أجهزة استشعار للكشف المبكر عن الأمراض

علماء «كاوست» وباحثون في مستشفى الملك فيصل التخصصي يطورونها

من اليسار: أشرف الدادا وساهيكا إينال وستيفان أرولد في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة (كاوست 2023)
من اليسار: أشرف الدادا وساهيكا إينال وستيفان أرولد في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة (كاوست 2023)
TT

أجهزة استشعار للكشف المبكر عن الأمراض

من اليسار: أشرف الدادا وساهيكا إينال وستيفان أرولد في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة (كاوست 2023)
من اليسار: أشرف الدادا وساهيكا إينال وستيفان أرولد في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة (كاوست 2023)

في عام 1998، تم تطوير أول جهاز استشعار إلكتروني بيولوجي، يمكنه اكتشاف مسببات الأمراض، من قبل فريق من الباحثين في معهد كاليفورنيا للتقنية. وقد استخدم المستشعر مزيجاً من الجزيئات البيولوجية والدوائر الإلكترونية، للكشف عن وجود بكتيريا «الإشريكية القولونية» في العينة المدروسة. ومنذ ذلك الحين، استمرت المستشعرات الحيوية الإلكترونية في التطور، وتستخدم الآن في مجموعة متنوعة من التطبيقات، بما في ذلك اكتشاف الفيروسات، ومراقبة مستويات الغلوكوز، واكتشاف السموم في الطعام والماء.
استشعار حيوي
في السعودية، نجح باحثون في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) بتعاون وثيق مع باحثي مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، في تطوير واختبار فعالية أجهزة استشعار حيوية جديدة، والتحقق من قدرتها على التشخيص السريع للأمراض.
«تكمن كلمة السر وراء بناء تعاون ناجح مع الأطباء في قضاء الوقت معهم، والتعرف عن قرب إلى احتياجاتهم»، كان هذا مستهل حديث الدكتورة ساهيكا إينال، أستاذة الهندسة الحيوية المساعدة في «كاوست»، مضيفة أنّ توفير أدوات للأطباء تساعدهم في تحسين التفاعل مع المرضى، يتطلب فهماً كاملاً لطبيعة عمل المنظومة الصحية، وخبرات العنصر البشري فيها، إذ ترى إينال أن «الافتقار لهذه المعرفة يجعل الأدوات بلا قيمة حقيقية».

يقوم موظفو مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بإعداد عينة لاختبار تفاعل البوليمراز المتسلسل (كاوست 2023)

بشكل عام، فإن المستشعرات عبارة عن أجهزة تكتشف التغيرات في الكمية المادية، مثل درجة الحرارة والرطوبة وتدفق المياه وشدة الضوء وما إلى ذلك، وتحولها إلى كمية يمكن قياسها أو تحليلها.
أما المستشعرات الحيوية الإلكترونية، فهي عبارة عن أجهزة تجمع بين المكونات البيولوجية، مثل الإنزيمات أو الأجسام المضادة، وبين المكونات الإلكترونية، مثل الأقطاب الكهربائية أو الترانزستورات، لاكتشاف وتحديد جزيئات أو عمليات بيولوجية محددة.
وتعمل هذه المستشعرات عن طريق تحويل إشارة بيولوجية، مثل وجود عامل ممرض أو تغيير في نشاط الإنزيم، إلى إشارة كهربائية يمكن قياسها وتحليلها. تحتوي المستشعرات الإلكترونية الحيوية على مجموعة واسعة من التطبيقات، بما في ذلك التشخيص السريري، والمراقبة البيئية، واختبار سلامة الأغذية، وغالباً ما تُستخدم لقدرتها على توفير اكتشاف سريع وحساس ومحدد للأهداف البيولوجية.
وإذا تحدثنا عن الأهمية التي تمثلها أجهزة الاستشعار الحيوية لملايين المرضى حول العالم، فلنتذكر مرضى السكري الذين يستفيدون من هذه التقنية في مراقبة مستويات الغلوكوز لديهم بشكل متكرر ودقيق، وإجراء تعديلات في الوقت المناسب على نظامهم الغذائي، وممارسة الرياضة، والأدوية.
أيضاً المرضى الذين لديهم أجهزة طبية مزروعة، مثل أجهزة تنظيم ضربات القلب، والمفاصل الصناعية. يكونون معرضين بسبب هذه الأجهزة لخطر العدوى، مما قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، وحتى الموت. يمكن أن تكتشف المستشعرات الإلكترونية الحيوية وجود البكتيريا ومسببات الأمراض الأخرى في محيط الجهاز، مما يسمح للأطباء بتشخيص وعلاج الالتهابات قبل أن تصبح شديدة.

