصيصة اللازمة لكلّ من يسعى لعمل بحثي رصين في ميدان الذكاء الصناعي. كتب لوغر كتابه المنهجي ذائع الصيت في أقسام علوم الحاسوب والذكاء الصناعي، وعنوانه «الذكاء الصناعي... البنى والاستراتيجيات لحلّ المسائل المعقّدة» Artificial Intelligence: Structures and Strategies for Complex Problem Solving الذي صدرت طبعته السادسة منذ سنوات قريبة.
أحدثُ كتب لوغر هو كتابه «معرفة عالمنا... منظورٌ من الذكاء الصناعي» Knowing Our World: An Artificial Intelligence Perspective الذي نشرته دار «سبرنغر» عام 2022.
هذا الكتاب سياحة فلسفية في عالم الأفكار المضيئة، ستجعلك قراءته تدرك أنّ الأفكار التي نحسبها عادية إنما يمكن أن تكون منصّة شروع لأفضل وأرقى التطويرات التقنية والعلمية.
يبدأ لوغر كتابه بمقدمة تغلب عليها المساءلة الفلسفية للتاريخ البشري. يكتب في سطوره الأولى: «ولدْتُ مثل كثيرين منّا واقعياً ساذجاً، مؤمناً بأنّ حواسنا توفّرُ لنا إدراكاً مباشراً بالأشياء كما هي في حقيقتها. وثّق كثير من علماء النفس والفلاسفة العمليات التطوّرية التي يخوضها الأطفال العاديون نحو معرفة أنفسهم وعالمهم...»، ثم يمضي في القول: «كانت ثمة تحدياتٌ مهمة في الطريق. التقليد الوجودي دَعَمَ الشكوكية ما بعد الحداثية وما بعد البنيوية، وعلى أساس هذه الرؤية الوجودية فإنّ الأساس المكين ذاته الذي أقامت عليه الثقافات الغربية أفكارها عن المعرفة والحقيقة والمعنى باتت خاضعة للمراجعة والتمحيص. حلّت حقبة من النسبوية العدمية راحت تخترق الأفكار التي وَعَدَ بها عصرُ الإنسانية والتنوير...».
تصوّرْ! هذه اللغة الفلسفية الرفيعة والجذابة في مقدّمة كتاب يتناولُ الذكاء الصناعي من جانب قدرته على إعادة تشكيل رؤيتنا لعالمنا.
ينطلق لوغر بعد مقدمته الفلسفية المشرقة في متن الكتاب الذي جعله في 3 أجزاء؛ الجزء الأوّل، وعنوانه «في البدء»، يتناول الأسس التاريخية والفلسفية لعملية تخليق البرامج الحاسوبية، وفكرة الاحتساب Computing ذاتها، وكيف بلغنا وضعنا الراهن في سياق تطور الذكاء الصناعي. سيمرّ القارئ على عناوين من شاكلة؛ ماري شيلي، فرانكشتاين وبروميثيوس، الفكر الإغريقي المبكّر، الإغريقيون الأواخر؛ أفلاطون وإقليدس وأرسطو، الفلسفة الحديثة ما بعد القروسطية. سيمرّ القارئ بحشود من الأسماء الفلسفية اللامعة كذلك؛ هوبز، لوك، هيوم، سبينوزا، كانت، ديوي... إلخ. أحبّ كثيراً هذه الطريقة التي تعرض المنجزات الفلسفية في سياق معرفي شامل بدلاً من أن تكون منجزات تبدو انفرادية متعالية على الشأن البشري وديناميات الحياة اليومية.
يخصص لوغر الجزء الثاني من كتابه للحديث عن الذكاء الصناعي الحديث والموضوعات المرتبطة به. أما في الجزء الثالث فيتناول تحديث المبدأ الواقعي Realism بمقاربات مستمدّة من الموضوعات البحثية الأكثر تداولاً في الذكاء الصناعي المعاصر.
أظنُّ أنّ لي شغفاً عارماً بالذكاء الصناعي منذ سنوات ليست بالقليلة؛ لكنّ متعة قراءة كتاب لوغر «معرفة عالمنا» لا سابقة لي بها في كتب أخرى. لو أتيحت لي الفرصة والعزيمة لترجمة هذا الكتاب إلى العربية فسيكون هذا الفعل أفضل إشارة لأهمية هذا الكتاب في بناء الثقافة العربية المعاصرة التي يجب أن تكون مباحث الذكاء الصناعي أحد أعمدتها الأساسية.

