أجواء رمضان الجمالية: رؤية فلسفية معاصرة

مسلمون يحتلفون بحلول شهر رمضان في القدس (د.ب.أ)
مسلمون يحتلفون بحلول شهر رمضان في القدس (د.ب.أ)
TT

أجواء رمضان الجمالية: رؤية فلسفية معاصرة

مسلمون يحتلفون بحلول شهر رمضان في القدس (د.ب.أ)
مسلمون يحتلفون بحلول شهر رمضان في القدس (د.ب.أ)

في العقود الثلاثة الأخيرة تزايد الاهتمام بـ«صناعة الأجواء» الجمالية، وبرز اسم الفيلسوف الألماني جيرنوت بوهمه (1937 – 2022) ومفهومه الجديد عن ماهية الغلاف الجوي، حيث يمزج في مؤلفاته بين الفلسفة والهندسة المعمارية وتصميم المناظر الطبيعية والسينوغرافيا والموسيقى والفنون المرئية، فيما يشبه نزعة إنسانية جديدة تعزز «ديمقراطية الثقافة»، ومشاركة الجميع في الفن وأعماله.
«الغلاف الجوي» يتوسط كل شيء في حياتنا، ما في الفضاء وما على الأرض، يؤثر فينا ويتأثر بنا، وصار اليوم إحدى التيمات الأساسية في مجال الجماليات والفنون أيضاً، خصوصاً مع انتشار العوالم الافتراضية والتكنولوجيا الرقمية.
ورغم صعوبة أفكار بوهمه الفلسفية، فإن أصحاب الثقافة العربية والإسلامية هم الأقرب إلى استيعابها وفهمها، بمجرد أن يستحضروا أيام وليالي شهر رمضان المبارك، ويتأملوا: كيف تلعب «الثقافة» بالجغرافيا؟ وكيف تلون الأجواء الرمضانية وجداننا، وتؤثر على تصوراتنا وتفاعلاتنا؟
(1)
يعترف بوهمه بأن «صناعة الأجواء» عنوان متناقض: لأن الصنع يتعلق بشيء ملموس، بينما الغلاف الجوي ليس كذلك. المثال الذي يسوقه لشرح فكرته هو «فن المسرح» الذي تتجلى فيه المفاهيم الرئيسية للغلاف الجوي، وكيف يتم التلاعب الفني بالأجواء (عن قصد) للتأثير على مزاجنا ومواقفنا وعواطفنا، من خلال استخدام الديكور والإضاءة ودرجة الحرارة والصوت والعناصر الحسية الأخرى التي تتّحد معاً لتمارس تأثيراً معيناً.
ولا غرابة في ذلك، فقد انتقلت مفردات الغلاف الجوي من الأرصاد الجوية إلى قاموسنا اللغوي منذ القرن الثامن عشر، ولم تعد الآن مجرد «استعارات» أو صيغ بلاغية نستخدمها في وصف الحالات الإنسانية المزاجية والعاطفية، في مجال: الجماليات والسياسة والعلاقات الاجتماعية، مثل: تلطيف الأجواء، والمناخ السياسي، وجو المفاوضات، وأجواء من التوتر ملبّدة بالغيوم، وأجواء ودّية، وسحابة صيف، وفجر جديد في العلاقات الدولية... إلخ.
ما يعني أن «الأجواء» في حضارتنا المعاصرة ليست غلافاً خارجياً محايداً أو خلفية سلبية ساكنة، بل قوة حيوية ديناميكية تشكّل فهمنا للعالم من حولنا.
وفي السنوات الأخيرة، انتشرت أفكار بوهمه وامتدت إلى المعارض الفنية العالمية التي تداعب الحواس الخمس، وتبتلع الجمهور داخل الأعمال الفنية الشهيرة لفان جوخ ودافنشي وبيكاسو وغيرهم، عبر دوامات من الألوان والأنغام والعطور التي تغمر الزوار، وتتحدى الحدود التقليدية السابقة بين الفن والتكنولوجيا بطرق جديدة ومعقدة.
وألهمت أدوات الذكاء الصناعي –في ديسمبر (كانون الأول) 2022– أجواء أسواق الكريسماس وأعياد الميلاد في الغرب عبر الجمع بين المكونات المادية والعوالم الافتراضية: الضوء الدافئ المنبعث من الشموع، وتألق العرض الرقمي المبهر للبضائع، مع الإحساس بالدفء المنبعث من الحشود البشرية في الشوارع ومراكز التسوق، وتصاعد روائح اللوز المحمص، وكعكة التفاح، والنقانق، وطعم المخبوزات الطازجة.
