أجواء رمضان الجمالية: رؤية فلسفية معاصرة

مسلمون يحتلفون بحلول شهر رمضان في القدس (د.ب.أ)
مسلمون يحتلفون بحلول شهر رمضان في القدس (د.ب.أ)
TT

أجواء رمضان الجمالية: رؤية فلسفية معاصرة

مسلمون يحتلفون بحلول شهر رمضان في القدس (د.ب.أ)
مسلمون يحتلفون بحلول شهر رمضان في القدس (د.ب.أ)

في العقود الثلاثة الأخيرة تزايد الاهتمام بـ«صناعة الأجواء» الجمالية، وبرز اسم الفيلسوف الألماني جيرنوت بوهمه (1937 – 2022) ومفهومه الجديد عن ماهية الغلاف الجوي، حيث يمزج في مؤلفاته بين الفلسفة والهندسة المعمارية وتصميم المناظر الطبيعية والسينوغرافيا والموسيقى والفنون المرئية، فيما يشبه نزعة إنسانية جديدة تعزز «ديمقراطية الثقافة»، ومشاركة الجميع في الفن وأعماله.
«الغلاف الجوي» يتوسط كل شيء في حياتنا، ما في الفضاء وما على الأرض، يؤثر فينا ويتأثر بنا، وصار اليوم إحدى التيمات الأساسية في مجال الجماليات والفنون أيضاً، خصوصاً مع انتشار العوالم الافتراضية والتكنولوجيا الرقمية.
ورغم صعوبة أفكار بوهمه الفلسفية، فإن أصحاب الثقافة العربية والإسلامية هم الأقرب إلى استيعابها وفهمها، بمجرد أن يستحضروا أيام وليالي شهر رمضان المبارك، ويتأملوا: كيف تلعب «الثقافة» بالجغرافيا؟ وكيف تلون الأجواء الرمضانية وجداننا، وتؤثر على تصوراتنا وتفاعلاتنا؟
(1)
يعترف بوهمه بأن «صناعة الأجواء» عنوان متناقض: لأن الصنع يتعلق بشيء ملموس، بينما الغلاف الجوي ليس كذلك. المثال الذي يسوقه لشرح فكرته هو «فن المسرح» الذي تتجلى فيه المفاهيم الرئيسية للغلاف الجوي، وكيف يتم التلاعب الفني بالأجواء (عن قصد) للتأثير على مزاجنا ومواقفنا وعواطفنا، من خلال استخدام الديكور والإضاءة ودرجة الحرارة والصوت والعناصر الحسية الأخرى التي تتّحد معاً لتمارس تأثيراً معيناً.
ولا غرابة في ذلك، فقد انتقلت مفردات الغلاف الجوي من الأرصاد الجوية إلى قاموسنا اللغوي منذ القرن الثامن عشر، ولم تعد الآن مجرد «استعارات» أو صيغ بلاغية نستخدمها في وصف الحالات الإنسانية المزاجية والعاطفية، في مجال: الجماليات والسياسة والعلاقات الاجتماعية، مثل: تلطيف الأجواء، والمناخ السياسي، وجو المفاوضات، وأجواء من التوتر ملبّدة بالغيوم، وأجواء ودّية، وسحابة صيف، وفجر جديد في العلاقات الدولية... إلخ.
ما يعني أن «الأجواء» في حضارتنا المعاصرة ليست غلافاً خارجياً محايداً أو خلفية سلبية ساكنة، بل قوة حيوية ديناميكية تشكّل فهمنا للعالم من حولنا.
وفي السنوات الأخيرة، انتشرت أفكار بوهمه وامتدت إلى المعارض الفنية العالمية التي تداعب الحواس الخمس، وتبتلع الجمهور داخل الأعمال الفنية الشهيرة لفان جوخ ودافنشي وبيكاسو وغيرهم، عبر دوامات من الألوان والأنغام والعطور التي تغمر الزوار، وتتحدى الحدود التقليدية السابقة بين الفن والتكنولوجيا بطرق جديدة ومعقدة.
وألهمت أدوات الذكاء الصناعي –في ديسمبر (كانون الأول) 2022– أجواء أسواق الكريسماس وأعياد الميلاد في الغرب عبر الجمع بين المكونات المادية والعوالم الافتراضية: الضوء الدافئ المنبعث من الشموع، وتألق العرض الرقمي المبهر للبضائع، مع الإحساس بالدفء المنبعث من الحشود البشرية في الشوارع ومراكز التسوق، وتصاعد روائح اللوز المحمص، وكعكة التفاح، والنقانق، وطعم المخبوزات الطازجة.
