شح المياه... كابوس يهدد دول المغرب العربي بالعطش

توقعات بانخفاض كبير في المحاصيل الزراعية بسبب قلة تساقط المطر وتراجع الاقتصاد

صورة تبين حجم الجفاف الكبير الذي ضرب منطقة نابل التونسية على امتداد عدة سنوات (إ.ب.أ)
صورة تبين حجم الجفاف الكبير الذي ضرب منطقة نابل التونسية على امتداد عدة سنوات (إ.ب.أ)
TT

شح المياه... كابوس يهدد دول المغرب العربي بالعطش

صورة تبين حجم الجفاف الكبير الذي ضرب منطقة نابل التونسية على امتداد عدة سنوات (إ.ب.أ)
صورة تبين حجم الجفاف الكبير الذي ضرب منطقة نابل التونسية على امتداد عدة سنوات (إ.ب.أ)

لن يكون الصيف المقبل، داخل تونس والجزائر وليبيا والمغرب، مثل بقية السنوات الماضية، فبسبب شح المياه، وقلة التساقطات، اتخذت حكومات هذه الدول إجراءات عاجلة لمواجهة شبح العطش، الذي بات يهدد السكان، واضطرت السلطات التونسية، قبل بضعة أيام، لقطع مياه الشرب عن السكان لـ7 ساعات كل يوم، بعد أن تقلص مخزون السدود إلى مستويات غير مسبوقة، كما حظرت أيضاً استخدام المياه الصالحة للشرب لغسيل السيارات، وريّ المساحات الخضراء، وتنظيف الشوارع والأماكن العامة، وملء المسابح الخاصة، وأصدرت قراراً بمعاقبة المخالفين، وهو ما أدى لظهور احتجاجات. في حين قررت الحكومة الجزائرية إنجاز مزيد من المحطات لتحلية مياه البحر؛ للتخفيف من حّدة الأزمة، وبالخصوص تزويد المدن الكبرى بالماء الصالح للشرب، خصوصاً أن شبح الندرة بات يهدد الاقتصاد والزراعة بشكل مقلق. أما في المغرب فقد عرفت الواردات المائية تراجعاً وصل إلى 14 مليار متر مكعب، خلال السنوات الـ10 الأخيرة؛ بسبب انخفاض التساقطات المطرية والثلجية بنسبة 85 في المائة.
فكيف ستتعامل حكومات هذه الدولة مع أزمة شح المياه، التي تتفاقم حِدتها، خصوصاً في موسم الصيف الذي يعرف ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة، وما يرافق ذلك من إقبال الناس على استهلاك المياه بشكل مضاعف، وما تأثيرها على الاقتصاد والقطاع الفلاحي، وإلى أي حد سيتقبل المواطنون التعايش مع فكرة تقليص مياه الشرب، إذا اضطرت الحكومات لهذا الإجراء القاسي بسبب تواصل قلة التساقطات.
يرفع جل التونسيين أكفهم، كل يوم، وأعينهم متجهة إلى السماء الشحيحة، وإلى السحب التي تمر دون أن تنزل قطراتها على الأرض المتشققة، راجين أن تجود عليهم، ولو بالقليل، خلال شهر أبريل (نيسان) الحالي، باعتباره أهم شهر لضمان غلة جيدة من الحبوب والأشجار المثمرة والخضراوات، وأيضاً لسد النقص الكبير في مخزون السدود، التي تزوِّد السكان بمياه الشرب.
- تونس تقطع المياه عن المواطنين 7 ساعات يومياً
بعد أن أصبحت الخزانات والسدود فارغة بسبب أسوأ جفاف تشهده تونس على الإطلاق، اضطرت السلطات لقطع المياه عن السكان لمدة 7 ساعات في الليل، وهو القرار الذي يهدد بتأجيج التوتر الاجتماعي في بلد يعاني ضعف الخدمات العامة، وارتفاع معدلات التضخم، وضعف الاقتصاد. كما أدخلت وزارة الزراعة نظام حصص لمياه الشرب، وحظرت استخدامها في الزراعة، حتى 30 من سبتمبر (أيلول) المقبل، مع استمرار الجفاف الذي دخل عامه الرابع الآن. وقالت إنها حظرت أيضاً استخدام المياه الصالحة للشرب لغسيل السيارات، وريّ المساحات الخضراء، وتنظيف الشوارع والأماكن العامة، وملء المسابح الخاصة، مضيفة أنه ستجري معاقبة المخالفين.
ووفقاً لقانون المياه، يعاقَب المخالفون بغرامة مالية، وبالسجن من 6 أيام إلى 6 أشهر، كما يمنح القانون السلطات الحق في تعليق الربط بالماء الصالح للشرب، والذي توفره شركة توزيع المياه الحكومية، في خطوة أثارت غضباً واحتجاجاً في مدينة صفاقس (جنوب). لكن خبراء يُجمعون على أنه لم يعد أمام السلطات أي حل سوى ترشيد المياه لتفادي الأسوأ، في ظل واحدة من أسوأ موجات الجفاف.