تطويرات حديثة

تتمثل التطويرات الحديثة في تصميم أجهزة الاستشعار التي تستخدم المكونات البيولوجية للتعرف على بعض المؤشرات الحيوية للأمراض، في تحسين حساسيتها وخصوصياتها وانتقائها. وهناك عدة طرق لتحقيق ذلك، من ضمنها استخدام المواد النانوية، (الأنابيب النانوية الكربونية)، والغرافين، وجسيمات الذهب النانوية. أيضاً استخدام الموائع الدقيقة التي تنطوي على التلاعب بأحجام صغيرة من السوائل في القنوات الدقيقة، لتحسين كفاءة وحساسية الكشف عن العلامات الحيوية.
إضافة إلى ذلك، سمح التقدم في علم الأحياء التركيبي بتصميم وهندسة المكونات البيولوجية، مثل الإنزيمات والأجسام المضادة، مع تحسين الخصوصية والألفة للواسمات الحيوية للأمراض. ويمكن دمج هذه المكونات البيولوجية في أجهزة الاستشعار، لتحسين انتقائها ودقتها في اكتشاف المؤشرات الحيوية للمرض.
ويركّز البحث الذي أجرته إينال على تصميم مستشعرات ذات مكونات حيوية، يمكنها التعرف إلى المؤشرات الحيوية للأمراض في عينة واحدة مأخوذة من مريض.
لتحقيق هذا الهدف، تعاونت ساهيكا إينال وفريقها بشكل وثيق مع الدكتور أشرف الدادا، رئيس قسم الباثولوجيا المناعية، والدكتورة فاطمة الهملان، وهي أستاذة مساعدة في قسم المناعة والأمراض المعدية، وزملاء العمل في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث في المملكة العربية السعودية؛ حيث استهدفت الشراكة المساعدة في تطوير واختبار أجهزة الاستشعار الإلكترونية الحيوية، والتي ستساعد بدورها في الكشف عن مسببات الأمراض بتكلفة زهيدة، مع توفر الدقة والسرعة.
وبشيء من التوضيح، تقول إينال: «هدفي هو تسهيل مهمة الأطباء في تشخيص المرضى في أسرع وقت ممكن، عبر توفير تقنية جديدة لتحل محلّ الاختبارات المعملية التقليدية». وتتابع: «نستهدف إتاحة أجهزة الاستشعار هذه للأطباء، لتوفير البيانات التي تساعد على تشخيص الأمراض بشكل أسرع. كما نأمل أيضاً أن تدعم التقنية المتخصصين في الرعاية الصحية في البلدان منخفضة الدخل، وفي المجتمعات النائية، والتي تفصلها مسافات طويلة عن خدمات الرعاية الصحية».
جدير بالذكر أن الدكتورة ساهيكا إينال كانت قد تعاونت سابقاً مع البروفسور ستيفان أرولد، أستاذ العلوم البيولوجية في «كاوست»؛ لتطوير شرائح إلكترونية قادرة على اكتشاف فيروس «كوفيد– 19» في عينات اللعاب؛ حيث تكون رقاقاتها قريبة من الحساسية لاختبارات تفاعل البوليمراز المتسلسل التقليدية، وتقدم النتائج في غضون 15 دقيقة فقط.