فيما يشبه تقريباً الأجواء الرمضانية المتلألئة في ليالي الرياض والقاهرة وبيروت وغيرها، حيث تتزين الشوارع بالفوانيس والأهلّة والنجوم والزخارف والمنمنمات الإسلامية والأقمشة الخيامية، وتحتضن روائح البخور والعود والمسك والعنبر الشموع الملونة العطرية، وتتراص التمور وقمر الدين والكركديه والخرنوب حول القطائف والكنافة والياميش والمشاوي، على وقع دقات المسحراتي ومدفع الإفطار وأصوات الابتهالات والإنشاد الديني.
(2)
الأجواء ليست مجرد ظواهر طبيعية وجمالية فقط، ولكنها تتأثر أيضاً بالعوامل الثقافية والتاريخية والاجتماعية، كما يشير بوهمه، ذلك أن أماكن العبادة، على سبيل المثال، ليست مجرد مبانٍ مادية مثل غيرها، وإنما تكتسب ماهيتها أساساً من أهميتها الروحية والثقافية.
الشيء نفسه ينسحب على الأماكن التاريخية والتراثية، ذلك أن الغلاف الجوي هو وسيط (غير ملموس) بين الذات والموضوع، ومن ثم يقترح بوهمه دارسة الأجواء من الجانبين، لأن: «الأجواء مساحات تحتضن حالات مزاجية فريدة ومتباينة»، وأفضل ترجمة لهذه العبارة هي «قهوة الفيشاوي» في خان الخليلي بالقاهرة، ورغم تجاوز عمرها أكثر من مائتي عام، وأنها هُدمت وأُعيد بناؤها أكثر من مرة، فإنها ظلت على عهدها الأول كمساحة مكانية متميزة تحتكر فنون السرد والسمر واللعب والصحبة والذكريات، وتحتضن في نفس الوقت الحالات المزاجية والسمات الشخصية والنماذج البشرية شديدة التباين والتفرد: من العامة والدهماء والبسطاء، والمشاهير والكتاب والفنانين، والحرافيش والدراويش والحكام والباشوات والبكوات.
لقد منحها الموقع الجغرافي –إضافةً للعمق التراثي– هـذه المكانة. حيث يقع «مسجد الحسين» على يسار البوابة الرئيسية لعبور خان الخليلي، وعلى اليمين يوجد الأزهر الشريف، إضافة إلى تصميمها على الطراز العربي الإسلامي القديم: المشربيات والزجاج المعشّق الملوّن والمرايات والثريّات وخشب الأرابيسك المطعّم بالصدف.
وتكاد تشم عبق التاريخ في ربوعها، فلونها البنّي المحروق وحوائطها الصفراء الداكنة بفعل دخان الشيشة وآثار الزمان، جعلت منها مزاراً لعشاق الأصالة والتراث على مر العصور.
وهي مقسمة إلى حجرات، لكل منها تاريخ خاص و«أجواء خاصة»: حجرة «الباسفور» مبطنة بالخشب المطعم بالأبانوس، تمتلئ بالتحف والثريّات النادرة والكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، أدواتها من الفضة والكريستال والصيني، وكانت مخصصة للملك فاروق في رمضان، وكبار ضيوف مصر من العرب والأجانب.
أما «التحفة» فهي من أقدم حجرات القهوة، وهي اسم على مسمى؛ حيث الصَّدَف والخشب المزركش والعاج والأرابيسك والكنب المكسوّ بالجلد الأخضر، وهي خاصة بالفنانين.
وتوجد حجرة ثالثة تسمى «القافية»، وهي أشبه بموسوعة كاملة لأجمل القفشات واللعب الساخر بالكلمات، إذ كانت الأحياء الشعبية في النصف الأول من القرن العشرين تتبارى كل خميس من شهر رمضان في فن القافية، عن طريق زعيم يمثلها، من سماته خفّة الظل وسرعة البديهة واللماحية وطلاقة اللسان والقفشة اللاذعة، فكان يبدأ ثم يرد عليه زعيم آخر (إشمعنى)... وهكذا حتى يُفحم أحدهما الآخر، وسط ضحكات وقهقهات الحاضرين.
(3)
الانغماس في الأجواء الجمالية والترفيهية أدى إلى تحول الجماليات إلى نظام من الانعكاسات المعرفية، كما أفرز بدوره إشكاليات معرفية جديدة طالت مفهوم «الزمان» و«المكان»، ومن ثم أصبح السؤال الراهن: أين تقع الحدود بالضبط بين الفضاء والأرض؟ لا سيما مع حالة التماهي بين مستخدمي العوالم الافتراضية في «الفضاء السيبراني» ورواد الأسواق والمعارض الفنية والحفلات الترفيهية على «الأرض».