معرفة عالمنا: منظورٌ من الذكاء الصناعي
Knowing Our World: An Artificial Intelligence Perspective
المؤلف: جورج ف. لوغر
George F. Luger
دار النشر: سبرنغر، 2022.



كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية
TT

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام، ولفت الانتباه؛ لأن رواية المانجا «أنستان» أو «الغريزة» لصاحبها المؤثر أنس بن عزوز، الملقب بـ«إنوكس تاغ» باعت أكثر من 82 ألف نسخة خلال 4 أيام. وهو إنجاز كبير؛ لأن القصّة الموجهة إلى جمهور من القرّاء الشباب قد خطفت المرتبة الأولى في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً من «الحوريات»، الرواية الفائزة بجائزة «الغونكور» لهذه السنة.

ولمن يستغرب هذا الرواج أو اهتمام دور النشر بالكُتاب المبتدئين من صنّاع المحتوى، فإن الظاهرة ليست بالجديدة؛ حيث إن كثيراً من المكتبات والمواقع أصبحت تخصّص رفوفاً كاملة لهذه النوعية من الكتب، كسلسلة «#فولوي مي» التابعة لدار «أشيت»، والتي تضم أعمالاً للمؤثرين تتوزع بين السّير الذاتية والقصص المصوّرة والتنمية البشرية والأسفار، وحتى الطبخ.

في فرنسا، أول تجربة من هذا القبيل كانت عام 2015، بكتاب «إنجوي ماري»، وهو السيرة الذاتية للمؤثرة ماري لوبيز المعروفة بـ«إنجوي فنيكس» (6 ملايين متابع على إنستغرام). وإن كان البعض لا يستوعب أن تكتب فتاة في سن العشرين سيرتها الذاتية، فقد يستغرب أيضاً النجاح التجاري الكبير الذي حصل عليه هذا الكتاب؛ حيث باع أكثر من 250 ألف نسخة، رغم الهجوم الشديد على الأسلوب الكتابي الرديء، حتى لقَّبتها مجلة «لي زنكوريبتبل» الثقافية متهكمة بـ«غوستاف فلوبير الجديد». شدّة النقد لم تمنع زملاءها في المهنة من خوض التجربة نفسها بنجاح؛ المؤثرة ناتو (5 ملايين متابع على يوتيوب) نشرت مع مؤسسة «روبرت لافون» العريقة رواية «أيقونة»، قدمت فيها صورة ساخرة عن عالم المجلات النسوية، وباعت أكثر من 225 ألف نسخة. وتُعدُّ دار نشر «روبرت لافون» بالذات الأكثر تعاوناً مع صناع المحتوى؛ حيث نشرت لكثير منهم.

في هذا السياق، الأكثر نجاحاً حتى اليوم كان كتاب التنمية البشرية «الأكثر دائماً+» لصاحبته لينا محفوف، الملقبة بـ«لينا ستواسيون» (5 ملايين متابع على إنستغرام) وباع أكثر من 400 ألف نسخة.

مجلة «لي زيكو» الفرنسية، تحدثت في موضوع بعنوان «صناع المحتوى؛ الدجاجة التي تبيض ذهباً لدور نشر» عن ظاهرة «عالمية» من خلال تطرقها للتجارب الناجحة لمؤثرين من أوروبا وأميركا، حملوا محتواهم إلى قطاع النشر، فكُلّلت أعمالهم بالنجاح في معظم الحالات. المجلة استشهدت بالتجربة الأولى التي فتحت الطريق في بريطانيا، وكانت بين دار نشر «بانغوين بوكس» والمؤثرة زوي سوغ (9 ملايين متابع على إنستغرام) والتي أثمرت عن روايتها الناجحة «فتاة على الإنترنت» أو «غور أون لاين»؛ حيث شهدت أقوى انطلاقة في المكتبات البريطانية بـ80 ألف نسخة في ظرف أسبوع، متفوقة على سلسلة «هاري بوتر» و«دافنشي كود».