ثمار التعاون البحثي

وعن بداية التعاون مع الفريق الطبي في مستشفى الملك فيصل التخصصي، تقول إينال: «للتحقيق في نجاعة هذه التقنية المبتكرة، ومعرفة مدى ملاءمتها في بيئة سريرية، وللتحقق أيضاً من دقة أجهزة الاستشعار التي طورناها، تواصلنا مع الخبراء في مستشفيات السعودية، وفي هذا الصدد، قدّم لنا باحثون من مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث عينات، وقاموا بتقييم النتائج استناداً إلى تقنياتهم التقليدية كأداة مقارنة. ثم أطلعونا على النتائج، مما مكننا من التحقق من فعالية تقنيتنا».
من جهته يقول أشرف الدادا: «يوجد في مستشفانا مركز أبحاث متقدم؛ لدعم الرعاية الصحية السريرية لمرضانا من خلال التشخيصات المبتكرة والدراسات العلاجية». وأعرب الدادا عن سعادته بالتقنية الجديدة ذات الحساسية والدقة العالية في التشخيص، والتي طورها باحثو «كاوست».
يشار إلى أنّ التعاون بين فريقي إينال وأرولد داخل «كاوست» والفريق البحثي داخل المستشفى، قد ازداد متانة منذ التجارب التي أجريت على مستشعرات «كوفيد– 19»، إذ تعمل الفرق البحثية عن كثب لتعظيم إمكانات المستشعرات الحيوية الإلكترونية.
تقول إينال: «الأطباء يجعلون بحثنا وثيق الصلة بالواقع، إذ يزودوننا بالبيانات المفقودة من واقع نمط عملهم اليومي، فضلاً عن إخبارنا بالأدوات التي كانت لديهم الرغبة في امتلاكها، ومن ثم فإن فهم هذا الواقع يعود بالنفع على الأطباء والمرضى على حدٍّ سواء؛ لأن حالات المرضى يمكن علاجها بوتيرة أسرع؛ حيث ستسمح أجهزتنا لمقدم الخدمة الصحية بفحص مؤشرات متعددة في وقت قصير، مما يسمح له ببناء صورة شاملة وأكثر وضوحاً عن الوضع الصحي لكل مريض». وتصف إينال القدرة على التحقق من فعالية أجهزة الاستشعار باستخدام بيانات أصلية عالية الجودة جمعت بعناية، بأنها «فرصة لا تقدر بثمن».
ويعلق الدادا آمالاً واسعة على هذا المشروع، إذ يتطلع إلى أن تنتج عنه تقنية متطورة تُحدث ثورة في تشخيص مسببات الأمراض، وتغير مشهد أدوات التشخيص في مجال الأمراض المعدية، للمساعدة أيضاً في ضمان جاهزية البشرية بشكل أفضل في التعامل مع الأوبئة مستقبلاً.
من جانبها، تأمل إينال في أن تتطور تقنيتهم بسرعة؛ لتوفير تشخيص مبكر ودقيق لكل من الأمراض المعدية وغير المعدية. يمكن القول إنّ إينال والدادا لديهما حماس كبير لرؤية ثمار هذا التعاون تنتشر على نطاق أوسع في المستقبل.
بشكل عام، يمكن القول إن هذه التطورات في تصميم المستشعرات قد تكون لديها القدرة على إحداث ثورة في تشخيص المرض ومراقبته، من خلال تمكين الكشف السريع والدقيق والفعال من حيث التكلفة عن المؤشرات الحيوية للمرض في عينة واحدة مأخوذة من مريض.



أداة للتنبؤ بالأدوية الأكثر فاعلية في علاج الأمراض الناجمة عن الطفرات

الطفرات الجينية تتسبب بأمراض السرطان
الطفرات الجينية تتسبب بأمراض السرطان
TT

أداة للتنبؤ بالأدوية الأكثر فاعلية في علاج الأمراض الناجمة عن الطفرات

الطفرات الجينية تتسبب بأمراض السرطان
الطفرات الجينية تتسبب بأمراض السرطان

تمكّن باحثون دوليون من تطوير نموذج حاسوبي رائد يمكنه التنبؤ بالأدوية الأكثر فاعلية في علاج الأمراض الناجمة عن الطفرات التي تؤدي إلى بروتينات مبتورة أو غير مكتملة.

وتظهر هذه البروتينات بسبب «طفرات غير منطقية» توقف تخليق البروتين قبل الأوان، وترتبط بمجموعة متنوعة من الاضطرابات الوراثية والسرطانات.

وتقدم الدراسة التي نُشرت في مجلة «Nature Genetics» في 22 أغسطس (آب) 2024 برئاسة البروفسور بن لينر أحد المؤلفين الرئيسيين للدراسة ورئيس المجموعة في مركز تنظيم الجينوم في برشلونة بإسبانيا، ومعهد ويلكوم سانجر في المملكة المتحدة، تقدماً كبيراً في الطب الشخصي بعد تطوير أداة جديدة تسمى «آر تي ديتكتف» RTDetective. وهذه الأداة نموذج حسابي تم بناؤه بواسطة الباحثين للتنبؤ بالأدوية التي ستكون الأكثر فاعلية في علاج الأمراض الناجمة عن الطفرات التي يمكن أن تؤدي إلى توقف تخليق البروتين ما يؤدي إلى بروتينات مبتورة.