وأُشير هنا إلى «موسم الرياض» في المملكة العربية السعودية بمختلف فعالياته وأنشطته، كنموذج عالمي تطبيقي لنظرية الأجواء الجمالية عند بوهمه وكيفية صناعتها بمهارة في عالمنا العربي والإسلامي المعاصر.
الجديد هنا أن هذا النموذج الخاص من «نظرية الأجواء الجمالية» جاء ضمن تخطيط علمي مدروس لتحقيق حزمة من الأهداف الطموحة، في مقدمتها: «جودة الحياة» داخل رؤية وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان (للمملكة 2030)، من خلال هيئة الترفيه التي يُبدع في إدارتها المستشار تركي آل الشيخ.
وكلما شاهدت كمَّ الإبهار والمتعة في ليالي الرياض الفنية ومدى تفاعل النجوم وتألقهم فضلاً عن انغماس الجمهور في الأجواء الجمالية الترفيهية، أقارن بشكل آليٍّ بين: كيف كنا في الماضي وكيف أصبحنا في الألفية الثالثة، من حيث الإمكانيات الحديثة والعوالم الافتراضية والوسائط التكنولوجية والنظريات الجمالية والتخطيط والتنفيذ والاستراتيجيات الجديدة؟
وتحضرني هذه الواقعة التاريخية التي تكشف عن مدى حب الجمهور العربي للفن والفنانين، وشغفه بالأجواء الجمالية الترفيهية على مر العصور، حتى ولو كانت الإمكانيات المادية والتكنولوجية متواضعة، فما بالك بما نمتلكه اليوم!
ففي إحدى ليالي شهر رمضان اعتلى عبده الحامولي (1836 - 1901) ألمع المطربين في عصره، مئذنة «مسجد الحسين» لينقذ بصوته الجميل حي الجمالية في القاهرة من كارثة محققة.
كان الحامولي جالساً على قهوة «الخان» يدندن لمجموعة من أصدقائه (يهوداً ومسلمين ومسيحيين ولا دينيين) في ضيافة الخواجة إسكندر، أشهر تاجر منيفاتورة بالمغربلين، وما إن علم رواد القهاوي المجاورة بوجوده حتى تدافعوا داخل القهوة وخارجها، ليشاهدوا الحامولي، إذ لم تكن وسائل الإعلام والميديا في ذلك الزمان كما هي اليوم، ومن شدة الزحام والاختناق وخشية نشوب معركة كبيرة بين أصحاب القهاوي والفتوات في هذا الشهر الكريم، نصح أحد المقربين الحامولي بحل عبقري يُرضي جميع الأطراف، خصوصاً جمهوره الذي لا يملك المال لسماع صوته في الحفلات، وتَمثل هذا الحل في اعتلائه مئذنة المسجد لينشد بعض المدائح النبوية.
وجرت العادة على أن تُنشَد المدائح والتسابيح عقب أذان العشاء وصلاة التراويح من أعلى المنابر، لا سيما في العشر الأواخر من رمضان وتسمى بـ«التواحيش» في توديع الشهر الكريم، وبث ما لفراقه من الوحشة في النفوس.
وما إن بدأ الحامولي إنشاده الديني بصوته الجميل المنحدر إلى المسامع، حتى اكتظت ساحة الميدان وأسطح المنازل بالناس، وعلى أثر كل وقفة من وقفاته كان الجو يمتلئ تهليلاً وتكبيراً:
يا من تُحلّ بذكره
عُقد النوائب والشدائد
يا من لديه الملتقى
وإليه أمر الخلق عائد
وترتفع الآهات من الصدور كدويّ البحر الهادر: الله الله الله
واستمر الحامولي على هذه الحال لساعات من دون انقطاع.
بقي أن تعرف عزيزي القارئ أن رواية هـذه الواقعة –التي لا أملّ من تكرراها والكتابة عنها- على عُهدة الخواجة إسكندر، جدّ كاتب هذه السطور، الذي دوّن في مذكراته الكثير عن «أجواء رمضان العالمية» في ذلك الزمن الجميل.
* باحث مصري



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي