هل كان هتلر مثقفاً؟

كانت مكتبته تضم 16 ألف كتاب

هل كان هتلر مثقفاً؟
TT

هل كان هتلر مثقفاً؟

هل كان هتلر مثقفاً؟

كم دهشت، بل وصعقت، عندما اكتشفت أن هتلر كان عاشقاً للكتب وقارئاً نهماً لا يشبع! في البداية لم أكد أصدق عيني حتى تعمقت في الموضوع مؤخراً وتوقفت عنده. بعد أكثر من سبعين سنة على سقوط النازية كنا نعتقد أننا نعرف كل شيء عن هتلر. فالمؤلفات التي نُشرت عنه في شتى لغات العالم لا تُعد ولا تُحصى. لم يتركوا شاردة وواردة في حياته إلا نقّبوا عنها ودرسوها وأشبعوها تمحيصاً وتدقيقاً. ولكن حتى الآن لم يفكر أحد في دراسة الموضوع التالي: علاقة هتلر بالثقافة والكتب. فهم يتهمونه بحرقها فإذا به مولع بها. والواقع أنه حرق منها الملايين، ولكنه جمع منها الآلاف أيضاً في مكتبته الخاصة. ما هي المطالعات التي شكّلت ثقافته وشخصيته؟
أول شيء نستخلصه هو أن هتلر كان مصاباً بعقدة النقص تجاه الثقافة والمثقفين بشكل عام. لماذا؟ ليس لأنه كان يكرههم على عكس ما نظن. وإنما لأنه كان يشعر بعقدة النقص تجاه المثقفين جداً أو الحائزين شهادات عليا؛ لأنه هو كان محروماً منها. لم يكن يحمل حتى شهادة البكالوريا! من يصدق ذلك؟ وبالتالي فكل ثقافته كوّنها بشكل عصامي معتمداً على نفسه. ولهذا السبب انخرط في اقتناء الكتب وقراءتها بكل حماسة لسد النقص. وعندما انتحر عام 1945 وجدوا في مكتبته الخاصة ما لا يقل عن ستة عشر ألف كتاب! وهو رقم كبير جداً بالنسبة لذلك الزمان، بل وحتى بالنسبة لزماننا. ولكن كيف كان يجد الوقت الكافي لإشباع هوايته في المطالعة أو عطشه للقراءة وهو على رأس الدولة؟ وأي دولة! أعظم دولة في ذلك التاريخ. في بعض اللحظات كان يهيمن على أوروبا، بل والعالم كله تقريباً. تقول لنا الأخبار بأنه كان ينتظر بفارغ الصبر حتى تنتهي آخر مواعيده الرسمية كل مساء، لكي يختلي في مكتبته مع إبريق كامل من الشاي فيطالع الكتب حتى ساعة متأخرة من الليل. ويقال بأنه كان يقرأ كتاباً واحداً كل ليلة! شيء عجيب. شيء لا يكاد يصدقه العقل. أنا المتفرغ كلياً للكتابة والمطالعة على مدار الساعة لا أستطيع أن أقرأ كتاباً كاملاً في اليوم. ربما قرأت نصفه أو ربعه لا أكثر. أقول ذلك وأنا لست رئيساً على أي شخص ولا على أي دولة ما عدا دولة نفسي وبالكاد! ولا أقود الجماهير ولا يخطر على بالي أن أشتغل في السياسة لحظة واحدة. ولا أعقد اجتماعات مع أي شخص اللهم إلا مع ذاتي. عصر السياسة لم يحن أوانه بعد. هذا عصر التفكير والتحليل والتعزيل الكبير. ربما أصبحت السياسة ممكنة في العالم العربي بعد عشرين أو ثلاثين سنة قادمة. السياسة الوحيدة الممكنة اليوم هي سياسة الفكر المبدع الخلاق:
لا تصلح الدنيا ويصلح أمرها
إلا بفكر كالضياء صراح
(بدوي الجبل متحدثاً عن المعري)