المجلة نقلت بهذه المناسبة حكاية طريفة، مفادها أن توم ويلدون، مدير دار النشر، كان قد تعاقد مع المؤثرة بنصيحة من ابنته البالغة من العمر 12 سنة، والتي كانت متابعة وفيّة لها.

ومما لا شك فيه هو أن اهتمام دور النشر بأعمال المؤثرين يبقى مدفوعاً بالأرباح المادية المتوقعة، وهو ما أكده موضوع بمجلة «لوبوان» بعنوان «المؤثرون آلة لصنع النجاحات التجارية في قطاع النشر». كشف الموضوع عن أن تحويل المحتوى السمعي البصري لصناع المحتوى إلى الكتابي، أصبح بمثابة الورقة الرابحة للناشرين، أولاً لأنه يوفر عليهم عناء الترويج الذي تتكفل به مجتمعات المشتركين والمتابعين، وكل وسائل التواصل التابعة للمؤثرين، والتي تقوم بالعمل بدل الناشر، وهو ما قد يقلّل من خطر الفشل؛ بل قد يضمن الرواج الشعبي للعمل. ثم إنها الورقة التي قد تسمح لهم في الوقت نفسه بالوصول إلى فئات عمرية لم تكن في متناولهم من قبل: فجمهور المراهقين -كما يشرح ستيفان كارير، مدير دار نشر «آن كاريير» في مجلة «ليفر إيبدو»: «لم يكن يوماً أقرب إلى القراءة مما هو عليه اليوم. لقد نشرنا في السابق سِيَراً ذاتية لشخصيات من كل الفضاءات، الفرق هذه المرة هو أن المؤثرين صنعوا شهرتهم بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولهم جمهور جاهز ونشيط، وإذا كانت هذه الشخصيات سبباً في تقريب الشباب إلى القراءة، فلمَ لا نشجعهم؟».

شريبر: الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته

هذه المعطيات الجديدة جعلت الأوضاع تنقلب رأس على عقب، فبينما يسعى الكتاب المبتدئون إلى طرق كل الأبواب أملاً في العثور على ناشر، تأتي دور نشر بنفسها إلى صناع المحتوى، باسطة أمامهم السّجاد الأحمر.

وإن كان اهتمام دور النشر بصنّاع المحتوى لاعتبارات مادية مفهوماً -بما أنها مؤسسات يجب أن تضمن استمراريتها في قطاع النشر- فإن مسألة المصداقية الأدبية تبقى مطروحة بشدّة.

بيار سوفران شريبر، مدير مؤسسة «ليامون» التي أصدرت مذكرات المؤثرة الفرنسية جسيكا تيفنو (6 ملايين متابع على إنستغرام) بجزأيها الأول والثاني، رفض الإفصاح عن كم مبيعات الكتاب، مكتفياً بوصفه بالكبير والكبير جداً؛ لكنه اعترف في الوقت نفسه بلهجة ساخرة بأن الكتاب بعيد كل البعد عن مستوى «الغونكور» وبأن كاتبته لم تقرأ في حياتها كتاباً باستثناء الكتاب الذي كتبته؛ لكنها لم تدَّعِ يوماً أنها تكتب بأسلوب راقٍ، وكل ما كانت تريده هو نقل تجاربها الشخصية إلى الجمهور ليأخذ منها العبَر.

الناقد الأدبي والصحافي فريديك بيغ بيدر، كان أكثر قسوة في انتقاده لكتاب المؤثرة لينا ستواسيون، في عمود بصحيفة «الفيغارو» تحت عنوان: «السيرة الذاتية لمجهولة معروفة»؛ حيث وصف العمل بـ«المقرف» و«الديماغوجية»، مضيفاً: «بين الأنا والفراغ اختارت لينا ستواسيون الخيار الثاني». كما وصف الكاتبة الشابة بـ«بالجاهلة التي تعترف بجهلها»، منهياً العمود بالعبارة التالية: «147 صفحة ليس فيها سوى الفراغ، خسرتُ 19 يورو في لا شيء».

أما الناشر بيار سوفران شريبر، فقد قال في مداخلة لصحيفة «لوبوان»: «اتهمونا بنشر ثقافة الرداءة؛ لكن هذه النوعية من الكتب هي هنا لتلتقي بقرائها. إنهما عالمان بعيدان استطعنا تقريبهما بشيء سحري اسمه الكتاب. فلا داعي للازدراء».