السلام في أفغانستان لا يزال بعيدًا

القيادة الجديدة في طالبان تصر على مواصلة القتال

السلام في أفغانستان لا يزال بعيدًا
TT

السلام في أفغانستان لا يزال بعيدًا

السلام في أفغانستان لا يزال بعيدًا

رحل زعيم حركة طالبان الملا محمد عمر في أوضاع وظروف غامضة، لكن الحرب لم تنته، فبعد التأكد من وفاة الرجل قبل نحو سنتين ونصف السنة في مدينة كراتشي الباكستانية، وفقا للرواية الحكومية في أفغانستان (والتي قالت في بيان إن زعيم الجماعة توفي أو قتل في شهر أبريل/ نيسان، من عام 2013)، ودفنه في مكان مجهول، عولت حكومة الوحدة الوطنية في كابل على حدوث انشقاقات كبيرة في داخل الحركة بعد وفاة مؤسس الجماعة والتي من المقرر أن تؤثر إيجابا على سير المعارك في هذا البلد، غير أن التفجيرات الدموية الأخيرة التي استهدفت العاصمة كابل وبعض مقارها الأمنية وراح ضحيتها المئات من المدنيين ووصفها الرئيس الأفغاني أشرف غني الذي عاد فورا إلى البلاد من رحلة علاجية في ألمانيا بأنها هجمات غير مسبوقة وأنها لن تبقى بلا رد، أثبتت هذه الحوادث من جديد أن الطريق إلى تحقيق مصالحة شاملة ليس مفروشا بالورود، وأن عقبات كثيرة لا تزال على طريق تحقيق السلام والأمن في هذا البلد الذي يشهد حربا منذ أكثر من أربعين عاما.
سارعت حركة طالبان رغم وجود خلافات شديدة على تعيين خليفة زعيمها الروحي إلى التوحد حول قيادة جديدة على الأقل في المرحلة الراهنة، إلى أن يتبين نزاع حقيقي على القيادة لاحقا. كما أرادت القيادة الجديدة فرض نفسها عبر التصعيد في عمليات الحركة في مختلف المناطق الأفغانية لطمأنة مقاتلي الجماعة بأن قيادتها الجديدة مصرة على مواصلة درب مؤسس الحركة الذي كان يقول دائما إن الحرب ستستمر حتى إقامة النظام الإسلامي في كل ربوع البلاد وطرد المحتلين من الأراضي الأفغانية.. فمن هو الزعيم الجديد لحركة طالبان؟
لا تتوافر معلومات كثيرة عن الملا أختر منصور، زعيم حركة طالبان الجديد، ولكن يعتقد أن الرجل في الخمسينات من العمر، وكان قد التحق بعدد من المدارس الدينية «الديوبندية» في باكستان عقب انفصالها عن الهند خصوصا المدرسة الحقانية في مدينة بيشاور، وهي المدرسة نفسها التي تخرج فيها جميع قادة طالبان.
و«أمير المؤمنين الجديد»، الذي اختير من بين ثلاثة مرشحين هم الملا يعقوب نجل الملا عمر، والقائد العسكري الميداني في طالبان الملا ذاكر قيوم المعتقل السابق في سجن غوانتانامو ومدير العمليات العسكرية الحالية في أفغانستان، والملا منصور وهو من أوائل قادة الحركة منذ تأسيسها في قندهار عام 1994.
وبعد سيطرة الحركة على قندهار أصبح الملا أختر منصور مسؤولا عن قاعدة المدينة الجوية، ثم شغل منصب وزير الطيران المدني والنقل، كما عينته حركة طالبان حاكما لمدينة قندهار، حيث شغل هذا المنصب حتى مايو (أيار) 2007.
وتولى أختر منصور منصب نائب رئيس مجلس الشورى الأعلى لطالبان حتى منتصف عام 2009. وكان في الوقت نفسه عضوًا في مجلس قيادة الحركة لشورى كويتا، وقبل تعيينه نائبا للملا عمر في عام 2010 كان يتولي رئاسة الشؤون العسكرية في المجلس العسكري التابع للحركة.
وكان أختر مسؤولا عن أنشطة حركة طالبان في أربعة أقاليم في جنوب أفغانستان بشكل مباشر حتى عام 2010، قبل أن يتم تعيينه رئيسا لمجلس الشورى المدني للحركة في أوائل عام 2010.
وتقلد أختر أيضا منصب نائب الملا عبد الغني برادر، وهو أحد قادة طالبان الكبار ومعتقل حاليا في باكستان، في المجلس الأعلى لطالبان حتى عام 2009، ليصبح لاحقا مسؤولا عن المجلس الأعلى لطالبان بشكل مؤقت بعد اعتقال الملا برادر في فبراير (شباط) 2010.
ومن مواقف الملا منصور التي أثارت الاهتمام دعوته للحوار السلمي مع الحكومة الأفغانية، إلى جانب موقفه المناهض لتنظيم داعش، بعد إعلان الأخير قيام «دولة الخلافة الإسلامية». وتذكر مصادر إسلامية عدة أن أختر كان قد كتب بنفسه الخطاب الشهير الذي وجهته طالبان رسميا إلى تنظيم داعش، وزعيمه البغدادي، تحذره فيه من عواقب زرع مجموعة تابعة له في أفغانستان.
وكانت الرسالة تمزج بين التهديد والدبلوماسية، واشترطت على تنظيم داعش إذا رغب في وجود عناصر له في مناطق سيطرة طالبان أن يكون هؤلاء تحت قيادة طالبان طيلة فترة وجودهم في أفغانستان.
الجدير بالذكر أن أختر منصور امتدح في الخطاب نفسه تنظيم داعش، مشيرا إلى أن «الذين يثيرون الاضطرابات في قيادة المجاهدين ليسوا قادة التنظيم أنفسهم». وخاطب قادة تنظيم داعش بالقول «لكن نتيجة لابتعادكم عن مكان الأحداث فإن أولئك الأنانيين يسيئون استخدام اسمكم في تبرير مثل تلك التصرفات من جانبهم». كما طلب من تنظيم داعش العمل على تضييق الخناق على «أولئك الذين يناوئون سلطة طالبان في أفغانستان تحت راية» التنظيم، ونصح قادة التنظيم بـ«الإصرار على البقاء يقظين تماما في السيطرة» على أولئك التابعين لهم.
وذكرت أخبار في مواقع إسلامية أن أختر منصور كان على رأس وفد رفيع المستوى لطالبان مؤلف من 11 شخصا كان قد زار إيران مؤخرا لكن الحركة لم تؤكد ذلك رسميا. وتفيد تقارير بأن للملا أختر دورا كبيرا في المحادثات التي تجريها الحركة سواء مع الحكومة الأفغانية أو مع منظمات وقوى دولية أخرى.
وتقول الأمم المتحدة إن الملا أختر الذي كان قد اعتقل في باكستان «أعيد إلى أفغانستان في سبتمبر (أيلول) من عام 2006»، أي بعد خمس سنوات من سقوط حكم طالبان في أفغانستان. وتتهمه المنظمة الأممية بأنه ضالع في أنشطة الاتجار بالمخدرات، وكان ناشطا في ولايات خوست وبكتيا وبكتيكا في شرق أفغانستان حتى مايو من عام 2007.
وينظر إلى التعيين السريع للملا أختر منصور «المعتدل» خليفة للملا عمر على رأس حركة طالبان الأفغانية باعتباره انتصارا لباكستان «العرابة» التاريخية للحركة التي تشجعها على خوض مفاوضات السلام في المرحلة الحالية مع كابل، رغم خطر تقسيمها.
«انتصرت باكستان» وفق القادة الطالبانيين المعارضين لأختر منصور، وهم لا يزالون تحت الصدمة بعد التأكد من إعلان الحركة المتشددة وفاة زعيمها التاريخي الملا عمر، ومن ثم وعلى عجل تعيين خليفة له. وكان مجلس شورى كويتا الذي يدير شؤون طالبان قد عين أختر منصور أميرا جديدا لها.
كما تم تعيين مساعدين له هما «الملا هيبة الله أخوندزاده» الوجيه الديني المتنفذ و«سراج الدين حقاني» الزعيم الشهير لشبكة حقاني والمعروف بقربه من تنظيم القاعدة ومن باكستان.
وأكد عدد من قادة طالبان، في اتصال مع قنوات أفغانية محلية، أن الملا منصور ومساعديه يعتبرون «مقربين» لا بل «مقربين جدا» من باكستان
وتقبلت باكستان تعيين الملا أختر منصور دون اعتراض. وقالت إسلام آباد إنها ستعمل على استمرار مساعي الحوار بين طالبان وكابل.
ويقود سراج الدين حقاني شبكة تعتبر مقربة من باكستان إلى درجة أن الجيش الأميركي وصفها في 2011 بأنها «الذراع المسلحة لجهاز الاستخبارات الباكستاني» القوي. أما هيبة الله أخوندزاده فأوقفته القوات الباكستانية «للصدفة المحرجة» لفترة وجيزة قبل عشرة أيام في مخبئه في كويتا جنوب غربي باكستان.