فيما يشبه تقريباً الأجواء الرمضانية المتلألئة في ليالي الرياض والقاهرة وبيروت وغيرها، حيث تتزين الشوارع بالفوانيس والأهلّة والنجوم والزخارف والمنمنمات الإسلامية والأقمشة الخيامية، وتحتضن روائح البخور والعود والمسك والعنبر الشموع الملونة العطرية، وتتراص التمور وقمر الدين والكركديه والخرنوب حول القطائف والكنافة والياميش والمشاوي، على وقع دقات المسحراتي ومدفع الإفطار وأصوات الابتهالات والإنشاد الديني.
(2)
الأجواء ليست مجرد ظواهر طبيعية وجمالية فقط، ولكنها تتأثر أيضاً بالعوامل الثقافية والتاريخية والاجتماعية، كما يشير بوهمه، ذلك أن أماكن العبادة، على سبيل المثال، ليست مجرد مبانٍ مادية مثل غيرها، وإنما تكتسب ماهيتها أساساً من أهميتها الروحية والثقافية.
الشيء نفسه ينسحب على الأماكن التاريخية والتراثية، ذلك أن الغلاف الجوي هو وسيط (غير ملموس) بين الذات والموضوع، ومن ثم يقترح بوهمه دارسة الأجواء من الجانبين، لأن: «الأجواء مساحات تحتضن حالات مزاجية فريدة ومتباينة»، وأفضل ترجمة لهذه العبارة هي «قهوة الفيشاوي» في خان الخليلي بالقاهرة، ورغم تجاوز عمرها أكثر من مائتي عام، وأنها هُدمت وأُعيد بناؤها أكثر من مرة، فإنها ظلت على عهدها الأول كمساحة مكانية متميزة تحتكر فنون السرد والسمر واللعب والصحبة والذكريات، وتحتضن في نفس الوقت الحالات المزاجية والسمات الشخصية والنماذج البشرية شديدة التباين والتفرد: من العامة والدهماء والبسطاء، والمشاهير والكتاب والفنانين، والحرافيش والدراويش والحكام والباشوات والبكوات.
لقد منحها الموقع الجغرافي –إضافةً للعمق التراثي– هـذه المكانة. حيث يقع «مسجد الحسين» على يسار البوابة الرئيسية لعبور خان الخليلي، وعلى اليمين يوجد الأزهر الشريف، إضافة إلى تصميمها على الطراز العربي الإسلامي القديم: المشربيات والزجاج المعشّق الملوّن والمرايات والثريّات وخشب الأرابيسك المطعّم بالصدف.
وتكاد تشم عبق التاريخ في ربوعها، فلونها البنّي المحروق وحوائطها الصفراء الداكنة بفعل دخان الشيشة وآثار الزمان، جعلت منها مزاراً لعشاق الأصالة والتراث على مر العصور.
وهي مقسمة إلى حجرات، لكل منها تاريخ خاص و«أجواء خاصة»: حجرة «الباسفور» مبطنة بالخشب المطعم بالأبانوس، تمتلئ بالتحف والثريّات النادرة والكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، أدواتها من الفضة والكريستال والصيني، وكانت مخصصة للملك فاروق في رمضان، وكبار ضيوف مصر من العرب والأجانب.
أما «التحفة» فهي من أقدم حجرات القهوة، وهي اسم على مسمى؛ حيث الصَّدَف والخشب المزركش والعاج والأرابيسك والكنب المكسوّ بالجلد الأخضر، وهي خاصة بالفنانين.
وتوجد حجرة ثالثة تسمى «القافية»، وهي أشبه بموسوعة كاملة لأجمل القفشات واللعب الساخر بالكلمات، إذ كانت الأحياء الشعبية في النصف الأول من القرن العشرين تتبارى كل خميس من شهر رمضان في فن القافية، عن طريق زعيم يمثلها، من سماته خفّة الظل وسرعة البديهة واللماحية وطلاقة اللسان والقفشة اللاذعة، فكان يبدأ ثم يرد عليه زعيم آخر (إشمعنى)... وهكذا حتى يُفحم أحدهما الآخر، وسط ضحكات وقهقهات الحاضرين.
(3)
الانغماس في الأجواء الجمالية والترفيهية أدى إلى تحول الجماليات إلى نظام من الانعكاسات المعرفية، كما أفرز بدوره إشكاليات معرفية جديدة طالت مفهوم «الزمان» و«المكان»، ومن ثم أصبح السؤال الراهن: أين تقع الحدود بالضبط بين الفضاء والأرض؟ لا سيما مع حالة التماهي بين مستخدمي العوالم الافتراضية في «الفضاء السيبراني» ورواد الأسواق والمعارض الفنية والحفلات الترفيهية على «الأرض».