تونسية من منطقة نابل تملأ حاوية بلاستيكية بالماء، بعد أن قررت السلطات قطع ماء الشرب عن السكان لـ7 ساعات كل يوم (رويترز)

تقول سميرة عثمان، البالغة من العمر 54 عاماً، وهي أم لـ4 أطفال، لوكالة «رويترز»: «نحن في معاناة بسبب غياب الماء، ففي الكثير من الأوقات، لا نقوم بغسل ثيابنا فتبقى متسخة لمدة شهر. هناك جيران قريبون منا، لديهم الماء، في كثير من الأوقات، ولذلك نأخذ قواريرنا ونذهب إليهم ليقوموا بتعبئتها لنا».
وفي حي دار فضال الشعبي، على بُعد كيلومترات قليلة من مطار تونس قرطاج الدولي، يفتح شفيق اليعقوبي صنبور الماء، لكن لا شيء يخرج منه، ولذلك يعتمد باستمرار على جيرانه، للتزود بالماء. يقول اليعقوبي: «هذه الحنفية ليس بها ماء، لذلك نقوم بتعبئته من الجيران لنستعمله».
وفي ظل استمرار الجفاف وندرة التساقطات، أكد محمد رجايبية، المسؤول بـ«اتحاد الفلاحة التونسي»، لوكالة «رويترز»، أنه يتوقع موسم حبوب «كارثياً»، بتراجع نحو 75 بالمائة في المحصول بسبب الجفاف الحادّ، وهو ما من شأنه أن يعمق مصاعب المالية العامة التي توشك على الانهيار، وسط مساع للحصول على حزمة إنقاذ دولية. وأضاف رجايبية أنه يتوقع أن يجري حصاد ما بين 200 ألف و250 ألف طن، هذا الموسم، مقابل 750 ألف طن في العام الماضي.
من جهته، أكد حمادي الحبيب، مدير عام مكتب التخطيط والتوازنات المائية بوزارة الفلاحة، أن مناسيب السدود التونسية سجلت انخفاضاً مليار متر مكعب؛ بسبب ندرة الأمطار، من سبتمبر 2022، إلى منتصف مارس (آذار) الماضي. في حين قال علاء مرزوقي، وهو خبير في الموارد المائية بـ«المرصد التونسي للمياه»، إن «تسارع وتيرة التغيرات المناخية وتطرفها، خصوصاً من خلال الظواهر الطبيعية المتطرفة؛ من جفاف، وموجات برد، وفيضانات، ومن رياح عاتية، أصبح واضحاً، لذا يجب علينا أن نتجهز جيداً، وألا نترك أنفسنا لآخر ثانية لمواجهة هذه الظواهر الطبيعية المتطرفة»، موضحاً أن «انقطاعات المياه متواصلة، منذ سنوات، في عدد من المناطق، بحيث تصل لأشهر، وفي بعض المناطق هناك عائلات قُطع عنهم الماء لسنوات، وليس فقط لأشهر، وهذا التقسيط ليس بالجديد عليهم.. التقسيط، اليوم، محاولة لتخفيض استعمالات المياه، ويجعلنا ندخل، هذا الصيف، بنتائج أقل حِدة».
وأظهرت بيانات رسمية أن منسوب سد سيدي سالم في شمال البلاد، المزوِّد الرئيسي لمياه الشرب لعدة مناطق، انخفض إلى 16 بالمائة فقط، من طاقته القصوى البالغة 580 مليون متر مكعب، وأن بقية السدود التونسية باتت تشهد مستويات غير مسبوقة في حجم المخزون، بحيث لا تتعدى 30 في المائة من طاقة استيعابها، وفق آخر تحديث.
بدوره، قال أنيس خرباشي، مساعد رئيس «الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري»: «اليوم، أصبح عدد من المناطق السقوية مغلقة، والتغيرات المناخية أثّرت بشكل كبير على القطاع الفلاحي، وبالأخص موسم الحبوب، ولذلك قمنا بالدعوة، داخل الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، إلى إعلان حالة الطوارئ المائية، وإعلان حالة الجفاف، التي تكون مصحوبة بعدد من الإجراءات، لنقف بجانب الفلاحين والبحّارة»، مضيفاً أن موسم الحبوب، اليوم، «لن يتعدى 2.5 مليون قنطار، مقابل السنة الماضية، والتي كانت 11 مليون قنطار... اليوم نحن مهددون، حتى بعدم القدرة على توفير البذور التي سنزرعها، السنة المقبلة، ونحن نعرف أن تونس تحتاج، كل سنة، إلى 2 مليون قنطار من البذور».
ومن خلال الصور، التي بثّتها تقارير إعلامية، بدت المساحات الشاسعة التي تشملها السدود التونسية الكبرى، على غرار سيدي سالم، وسيدي البراق، وسد ملاق، وقد تحولت إلى تجاويف مخيفة، بعد أن جفّت عنها مياه الأمطار، وهي التي كانت، بالأمس القريب، المزوِّد الأساسي بمياه الشرب، مما ينذر بصيف مُقلق لسكان معظم ولايات تونس، خصوصاً أن جل مدن تونس تشهد، عادةً، ارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة.
يقول مصباح الهلالي، الرئيس والمدير العام لـ«الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه التونسية (الصوناد)»: «هناك عجز في تغطية الحاجيّات من المياه، ففي فترات سابقة كان الجفاف بمعدل سنة أو سنتين، ثم يعود المناخ، بعد ذلك، إلى سالف وضعه، لكن تونس، اليوم، تعيش على وقع 4 سنوات من الجفاف المتواصل».
وبشأن الحلول البديلة، التي يمكن أن تلجأ إليها تونس، للتعامل مع هذه المعضلة، قال الهلالي إن «الاعتماد على خطة حكومية لتحلية المياه الجوفية أو مياه البحر، لا يمثل حلاً سحرياً لمعضلة نقص مياه الشرب؛ لأن التكلفة باهظة جداً». جاء ذلك بعد أن أقرّ رضا قبوج، وزير الدولة المكلف بالمياه، بأن «وضعية المياه في تونس باتت حرجة جداً، بعد أن أصبح مخزون السدود لا يتجاوز 31 بالمائة، وهو مستوى غير مسبوق»، مؤكداً تراجع مخزون السدود التونسية، المقدَّر عددها بـ37 سدّاً، إلى حوالي 390 مليون متر مكعب في مارس الماضي، مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية، كما قدَّرت مصادر حكومية نسبة ضياع وهدر المياه بحوالي 23 بالمائة؛ بسبب الربط العشوائي بشبكة المياه، وكذلك عمليات سرقة المياه من السقايات العمومية.
يقول حسين الرحيلي، خبير التنمية والتصرف في الموارد، إن قرار وزير الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، المتعلق بعدم استعمال مياه الشرب لأغراض غير منزلية، «جاء متأخراً؛ لأن تونس تعيش، منذ مدة، على وقْع سنوات الجفاف، وفي ظل انقطاع الأمطار لأشهر متتالية»، لكنه يطرح، في الوقت نفسه، عدة تساؤلات؛ أهمها كيف يمكن مراقبة الأشخاص الذين يستعملون مياه الشرب لغسل سياراتهم داخل منازلهم، أو مراقبة محطات غسل السيارات، وهل سيشمل هذا القرار أيضاً القطاع السياحي، والصناعات المستهلكة للماء، والمصانع، والقطاع الفلاحي، وما مصير الفلاحين الصغار، في حال منعهم من التزود بالمياه.
- المغرب... عجز مائي غير مسبوق
عاش المغرب، خلال السنوات الأخيرة، على إيقاع عجز مائي غير مسبوق؛ بسبب قلة التساقطات المطرية، وتراجع كميات الثلوج المتساقطة، خلال فصل الشتاء، وأيضاً بسبب تراجع مخزون المياه الجوفية، وهي وضعية دفعت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات لمواجهة الجفاف، الذي أصبح يكتسب طابعاً هيكلياً في البلاد، رغم تسجيل تساقطات مهمة، في شتاء هذا العام، أنعشت آمال الفلاحين المغاربة، في موسم فلاحي أفضل من العام الماضي، وحدّت من وطأة الجفاف الذي ضرب البلاد.