بروتينات مبتورة وطفرات غير منطقية

تنشأ البروتينات المبتورة عندما تنقطع عملية تخليق البروتين قبل الأوان بسبب الطفرات غير المنطقية، حيث تعمل هذه الطفرات كأنها «علامات توقف» في الشفرة الوراثية، ما يتسبب في توقف الآلية الخلوية لإنتاج البروتين بشكل مفاجئ.

وغالباً ما تفقد البروتينات غير المكتملة الناتجة وظيفتها، ما يؤدي إلى أمراض مختلفة. والطفرات غير المنطقية متورطة فيما يصل إلى 20 في المائة من الاضطرابات الجينية الفردية بما في ذلك التليف الكيسي، وخلل العضلات دوشين Duchenne muscular dystrophy، وهو اضطراب جيني وراثي يظهر على هيئة ضعف وضمور وتداع مستمر في الحالة الصحية لعضلات الجسم، وكذلك في كثير من أنواع السرطان بسبب آثارها على جينات قمع الورم.

وقد تم تصميم علاجات قمع الطفرات غير المنطقية لمساعدة الخلايا على تجاوز علامات التوقف المبكرة هذه ما يسمح لها بإنتاج بروتينات كاملة أو شبه كاملة الطول، ومع ذلك فإن فاعلية هذه العلاجات تختلف اختلافاً كبيراً اعتماداً على الطفرة المحددة والتسلسل الجيني المحيط، وكشفت الدراسة أن التجارب السريرية السابقة ربما ربطت المرضى بأدوية غير فعالة بسبب عدم مراعاة هذه العوامل.

أداة للعلاج الشخصي

وقام الباحثون بتحليل 5800 طفرة توقف مبكرة مسببة للأمراض، واستخدموا النموذج الحسابي للتنبؤ بفاعلية الأدوية المختلفة «آر تي ديتكتف»، لكل واحدة من علامات التوقف المحتملة البالغ عددها 32.7 مليون، والتي يمكن إنشاؤها في نُسخ الحمض النووي الريبي (آر إن إيه) RNA في الجينوم البشري. وتم التنبؤ بأن واحداً على الأقل من الأدوية الستة التي تم اختبارها سيحقق قراءة أكثر من 1 في المائة في 87.3 في المائة من جميع علامات التوقف المحتملة. وكانت النتائج واعدة لأن نسب القراءة الأعلى ترتبط عموماً بنتائج علاجية أفضل.

وعلى سبيل المثال متلازمة هيرلر Hurler syndrome هي اضطراب وراثي شديد ناتج عن طفرة غير منطقية في جين يدعى IDUA حيث أظهرت الدراسات السابقة أنه مع قراءة 0.5 في المائة فقط يمكن للأفراد التخفيف جزئياً من شدة المرض عن طريق إنشاء كميات صغيرة جداً من البروتين الوظيفي.

مستقبل الطب الشخصي

يمثل تطوير النموذج الحسابي «آر تي ديتكتف» خطوة مهمة نحو هدف الطب الشخصي، إذ إن استخدام هذا النموذج يمكن الأطباء السريريين من تصميم العلاجات للمرضى الأفراد بناءً على الطفرات الجينية المحددة لديهم، ما يحسن النتائج العلاجية. وعلاوة على ذلك يمكن للأداة تسريع عملية مطابقة الأدوية الجديدة مع المرضى الأكثر احتمالاً للاستفادة منها.

ويخطط الباحثون للتحقق من صحة وظائف البروتينات المنتجة من خلال علاجات القراءة المستمرة، وضمان فاعليتها السريرية، بالإضافة إلى ذلك يهدفون إلى استكشاف استراتيجيات تكميلية يمكن أن تعزز فاعلية هذه العلاجات، خصوصاً في أمراض السرطان، حيث تلعب الطفرات غير المنطقية دوراً مهماً.

وأخيراً فإن هذه الدراسة لا تقدم طرقاً جديدة لعلاج الأمراض الوراثية فحسب، بل إنها تحمل أيضاً وعداً بتطوير علاجات السرطان من خلال استهداف الأسس الجينية للمرض بدقة أكبر.