وأُشير هنا إلى «موسم الرياض» في المملكة العربية السعودية بمختلف فعالياته وأنشطته، كنموذج عالمي تطبيقي لنظرية الأجواء الجمالية عند بوهمه وكيفية صناعتها بمهارة في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر.
الجديد هنا أن هذا النموذج الخاص من «نظرية الأجواء الجمالية» جاء ضمن تخطيط علمي مدروس لتحقيق حزمة من الأهداف الطموحة، في مقدمتها: «جودة الحياة» داخل رؤية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (للمملكة 2030)، من خلال هيئة الترفيه التي يُبدع في إدارتها المستشار تركي آل الشيخ.
وكلما شاهدت كمَّ الإبهار والمتعة في ليالي الرياض الفنية ومدى تفاعل النجوم وتألقهم فضلاً عن انغماس الجمهور في الأجواء الجمالية الترفيهية، أقارن بشكل آليٍّ بين: كيف كنا في الماضي وكيف أصبحنا في الألفية الثالثة، من حيث الإمكانيات الحديثة والعوالم الافتراضية والوسائط التكنولوجية والنظريات الجمالية والتخطيط والتنفيذ والاستراتيجيات الجديدة؟
وتحضرني هذه الواقعة التاريخية التي تكشف عن مدى حب الجمهور العربي للفن والفنانين، وشغفه بالأجواء الجمالية الترفيهية على مر العصور، حتى ولو كانت الإمكانيات المادية والتكنولوجية متواضعة، فما بالك بما نمتلكه اليوم!
ففي إحدى ليالي شهر رمضان اعتلى عبده الحامولي (1836 - 1901) ألمع المطربين في عصره، مئذنة «مسجد الحسين» لينقذ بصوته الجميل حي الجمالية في القاهرة من كارثة محققة.
كان الحامولي جالساً على قهوة «الخان» يدندن لمجموعة من أصدقائه (يهوداً ومسلمين ومسيحيين ولا دينيين) في ضيافة الخواجة إسكندر، أشهر تاجر منيفاتورة بالمغربلين، وما إن علم رواد القهاوي المجاورة بوجوده حتى تدافعوا داخل القهوة وخارجها، ليشاهدوا الحامولي، إذ لم تكن وسائل الإعلام والميديا في ذلك الزمان كما هي اليوم، ومن شدة الزحام والاختناق وخشية نشوب معركة كبيرة بين أصحاب القهاوي والفتوات في هذا الشهر الكريم، نصح أحد المقربين الحامولي بحل عبقري يُرضي جميع الأطراف، خصوصاً جمهوره الذي لا يملك المال لسماع صوته في الحفلات، وتَمثل هذا الحل في اعتلائه مئذنة المسجد لينشد بعض المدائح النبوية.
وجرت العادة على أن تُنشَد المدائح والتسابيح عقب أذان العشاء وصلاة التراويح من أعلى المنابر، لا سيما في العشر الأواخر من رمضان وتسمى بـ«التواحيش» في توديع الشهر الكريم، وبث ما لفراقه من الوحشة في النفوس.
وما إن بدأ الحامولي إنشاده الديني بصوته الجميل المنحدر إلى المسامع، حتى اكتظت ساحة الميدان وأسطح المنازل بالناس، وعلى أثر كل وقفة من وقفاته كان الجو يمتلئ تهليلاً وتكبيراً:
يا من تُحلّ بذكره
عُقد النوائب والشدائد
يا من لديه الملتقى
وإليه أمر الخلق عائد
وترتفع الآهات من الصدور كدويّ البحر الهادر: الله الله الله
واستمر الحامولي على هذه الحال لساعات من دون انقطاع.
بقي أن تعرف عزيزي القارئ أن رواية هـذه الواقعة –التي لا أملّ من تكرراها والكتابة عنها- على عُهدة الخواجة إسكندر، جدّ كاتب هذه السطور، الذي دوّن في مذكراته الكثير عن «أجواء رمضان العالمية» في ذلك الزمن الجميل.
* باحث مصري



ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
TT

ديون 25 عاماً من الأسئلة العراقية

عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)
عراقيون يسيرون أمام جدارية ضخمة لصدام حسين في بغداد عام 1991 (غيتي)

يسأل كثيرون في العراق بحكم عادة الإحباط: ماذا لو كان صدّام حسين يحكم حتى اليوم؟ يستسهل كثيرون أجوبة «فانتازية»، لكن أيام صدّام نفسها كانت لتجيب: عراق معزول، بحصار أو حرب يشنها هو، أو تُشن عليه.

يشكك عراقيون في أن «التحولات» قد تحققت بالفعل منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي أطاح بالنسخة العراقية من حزب «البعث»، ورئيسها الذي أُعدم في ديسمبر (كانون الأول) 2006، لتتراكم لاحقاً أسئلةٌ يفشل الجميع في الإجابة عنها.

بعد ربع قرن، يبدو العراق بلداً يجمع الأسئلة. يطويها ويمضي، هادئاً أو صاخباً، من دون أجوبة. في أفضل الأحوال يراجع نفسه فيعود إلى لحظة أبريل (نيسان) 2003. يفتح أسئلة جديدة عن الحرب الأهلية (2005)، والبدائل المسلحة (2007)، و«داعش» (2014) والاحتجاج (2019)، والنفوذ الإيراني (على طول الخط)، كلها أسئلة مطروحة على العراق، لا يجيب عنها العراقيون.

سؤال صدّام والبديل

زلزلت هجمات سبتمبر (أيلول) 2001 أميركا والعالم. ارتعدت بغداد. كان صدّام حسين ذلك العام قد «نشر» ما زُعِم أنها رواية هو مَن كتبها، «القلعة الحصينة». في شارع المتنبي، معقل الكتّاب والكُتبيين، وسط بغداد، كان روادٌ يقتنون سراً رواية أخرى، لكنها ممنوعة، للسوري حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر». والكتب الممنوعة تُباع بأغلفة «مستعارة»، مرة بغلاف كتاب «أم كلثوم... حياتها وأغانيها»، أو بغلاف كتاب آخر كان يقدم صدّام حسين «قائداً مفكراً».

في الرواية الأولى، كان بطلها «صباح حسن» الجندي في الجيش العراقي. تأسره إيران جريحاً فيهرب عائداً لصيانة «قلعة الأمة العربية». في الثانية يهرب بطلها «مهدي جواد»، الشيوعي العراقي، من بغداد إلى الجزائر، ليلقي نفسه في البحر، بعد قصة حب «منبوذة»، وليمةً في البحر.

كأن صدّام «المرعب» والعراقيين «المرعوبين» ينسجون قصصاً عن الهرب من العراق وإليه، في رحلة بين السؤال واللاجواب. في تلك السنة، وحين اتُّهم النظام بأنه طرف في هجمات «عالمية» لها صلة بتنظيم «القاعدة»، «انتُخب» -هكذا ورد الفعل في أدبيات «البعث»- قصي صدّام لعضوية لجنة قيادية في حزب البعث، وانطلقت تكهنات عن «التغيير» عبر التوريث بوصفه جواباً عن سؤال البديل، وكان بشار الأسد يومها قد أمضى مورَّثاً، عاماً على رأس البعث السوري، وبعد عامين غزت الولايات المتحدة بغداد، ووُلد عراق صار اليوم «كبيراً» بربع قرن، ولم ينضج بعد.