على أي حال، كان هتلر مولعاً بالقراءة والمطالعة إلى حد الهوس. كان مولعاً بقراءة السير الذاتية عن كبار الفاتحين في التاريخ: كنابليون، ويوليوس قيصر، والإسكندر المقدوني، وفريدريك الكبير الذي ربما كان آخر كتاب قرأه قبيل انتحاره في 30 أبريل (نيسان) عام 1945. ربما تساءلتم هنا: لكن ما هي أهم الكتب الأدبية التي كانت تحظى بإعجابه؟ أولاً: دون كيشوت، وروبنسون كروزو، ورحلات غوليفر، إلخ. كان يعدّ هذه الكتب من روائع الأدب العالمي. وكان يمتلك الأعمال الكاملة لويليام شكسبير الذي كان يضعه فوق غوته وشيلر رغم عصبيته الآرية الألمانية. وكان يتساءل أحياناً بغضب: لماذا أنجب عصر التنوير الألماني مسرحية «ناثان الحكيم» للفيلسوف ليسنغ التي تقص حكاية ذلك الحاخام الذي حاول المصالحة بين المسيحيين والمسلمين واليهود، هذا في حين أن شكسبير قدّم للعالم الصورة الحقيقية عن اليهودي، أي الصورة البشعة، من خلال مسرحيته الشهيرة «تاجر البندقية» وشخصية شايلوك المقززة؟. لهذا السبب؛ كان هتلر يفضّل شكسبير لأن هذه الفكرة كانت تتماشى مع كرهه الشديد؛ ليس فقط لليهود وإنما للساميين بشكل عام، ومن بينهم نحن العرب بالذات!
من هنا انقلابه على عصر التنوير وقيم التسامح والعقلانية والنزعة الإنسانية وكل إمكانية للمصالحة بين الأعراق البشرية والأديان المختلفة. من هنا عنجهيته الآرية وإشعاله كل النزعات الهيجانية اللاعقلانية التي اكتسحت ألمانيا في عهده وأدت إلى النتيجة الكارثية التي نعرفها.
هذا، وقد اطلع في الترجمة الألمانية على كتاب الصناعي الأميركي الشهير هنري فورد عن «اليهودي العالمي الكوسموبوليتي: مشكلة العالم الكبرى». وتأثر به كثيراً على ما يبدو. ونستنتج ذلك من خلال التعليقات الكثيرة التي كان يكتبها على هوامش الكتاب. وعموماً، كان يقرأ بنهم كل الأدبيات العنصرية التي كانت مسيطرة على عصره وتتخذ صفة الحقيقة العلمية المطلقة. كان ذلك بعد داروين ونظرية الاصطفاء الطبيعي والبقاء للأصلح، إلخ. كان يعتقد بأن الأعراق الدنيا ينبغي أن تنقرض لكي يخلو الجو فقط للأعراق العليا، وبالأخص العرق الآري الجرماني. هذا الفهم الخاطئ لداروين والنظرية البيولوجية الحديثة هو الذي أودى بهتلر وأفسد كل مشروعه السياسي لأنه أصبح مفرغاً من كل نزعة أخلاقية أو إنسانية. هنا يكمن مقتل هتلر بالضبط. وذلك لأنه لا يمكن أن ينجح أي مشروع سياسي قائم فقط على الكره والبغض واحتقار الآخرين. كل الحضارات البشرية العظمى ومنها حضارتنا العربية الإسلامية قامت على أكتاف الحب العارم والنزعة الإنسانية. وقد سقطت هذه النظرية البيولوجية العنصرية لحسن الحظ لاحقاً. ولكن اليمين المتطرف الأوروبي لا يزال متعلقاً بها بدليل نظرته السلبية عن العرب والسود مثلاً. فنحن في نظرهم من عرق أدنى غير صالح للحضارة. وسوف نظل همجاً متخلفين إلى أبد الدهر. فهناك أعراق بشرية خُلقت للحضارة وهناك أعراق لم تُخلق لها. هذا هو المنظور الأساسي الذي كان يخيم على عقل هتلر.
أما قصة تأثره بنيتشه وشوبنهاور وفيخته فمبالغ فيها جداً؛ لسبب بسيط: هو أن ثقافته الفلسفية كانت سطحية ولا تسمح له بفهم المقاصد العميقة لكبار الفلاسفة. كان يفهم الكتب السياسية والتاريخية، ولكن ليس الكتب الفلسفية العميقة التي تحتاج إلى اختصاص وتبحر. ولكن بما أنه زار بيت نيتشه واستقبلته أخته إليزابيث بكل حماسة وأهدته عصا الفيلسوف وأخذوا له صورة أمام تمثال أخيها العظيم، فإن الناس اعتقدوا بأنه كان نيتشوياً صرفاً! في الواقع، إن الدعاية النازية سطت على فلسفة نيتشه واستخدمتها لأغراضها الديماغوجية الغوغائية كما تفعل الحركات السياسية عادة مع كبار المثقفين. ومعلوم أن نيتشه كان وقتها في أوج شهرته ومجده. وكان قد مات مجنوناً منذ أكثر من ثلاثين سنة عندما زار «الفوهرر» بيته ومتحفه وتمسح بركابه وادعى أنه من تلامذته المعجبين! نقول ذلك ونحن نعلم أن شهرة نيتشه انفجرت بعد موته كالقنبلة الموقوتة.
أما في حياته فلم يكترث له أحد ولم يُنشر عن كتبه العبقرية المتتالية شيء يذكر في الصحف. ولم يُبع منها إلا بضع نسخ، وهكذا ظلت ملقاة على الرفوف حتى تلفت أو كادت. وكان ينشرها على نفقته الخاصة رغم فقره وتعتيره. ولكن بعد موته أصبحت تُطبع بالملايين! تصوروا لو أن نيتشه عاش بما فيه الكفاية لكان قد أصبح مليونيراً أو مليارديراً فقط من مبيعات كتبه. من هنا نفهم سر عبارته الشهيرة: «هناك أناس يولدون بعد موتهم»! كان يعرف أن لحظته آتية لا ريب فيها، ولكنه لن يكون هنا لكي يستمتع بثمار شهرته وعبقريته. مسكين نيتشه!
على أي حال كل الشهادات التي نقلت إلينا تدل على أن هتلر كان يفضل رفقة الكتب على رفقة البشر، وتضييع الوقت في الثرثرة مع هذا أو ذاك كما يفعل الآخرون. كانت تنطبق عليه كلمة المتنبي: وخير جليس في الزمان كتاب! ولكن مشكلته هي أن قراءاته كانت متبعثرة ومتشتتة أكثر من اللزوم.
أخيراً، لا بد من طرح هذا السؤال: كيف استطاع شخص نكرة، ضائع، عاطل عن العمل، متسكع في الشوارع، جائع، مثل هتلر، أن يصبح في ظرف سنوات معدودات قائد ألمانيا وزعيمها الأوحد؟ لا نستطيع الإجابة عن سؤال ضخم كهذا بكلمات معدودات. ولكن ينبغي العلم بأن الشخصيات الاستثنائية في التاريخ هي شخصيات إشكالية، عصابية، بل ومرضية بالمعنى الحرفي للكلمة. وإلا لما تجرأت على القذف بنفسها في فوهة المجهول وحرق المراحل والانتقال من الحضيض إلى القمة بسرعة صاروخية. الإنسان العاقل المتوازن أكثر من اللزوم لا يمكن أن يصبح قائداً تاريخياً لأنه يحسب الحساب لكل صغيرة وكبيرة ويخاف على حياته وأولاده ولا يتجرأ على الإقدام والاقتحام في اللحظة المناسبة. تنقصه جرعة الجنون الضرورية لذلك. لا عبقرية من دون جرعة جنونية أو حتى جرعات كما قلت في كتابي الذي سيصدر قريباً عن «دار المدى» بعنوان «العباقرة وتنوير الشعوب». ولذلك؛ لا يمكن للأشخاص العاديين الطبيعيين الخوافين من أشكالنا أن يصبحوا شخصيات عبقرية أو استثنائية. هتلر كان لا يتردد عن المخاطرة بنفسه في أي لحظة تماماً مثل نابليون وبقية القادة الكبار. بعد أن وصلنا في الحديث إلى هذه النقطة ينبغي القول بأن تاريخ البشرية ينقسم عموماً إلى نوعين من العباقرة: عباقرة الخير، وعباقرة الشر. ومأساة هتلر هي أنه كان ينتمي إلى النوع الثاني لا الأول؛ بدليل أن مشروعه انتهى بالانتحار الشخصي والجماعي لألمانيا التي كانت عزيزة جداً على قلبه. ومن الحب ما قتل! لقد دُمرت ألمانيا عن بكرة أبيها وانهارت على عروشها بسبب المشروع النازي. وبالتالي، فهتلر كان عبقرياً شريراً من الطراز الأول، على عكس نابليون الذي طبق فلسفة الأنوار ونشر مبادئ الحرية والمساواة والإخاء في شتى أنحاء أوروبا. وحتى عندما غزا مصر جلب معه مئات العلماء والفلاسفة لنقل نور الحضارة إلى الشرق! مَن هناك يرُجُّ الشرق؟ يقول شاعر عربي كبير (أدونيس).



سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»