وقال كادر من طالبان يتخذ موقفا متشددا من باكستان تعليقا على ذلك «نعتقد أن باكستان واستباقا منها لخلافة الملا عمر، أوقفته لإعطائه توجيهات حول الوضع لاحقا». والوضع اللاحق هو مفاوضات السلام المنتظرة منذ فترة طويلة بين طالبان وكابل بعد نزاع مستمر منذ 14 سنة. وشهدت هذه المفاوضات تقدما بداية يوليو (تموز) مع أول اتصال رسمي مباشر بين الجانبين في مدينة مري قرب إسلام آباد في باكستان، بحضور ممثلين عن الصين والولايات المتحدة.
هل باكستان صادقة في مساعيها لإحلال السلام في أفغانستان الجارة؟
دعمت باكستان ولفترة طويلة في السر الحروب التي خاضتها طالبان في أفغانستان حتى بعد تحالفها مع الولايات المتحدة بعد 2001، في سياسة مزدوجة أقر بها رئيسها السابق برويز مشرف السنة الماضية. لكن المعطيات الجغرافية السياسية في المنطقة تغيرت خلال الأشهر الماضية، وازدادت الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة التي تستعد لسحب آخر قواتها من أفغانستان في 2016، والصين المستعدة لاستثمار مليارات الدولارات في أفغانستان وباكستان مع فتح منفذ على بحر العرب. فواشنطن وبكين تريدان دفع إسلام آباد لجلب طالبان إلى طاولة الحوار.
وفي أفغانستان، أسهم في ذلك انتخاب الرئيس أشرف غني، المستعد لقبول مساعدة باكستان للتفاوض مع طالبان، والقلق الدولي من تقدم طالبان وظهور فصائل محلية لتنظيم داعش، وبالتالي فليس أمام إسلام آباد خيارات أخرى سوى بذلها كل الجهود لإقناع طالبان وقيادتها الجديدة بقبول الحوار لتحقيق السلام.
وتدعم هذه المعطيات الاعتقاد بأن باكستان قامت بترتيب كل شيء، وهذا الأمر لا يروق لبعض قادة طالبان المعارضين للملا أختر منصور. ويقول سيد طيب أغا، وهو رئيس مكتب طالبان السياسي في قطر، والذي استقال من منصبه فور وفاة مؤسس الجماعة: «لقد كتمت القيادة نبأ وفاة زعيمنا منذ سنتين، وقامت بنشر بيانات باسمه. بعضنا يشعر بأنه خدع وهذا يعزز الشكوك بأن باكستان تتلاعب بالحركة».
لكن هل يعني هذا أن الحركة مهددة بالانقسام؟ الأمر غير مطروح في الوقت الحالي، كما يقول أحد المسؤولين في طالبان مبديا أسفه لدور باكستان النافذ. ويضيف «الولايات المتحدة والصين وحتى السعودية، أحد حلفائنا التاريخيين، تؤيد عملية السلام التي أطلقتها باكستان. حتى الطالبان المعارضون لهذه العملية سينتهون بقبولها، لأنهم لا يريدون أن يجدوا أنفسهم في عزلة تامة».
ومنذ وفاة الملا عمر بدأت تعلو أصوات داخل طالبان ضد عملية الخلافة التي اعتبرت متسرعة ومنحازة وغير متماشية مع العرف المتبع. ولا شك أن تنظيم داعش خصم طالبان الجديد سيسعى إلى استغلال حالة عدم الرضا مع بدء انتشاره في المنطقة، وسيكون هو المستفيد الأول من حدوث أي انشقاقات جديدة للحركة. رغم ذلك فإن التفجيرات الأخيرة وحالة الغضب التي يعيشها سكان كابل تعيد الوضع إلى المربع الأول من فقدان الثقة بين الحكومة وطالبان من جهة، وكذلك الاستياء الشديد لدى الأفغان من فشل حكومتهم في القضاء على جيوب الإرهابيين. كما أن القوات الأفغانية التي تسلمت المهام الأمنية من القوات الدولية تواجه تحديات كبيرة، فهي تعاني من ضعف التسليح والتدريب، كما تواجه هروبا جماعيا لعناصرها من الخدمة.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.