قبل 20 عاماً، في ظهيرة 9 أبريل 2003، لفَّ جندي من «المارينز» رأس تمثال صدّام بعلم أميركي. سأل عراقيون: لماذا لم تتركوا لنا هذه الصورة الأيقونية، بعَلم عراقي؟

جندي من «المارينز» يلفّ رأس تمثال صدام حسين وسط بغداد بعلم أميركي (رويترز)

سؤال بغداد وجواب واشنطن

حين يرصد عراقيون الزلزال السوري هذه الأيام، لا يستطيعون فهم كيف حدث «التغيير» السريع من دون دبابات أميركية وقاذفات «بي 52»، ولماذا يصر السوريون على الاحتفال كل يوم بـ«الحرية» من دون «أجنبي»، حتى مع الظلال التركية الناعمة، كما تصيبهم الدهشة من مزاحمة السوريين لـ«أبو محمد الجولاني» الذي لم يختفِ بعد، و«أحمد الشرع» الذي لم تكتمل ولادته، على أجوبة البديل، من دون حمَّام دم، حتى الآن.

لأن العراقيين يحكمون على العالم من ذكرياتهم، ويقيّمون الآخر من أسئلتهم التي لا يجيبون عنها. تفيد وقائع ربع قرن بأنهم ينتظرون من الآخر الإجابات.

تقول ذكريات العراقيين في أغسطس (آب) 2003، بعد 4 أشهر من احتلال العراق، إن السفارة الأردنية هوجمت بالقنابل، ومقر الأمم المتحدة بمركبة ملغومة قتلت موظفين من بينهم رئيس البعثة سيرجيو دي ميلو، واعتقل الأميركيون علي حسن المجيد، «الكيماوي»، ابن عم صدّام، كما قُتل 125 شخصاً في انفجار بالنجف من بينهم رجل الدين الشيعي محمد باقر الحكيم.

في ذلك الشهر الدامي، مثالاً، سأل العراقيون عن الأمن، ونسوا بديل صدّام والديمقراطية والنموذج الغربي الموعود، لتثبت الوقائع اللاحقة أن الجواب عن سؤال الأمن كان احتيالاً للتهرب من سؤال العدالة الانتقالية.

سيرجيو دي ميلو (يمين) وبول بريمر (الثاني من اليمين) يحضران الاجتماع الافتتاحي لمجلس الحكم العراقي في بغداد 13 يوليو 2003 (غيتي)

سؤال الحرب الأهلية

حين اصطحب بول بريمر، حاكم العراق الأميركي، أربعة من المعارضين إلى زنزانة صدّام حسين، انهالوا عليه بالأسئلة: «لماذا غزوت الكويت؟»، قال عدنان الباججي (دبلوماسي مخضرم)، و«لماذا قتلت الكرد في مجزرة الأنفال؟»، قال عادل عبد المهدي (رئيس وزراء أسبق)، و«لماذا قتلت رفاقك من البعثيين؟»، يسأل موفق الربيعي، مستشار الأمن القومي السابق، فيما لعنه أحمد الجلبي، فجفل صدّام، وابتسم.

خرج بريمر متخيلاً «هتلر في صدّام» كما وصف في مذكراته «عامي في العراق». خرج المعارضون الأربعة بأجوبة كان من المفترض أن تُعينهم على إدارة «العدالة الانتقالية»، ولم يفعل أحد. كان هذا أواخر ديسمبر 2003.

في العام التالي، سلَّمت واشنطن إياد علاوي حكومة مؤقتة محدودة الصلاحيات، لتتفرغ هي بصلاحية مفتوحة لمعركتين طاحنتين، في النجف ضد «جيش المهدي» بزعامة مقتدى الصدر، وأخرى ضد جماعات مسلحة في الفلوجة، من «مقاومين» و«أصوليين».

انشغل المعارضون في «مجلس الحكم الانتقالي» -هيئة مؤقتة شكَّلها بريمر على أساس المحاصصة في يوليو (تموز) 2003- بترتيب أوراق أعدها الأميركيون للحكم، وكتبوا مسودات عن خرائط الشيعة والسنة والكرد، محمولة على ظهر أسئلة تاريخية عن الأغلبية والأقلية، وحكم «المظلومين» من بعد «الظالمين».