ووفق بيانات رسمية لوزارة التجهيز والماء المغربية، فإن مجموع الموارد المائية في المغرب يقدَّر بـ22 مليار متر مكعب في السنة، لكنها في تراجع مستمر، كما عرفت الواردات المائية تراجعاً يصل إلى 14 مليار متر مكعب، خلال السنوات الـ10 الأخيرة؛ بسبب انخفاض التساقطات المطرية والثلجية بنسبة 85 في المائة، أما مخزون المياه الجوفية، القابلة للاستغلال، فيصل حالياً إلى 4.2 مليار متر مكعب في السنة، لكنها أيضاً تعاني الإجهاد.
وأثَّر الجفاف بشكل كبير على الموارد المائية، وبات مصدر قلق للسلطات والسكان، خصوصاً أن حوالي 48 في المائة منهم يعتمدون على الفلاحة في الوسط القروي، كما أثّر الجفاف على تراجع حصة الفرد من المياه بشكل كبير. ووفق تقرير لـ«المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المغربي (مؤسسة دستورية استشارية)»، فإن الموارد المائية، بالنسبة للفرد، سنوياً تقدر حالياً بأقل من 650 متراً مكعباً، مقارنة مع 2500 متر مكعب للفرد في سنة 1960، لكن تقرير المجلس توقّع أن تنخفض هذه الحصة إلى أقل من 500 متر مكعب، بحلول سنة 2030، مؤكداً أن الدراسات الدولية تشير إلى أن التغيرات المناخية يمكن أن تتسبب في اختفاء 80 بالمائة من موارد المياه المتاحة في البلاد، خلال الـ25 سنة المقبلة.
وجاء في عرض قدَّمه وزير التجهيز والماء نزار بركة، أمام مجلس الحكومة، في 16 سبتمبر الماضي، أن وضعية السدود المغربية «باتت مُقلقة جداً»، مشيراً، على سبيل المثال، إلى أن سد سيدي محمد بن عبد الله، الذي يوفر الماء لسكان الدار البيضاء الشمالية والرباط وسلا وتمارة والصخيرات، وعدد من المدن الأخرى، «بات مهدداً بنفاد الماء، خلال بضعة أشهر؛ ذلك أن السد لا يوفر حالياً سوى 265 مليون متر مكعب»، وهو المخزون الذي كان مقرراً أن ينضب، في يونيو (حزيران) 2023، ما لم تكن هناك تساقطات، لكنْ من حسن الحظ أن بداية سنة 2023 عرفت تساقطات أنعشت حقينة السد. وكلما جرى التوجه جنوب الرباط، تفاقمت مشكلات المياه في الأحواض المائية، ولا سيما في مراكش وأكادير (وسط).
ولمواجهة هذا الوضع، أعلن الوزير بركة خطة حكومية لمواجهة الجفاف، تضمنت تزويد حوالي مليونيْ مواطن في الوسط القروي بالماء الصالح للشرب، السنة الماضية، من خلال شاحنات صهريجية، إضافة إلى شراء وحدات متنقلة لتحلية المياه؛ من أجل استخدامها في المناطق الداخلية وفي الجبال، كما أعلن بركة أيضاً سعي الحكومة لرفع الطاقة التخزينية من المياه في السدود، إلى 24 مليار متر مكعب، في أفق 2030، من خلال تسريع إنجاز برنامج السدود الكبرى والصغرى، في إطار البرنامج الوطني للتزويد بماء الشرب ومياه السقي 2020 - 2027.
ولترشيد استعمال المياه، لجأت الحكومة إلى إطلاق حملات توعية لعقلنة وترشيد استعمال الماء، كما لجأت بعض المناطق إلى منع استخدام المياه في سقي الحدائق، وغسل السيارات، وغيرها. أما في الوسط القروي، فقد لجأت الحكومة إلى التدخل لإنقاذ المناطق التي جفّت مياهها الجوفية، بتوفير المياه عبر شاحنات صهريجية، حيث جرى توفير 706 شاحنات صهريجية؛ لضمان تزويد 2.7 مليون نسمة، موزعة على 75 إقليماً ومحافظة.
وكان وزير التجهيز والماء المغربي قد كشف عن خطة حكومية لاقتناء 26 محطة متنقلة لتحلية ماء البحر، خلال هذا العام، و15 محطة لإزالة المعادن من الماء الأجاج. وأوضح أن عدد هذه الوحدات سيصل، هذه السنة، إلى 100 محطة هدفها توفير المياه للقرى.