على الأرض، كان حي الغزالية (غربي بغداد) المختلط يستعد لأول فرز طائفي، بالدم. تلك الليلة، شتاء 2005، نُحرت عائلة داخل حمّام المنزل، فأعاد المنتقمون رضيعاً إلى أهله، مخنوقاً. على الفور رُسمت حدود فاصلة بين السُّنة والشيعة، وتحولت سوق شعبية، تقسم المدينة إلى نصفين، إلى خط تماس. تبادل «جيشان» جديدان الهاونات و«الآر بي جي»، والكثير من الضحايا.

كتب المعارضون في مجلس الحكم، داخل المنطقة الخضراء، مسودة الحكم الانتقالي. صوَّت 8 ملايين عراقي لإنشاء «جمعية وطنية» في يناير (كانون الثاني) 2005، ولم يُعرف إذا كانوا قد قرروا استبدال أمراء الطوائف بصدّام، لكنهم اتفقوا في الغزالية على كتابة «رخصة عبور» للسنة والشيعة، من المهجَّرين والمهاجرين، لاجتياز خط التماس، وفرز المدينة.

تناسلت «جيوش» في بغداد، وباتت الصحافة ترقم الأخبار: من السبت إلى السبت، أيام دامية. وخلال عامين ضغط الأميركيون على بغداد لتثبيت الأمن. كان شارع «حيفا» المختلط، وسط بغداد، مسرحاً دموياً على مدار الساعة، مسكه «الجيش الرسمي»، فانفلتت جيوش أخرى في محيط الشارع ومنه إلى كل بغداد: نقاط تفتيش وهمية، وملثمون حقيقيون، بأسلحة الطوائف، و«الدماء إلى الركب».

تلك الأيام بدت جواباً على سؤال البديل، لكن مَن سأله ومَن أجاب عنه؟

عام 2006، ولأن إبراهيم الجعفري (أول رئيس وزراء منتخب) بات منبوذاً من الداخل والخارج، ذهب العراق فوراً إلى عصر نوري المالكي دون أن يجيب عن الأسئلة السابقة. قال المالكي ما معناه المجازي والحرفي: أنا دولة القانون. رأى العراقيون ذلك جواباً عن «الدولة» و«القانون»، وغضّوا الطرف عن الـ«أنا» في «منيفستو» المالكي الشهير.

نوري المالكي (غيتي)

سؤال المالكي

أُعجب الأميركيون بالمالكي. كان ديك تشيني (نائب الرئيس الأميركي 2001 - 2009) يتندر بالتزامه بـ«إنجاز استقرار العراق»، لكنه قبل ذلك كان قد أرسل جيمس ستيل (ضابط أميركي متهم بإدارة الحروب القذرة في السلفادور منتصف الثمانينات) إلى بغداد لمواجهة «التمرد السني»، بإنشاء «فرق الموت» الشيعية. كان ستيل يمشي في ظل أحمد كاظم، وكيل وزير الداخلية يومها، وفي ظله هو يسير أمراء حرب جدد.

في 2006، زُلزلت العملية السياسية العراقية بتفجير مرقد «العسكريين» في سامراء. انطلقت أسئلة عن «ضرورة» رسم الخرائط الجديدة، بتقاطعات حادة؛ إذ برَّأ المرجع علي السيستاني، في فبراير (شباط) 2007، «أهل السنة» من التفجير، لكنَّ المالكي نفى ضلوع طهران رداً على اتهام أميركي، في يوليو 2013.

يومها كانت «أنا» المالكي تتضخم، وفِرق ستيل المميتة تتناسل في شوارع العراق.

سؤال إيران... و«داعش»

حاول المالكي إنقاذ نفسه مع سقوط المدن تباعاً في يد «داعش»، رغم أنه «المنتصر» على إياد علاوي في انتخابات 2010 برصاصة رحمة «قانونية».

يوم 9 يونيو (حزيران) 2014، وكان التنظيم يخوض معارك في الموصل، اجتمع المالكي مع شيوخ قبائل ووجهاء سُنة بناءً على نصيحة كان قد أهملها لتدارك الأمر. قيل إنه وعدهم بما لا يريد، فسقط ثُلث العراق في يد «داعش»، وأفتى السيستاني بـ«الجهاد»، وتبيَّن لاحقاً أن الفتوى ليست لإنقاذ رئيس الوزراء.