ومن بين الإجراءات الأخرى لمواجهة شح المياه، يعمل المغرب على مضاعفة حجم المياه الناتجة عن تحلية مياه البحر؛ بهدف سد العجز في مياه السدود، وتخصيص الماء للفلاحة وللمدن غير الساحلية، علماً بأن المغرب يعكف أيضاً على مشروعات لتحلية مياه البحر من خلال 9 محطات، تنتج 147 مليون متر مكعب في السنة، بالإضافة إلى آلاف الآبار لتعبئة المياه الجوفية، كما تسعى الحكومة إلى توفير نصف الحاجيّات من ماء الشرب، عبر تحلية ماء البحر، خصوصاً في المدن الساحلية، على أن تخصص مياه السدود للسقي الفلاحي وللشرب في المناطق الداخلية. ويرتقب أن تبلغ كميات المياه، الناتجة عن تحلية مياه البحر، حوالي مليار متر مكعب سنوياً، ابتداء من سنة 2030.
- الجزائر تواجه الجفاف بتحلية مياه البحر
أمام شح الأمطار، المتواصل منذ عدة سنوات، قررت الحكومة الجزائرية إنجاز مزيد من المحطات لتحلية مياه البحر؛ للتخفيف من حِدة الأزمة، وبالخصوص تزويد المدن الكبرى بالماء الصالح للشرب، ولا سيما أن شبح الندرة بات يهدد الاقتصاد والزراعة بشكل مقلق.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أمر الرئيس عبد المجيد تبون بوضع مخطط لتعميم محطات تحلية مياه البحر، عبر كامل الشريط الساحلي للبلاد؛ «تجنباً لتداعيات الأوضاع المناخية الصعبة»، حسبما جاء في بيان لرئاسة البلاد، كما طلب تبون من الحكومة «استنفار مصالح وزارات الداخلية والموارد المائية والفلاحة والصناعة والبيئة، على أوسع نطاق؛ لإنشاء مخطط استعجالي يهدف إلى سَن سياسة جديدة لاقتصاد المياه وطنياً، والحفاظ على الثروة المائية الجوفية»، وفق البيان نفسه، الذي نقل عن الرئيس «ضرورة إعادة تحريك وإحياء كل المشروعات المتوقفة لمحطات تصفية المياه المستعملة عبر الولايات، وإدخالها قيد الاستغلال؛ لاستخدامها في الري الفلاحي، عوضاً عن المياه الجوفية»، التي يشهد مخزونها انخفاضاً من سنة لأخرى، وفق تقارير وزارة الموارد المائية. كما شدد تبون على «المراقبة الصارمة لتراخيص استغلال المياه الجوفية لسقي المساحات المزروعة، مع تسليط أقصى العقوبات ضد أعمال حفر الآبار غير المرخصة، علاوة على إنجاز دراسات علمية بشكل عاجل؛ لتحديد دقيق لوضعية معدل مياهنا الجوفية». كما طالب بـ«تفعيل دور شرطة المياه، التي تختص بمراقبة استعمال المياه في كل المجالات، ومحاربة التبذير لمراقبة استغلال المياه عبر الوطن».
وتُعدّ محطة التحلية بالعاصمة من أهم المشروعات، التي أُنجزت في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة (1999 - 2019). في حين يجري بناء 5 نماذج أخرى مشابهة، في «كاب بلان» (وهران)، ومحطة الجزائر غرب (فوكة بولاية تيبازة)، ومحطة الجزائر شرق (كاب جنات بولاية بومرداس)، ومحطة بجاية، ومحطة الطارف، بالشرق.
وفي مطلع 2022 دقّ وزير الموارد المائية والأمن المائي السابق كريم حسني، ناقوس الخطر، عندما صرَّح بأن مناخ الجزائر «كان، في السابق، شبه جاف، لكنه أصبح، اليوم، مناخاً جافاً»، معلناً «استراتيجية جديدة» في قطاعه، تتمثل في مضاعفة الاعتماد على محطات تحلية المياه. وقال، حينها، إن تحلية مياه البحر «هي الحل الأمثل؛ لأن المياه السطحية أصبحت شحيحة، وبلادنا تزخر بكل الإمكانات اللازمة، منها شريط ساحلي يمتد لأكثر من 1200 كيلومتر، وكذا الخبرة والموارد البشرية اللازمة في هذا المجال».
وفي مطلع هذا العام، أعلنت الوزارة المختصة أن الجزائر باتت من الدول الفقيرة من حيث المورد المائي؛ بسبب فترات جفاف طويلة ومتكررة، مع عجز في نِسب تساقط الأمطار التي بلغت، وفقاً لها، بين 40 و50 بالمائة خلال السنوات الأخيرة، مقارنة بالمعدلات السنوية الماضية، خصوصاً في الجهتين الوسطى والغربية للبلاد. وأوضحت الوزارة أن نقص وشح الأمطار بفعل التغيرات المناخية «أثّر بشكل كبير على تزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب، وقد برزت آثارها جلياً على 20 محافظة في البلاد»، من دون ذكرها، مؤكدة أن «الجزائر تعيش، على غرار دول البحر الأبيض المتوسط، عجزاً مائياً ناجماً عن التغيرات المناخية، التي أثّرت بشكل كبير على الدورات الطبيعية للمتساقطات المطرية»، ومعتبرة أن «الأزمة ناتجة عن تراجع كبير في منسوب مياه السدود بالمناطق الوسطى والغربية للبلاد، مع تسجيل نسبة عجز تقدر بـ25 في المائة من احتياطي السدود».
وتعوِّل الحكومة على بلوغ 300 ألف لتر مكعب يومياً، بفضل محطات كبرى جديدة لتحلية المياه، وذلك على مرحلتين: 2022 -2024، و2025 - 2030، كما تقوم استراتيجيتها، في هذا المجال، على تأمين المياه، عبر ترشيد الاستهلاك وتصفية المياه المستعملة وتوظيفها في الري الزراعي. وضمن هذه الخطة، تشير التوقعات إلى أن تحلية مياه البحر ستلبي الاحتياجات في مجال ماء الشرب، خلال السنوات الخمس المقبلة، بينما تصفية المياه المستعملة (2 مليار متر مكعب في السنة) ستُخصَّص للسقي، وبشكل أساسي للأشجار المثمرة، كما ستجري إعادة توجيه المياه السطحية من السدود نحو الزراعة، ولا سيما الخضراوات، مما سيسمح بالحفاظ على المياه الجوفية.
وخلال عام 2021، عرفت عدة ولايات، في وسط وغرب البلاد، احتجاجات؛ للمطالبة بتزويدهم بالمياه، على غرار العاصمة، التي خرج سكان ضاحيتها الشرقية (منطقة باب الزوار) إلى الشارع، وقطعوا الطريق السريع المؤدي إلى المطار الدولي؛ تعبيراً عن تذمرهم من غياب المياه عن بيوتهم، أياماً طويلة.
وقد طرحت ندرة المياه بشكل أكثر حِدة، خلال الحرائق المهولة التي نشبت في منطقة القبائل صيف 2021، والتهمت مئات الهكتارات من الغطاء النباتي، ومساحات شاسعة من الأراضي المزروعة وحقول الفواكه، زيادة على مقتل العشرات من الأشخاص، وهلاك رؤوس الماشية.
يقول خبراء إن الحكومة ارتكبت خطأ كبيراً، عندما عادت، في عام 2019، إلى خطة قديمة تتمثل في تزويد سكان المناطق الحضرية الكبيرة بالمياه على مدار الساعة، فقد اغترّت، وفقاً للخبراء، بامتلاء السدود بنسب مهمة، بفضل تساقطات مطرية كبيرة عام 2018، ولجأت إلى هذا القرار، بينما كانت شبكة توزيع المياه في كامل البلاد في حالة سيئة بسبب قِدمها، مما تسبَّب في تسرب 50 بالمائة من المياه المقدَّمة للسكان، وفق الخبراء أنفسهم، الذين يؤكدون أن تغير المناخ ليس التفسير الوحيد لندرة المياه، وإنما سوء تسيير شبكات التوزيع، والتبذير الذي أسهم، بحسبهم، في تعقيد الأزمة.
- ليبيا «الأكثر تأثراً بشح المياه في العالم»
في نهاية الشهر الماضي، وقف موسى الكوني، عضو المجلس الرئاسي الليبي، أمام قمة الأمم المتحدة حول حسن إدارة الموارد المائية، التي انعقدت في نيويورك، ليحذر من أن ليبيا تعاني نقص المياه بسبب انعدام سقوط الأمطار، ورأى أن هذا ينعكس بالتبعية على التنمية في هذا البلد، الواقع جغرافياً في قلب الصحراء الكبرى.
تحذير الكوني سبقه مارك فرانش، الممثل المقيم لـ«برنامج الأمم المتحدة الإنمائي»، الذي قال إن «مستقبل ليبيا يعتمد على إدارةٍ أفضل لمواردها المائية، عبر الحلول المبتكرة»، معتبراً أن ليبيا من الدول «الأكثر تأثراً بشح المياه في العالم».
وما بين تحذير الكوني، وقراءة الممثل الأممي، يتحدث اختصاصيون ليبيون في شؤون المياه عن شبح الجفاف الذي يلوح في الأفق، اعتماداً على ندرة مياه الأمطار في مواسم سابقة، وهذه المخاوف، في مجملها، يرجعها المهندس إمحمد عبد الله، مدير الشؤون العلمية والفنية بـ«المركز الليبي للاستشعار عن بُعد»، إلى أن ليبيا دولة شحيحة المطر، وفق التقييم العالمي، في وقت تشكِّل الصحراء 95 بالمائة في إجمالي مساحتها، البالغة قرابة مليونيْ متر مربع.
وقال عبد الله، لـ«الشرق الأوسط»، إن ليبيا مرّت، خلال السنوات الـ3 الأخيرة، بموسم جفاف كبير أدى إلى نقص معدل الأمطار، خصوصاً في المنطقة الغربية، إذ تراجعت إلى 120 مليمتراً في السنة، مما ألحق أضراراً كبيرة بالزراعة، وخصوصاً أشجار الزيتون المثمرة، وهو ما دفع بـ«اللجنة الوطنية لمكافحة التصحر» إلى إعلان أن هذا موسم جفاف، «مما كان يتطلب من الدولة أن تعلن حالة الطوارئ، وتتدخل؛ لحماية المزارعين ومربِّي الأغنام والماشية، لكن ذلك لم يحدث».
وكشف عبد الله عن نقطة حيوية تتعلق باستهلاك نسبي للمياه الجوفية في بعض المناطق، وقال إنه «نظراً لقلة الأمطار، اتجه البعض للآبار الجوفية في المناطق الساحلية التي تمثل سلة الغذاء، بالنسبة لليبيا، ومن ثم استنزفت المياه الجوفية السطحية، وبعد انحسارها تداخلت معها مياه البحر، مما أدى إلى تغير قوامها».
وفي منتصف الشهر الماضي، أطلقت «منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة في ليبيا» برنامجاً تدريبياً حول الاستهلاك المائي في الزراعة بليبيا، ورفع كفاءة المياه وإنتاجيتها، واستهدفت الدورة «رسم خرائط الغطاء الأرضي، ونوع المحاصيل؛ لدعم إنتاجية المياه الزراعية في ليبيا»، وذلك بمشاركة 26 متدرباً من وزارات الموارد المائية والزراعة والثروة الحيوانية، بالإضافة للمركز الليبي للاستشعار عن بُعد وجامعة طرابلس.
وتحدّث مدير الشؤون العلمية والفنية بـ«المركز الليبي للاستشعار عن بُعد»، بأن ليبيا، ولكونها تقع في الصحراء الكبرى، «كانت هناك محاولات ودراسات في السنوات الماضية، بشأن أن يكون هناك بدائل لمياه الأمطار والمياه الجوفية المتكونة في الشريط الساحلي، فجاءت فكرة النهر الصناعي، ونقل المياه الجوفية من جنوب ليبيا إلى شمالها في الشرب والزراعة»، مشيراً إلى أنه «كان من المخطط أن تتجه ليبيا إلى تحلية مياه البحر، في عامي 2007 و2008، ووقّعت اتفاقيات مع بعض الدول، لإنشاء محطات تحلية على طول الساحل الليبي، من بينها إقامة محطات نووية، بحيث تكون البديل لمياه النهر الصناعي، أو إضافية له، لكن أغلب هذه المشروعات توقّف.
والقضية التي أثارها الكوني، أمام قمة الأمم المتحدة حول حسن إدارة الموارد المائية، بشأن تحلية مياه البحر، لا تزال تراوح مكانها، وكان الكوني قد قال إن الدول المتقدمة لو فكرت جدياً في استغلال إمكانياتها، بتخفيض تكلفة تحلية مياه البحر، لأسهمَ ذلك في حل مشكلات كبيرة، مضيفاً أن «النهر الصناعي يجب أن يُضخّ عكسياً؛ أي لا بد من تحلية مياه البحر، حتى يضخ هذا النهر من الشمال إلى الجنوب ليروي عطش الصحراء»، لكنه راهناً يرى أن التكلفة تحُول دون تحقيق ذلك.


مقالات ذات صلة

تراجع حاد في مستويات المياه العذبة عالمياً

يوميات الشرق مهمة القمر الاصطناعي «GRACE-FO» استهدفت الكشف عن تغيرات كتلة المياه على سطح الأرض وتحتها (ناسا)

تراجع حاد في مستويات المياه العذبة عالمياً

كشفت بيانات الأقمار الاصطناعية التابعة لوكالة الفضاء والطيران الأميركية (ناسا) بالتعاون مع ألمانيا، عن تراجع حاد في إجمالي كميات المياه العذبة على كوكب الأرض.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
علوم «فقاعة المياه»... على وشك الانفجار

«فقاعة المياه»... على وشك الانفجار

بسبب البنية التحتية المتقادمة والإهدار

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
شمال افريقيا الوزير المصري سويلم يلتقي السفير الألماني بالقاهرة (وزارة الموارد المائية والري)

مصر تحذّر دول نهر النيل من تفعيل اتفاقية «عنتيبي»

حذّرت مصر دول نهر النيل، من تفعيل «الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل»، المعروفة باسم اتفاقية «عنتيبي»، مؤكّدةً أنها بشكلها الحالي «تخالف قواعد القانون الدولي».

أحمد إمبابي (القاهرة)
شمال افريقيا وزير الموارد المائية المصري هاني سويلم خلال حفل تخريج متدربين أفارقة (وزارة الموارد المائية والري المصرية)

مصر تتمسك بقاعدة «الإجماع» لحل «الخلافات المائية» في حوض النيل

أكّدت مصر تمسكها بضرورة العمل وفق قاعدة «الإجماع» في إدارة وحل «الخلافات المائية» مع دول حوض النيل.

عصام فضل (القاهرة)
شمال افريقيا سويلم يلتقي سفيرة الإمارات في القاهرة (وزارة الموارد المائية)

مصر تطالب بتكاتف الجهود العربية لمواجهة «الشح المائي»

طالبت مصر بتكاتف الجهود العربية لمواجهة «الشح المائي» الذي تعاني منه المنطقة عبر إيجاد حلول مبتكرة للتعامل مع تحديات المياه الأمر الذي عدّه خبراء «ضرورة ملحة».

عصام فضل (القاهرة)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.