رحل المالكي، ووصل قاسم سليماني. وتعلم رؤساء الوزارة اللاحقون كيف يرزحون تحت ضغط طهران، حتى حينما كان يتناوب جهاز «الإطلاعات» و«الحرس الثوري» على مكاتب الحكومة بوصفتَي عطار مختلفتين.

ما زرعه جيمس ستيل، جناه قاسم سليماني. ومع عام 2017 صارت الفصائل المسلحة قوة مهيمنة في العراق، تدور حولها فصائل أخرى، تلعب أحياناً أدوار «التمرد» و«المقاومة»، مع الحكومة وضدها.

يومها، وبعد 14 عاماً، أرست إيران أركان ما يجوز وصفها الآن بـ"حديقة المقاومة"، التي تفيض فصائل مسلحة وميزانيات مالية ضخمة.

متظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد أكتوبر 2019 (أ.ف.ب)

سؤال «تشرين»

لم يُجِب العراقيون عن سؤال «داعش»، وعادت الفصائل من معارك التحرير «منتصرة». وتجاهل كثيرون «جواب» السيستاني على سؤال «الحشد الشعبي» بوصفه «النجفي» قوة لـ«حماية العراق»، وليس الشيعة وحدهم، فاختنق الشارع بسؤال: ماذا بعد؟ جاءت حكومة عادل عبد المهدي، في أكتوبر 2018، بديون متراكمة من الأسئلة المعلقة. بعد عام، في أكتوبر 2019، خرج آلاف من الشباب يحتجون على احتيالات السؤال الأول، بأثر رجعي.

تلقى المحتجون جواباً بالرصاص الحي، قُتل المئات، وخُطف آخرون وأُسكت البقية. قدم عبد المهدي للقاتل هدية «التبرئة» بوصفه «طرفاً ثالثاً»، ورحل. لاحقاً ملك سياسيون عراقيون شيئاً من شجاعة الاعتراف، وأزاحوا لثام الطرف الثالث عن وجه الفصائل الموالية.

حيلة «الطرف الثالث» طرحت سؤالاً عن الحد الفاصل بين الفصائل والحشد الشعبي، ومر دون اكتراث جواب حامد الخفاف، ممثل السيستاني في 12 سبتمبر 2019: «المرجع ينتظر تنفيذ قانون وأمر ديواني، بفك ارتباط منتسبي (الحشد) عن الأطر الحزبية، وهيكلة هذه القوة».

تشكلت حكومة مصطفى الكاظمي في مايو (أيار) 2020، بوصفها حلاً وسطاً بين سؤال البديل وجواب الطرف الثالث، لم تصمد تسوياته، ولم ينجُ به «رقصه مع الأفاعي»، فرحل هو الآخر، كما نزل مقتدى الصدر من المسرح، بعد دراما عنيفة في قلب المنطقة الخضراء.

عام 2022، غادر الجميع، وبقيت إيران تتوج نفسها في العراق، بوضع اليد على كل شيء؛ من الدولار إلى السلاح.

سؤال ما بعد الأسد

بعد ربع قرن من احتيال صدّام حسين وبدلائه على الأسئلة الكبرى، هرب بشار الأسد من دمشق. وبدا أن النخبة السياسية تتوجس من هذه المفارقة، رغم أنها تطفو على بِركة من الأسئلة. مع ذلك تحاصر كل من يسأل عن عراق ما بعد الأسد بالريبة والشك، لأن عراق ما بعد صدّام محسوم من دون حسم.

برتبك العراق -دولةً ونظاماً- في هذه اللحظة. مواجهة السؤال السوري تكشف عن الارتباك: هل ننتظر طهران لتتعامل مع أحمد الشرع، أم نسأل الجولاني عن ذكرياته في العراق؟

ذكريات العراقيين تحكم، أكثر من الدستور والحياة الحزبية والبرلمان والمجتمع المدني، لأنهم مثقلون بسداد ديون الأسئلة التي لا يجيبون عنها، وإذ يسألون: ماذا لو لم نكن في «محور المقاومة»؟ يستسهل كثيرون أجوبة فانتازية، فيما أيام العراق نفسها كانت لتجيب: عراق محاور، ينتظر حرباً، أو يشارك في رسم خرائطها.