هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

سهَّل عمليات البحث بموازاة التشجيع على «الغش»

«تشات جي بي تي» أقرب نموذج ذكاء صناعي للمخ البشري (adobe stock)
«تشات جي بي تي» أقرب نموذج ذكاء صناعي للمخ البشري (adobe stock)
TT

هل يدعم «تشات جي بي تي» التعليم أم يهدده؟

«تشات جي بي تي» أقرب نموذج ذكاء صناعي للمخ البشري (adobe stock)
«تشات جي بي تي» أقرب نموذج ذكاء صناعي للمخ البشري (adobe stock)

رغم ما يتمتع به «تشات جي بي تي» من إمكانيات تمكنه من جمع المعلومات من مصادر مختلفة، بسرعة كبيرة، توفر وقتاً ومجهوداً للباحث، وتمنحه أرضية معلوماتية يستطيع أن ينطلق منها لإنجاز عمله، فإن للتقنية سلبيات كونها قد تدفع آخرين للاستسهال، وربما الاعتماد عليها بشكل كامل في إنتاج موادهم البحثية، محولين «تشات جي بي تي» إلى أداة لـ«الغش» العلمي. الأمر الذي يثير تساؤلات بشأن استخدام الذكاء الصناعي في التعليم والبحث العلمي، أم لا؟
من بين 20 طالباً في أحد الفصول الدراسية بمدرسة تابعة لنظام «البكالوريا الدولية» بدولة أستراليا، قدم خمسة طلاب محتوى متشابهاً، عند كتابة أحد الأبحاث التي تم تكليف الفصل الدراسي بها؛ وهو ما ساعد مدرس اللغة الإنجليزية مارتن فنسنت، على اكتشاف استخدام الطلاب الخمسة برنامج «تشات جي بي تي» في الكتابة.
هذه هي إحدى الطرق البسيطة التي نصح بها فنسنت زملاءه، حتى يتمكنوا من اكتشاف النصوص المكتوبة بآلية الذكاء الصناعي التي يتيحها «تشات جي بي تي»، وذلك خلال نقاش بموقع «رديت»، الذي يستخدمه مدرسو وطلاب «البكالوريا الدولية» في التواصل.
لكن المدرس نفسه قال لـ«الشرق الأوسط»، عندما طلبت منه التعليق على استخدام الطلاب لهذه الأداة، إنه «لا يمانع استخدامها، كأداة توجيهية للطالب ترشده إلى مصادر يمكن أن يستغرق وقتاً طويلاً في البحث عنها».

يوفر «تشات جي بي تي» طريقة للتفاعل مع الذكاء الصناعي عن طريق المحادثة (غيتي)

هذا الحد الفاصل بين أن يكون «تشات جي بي تي» داعماً للتعليم، يُسهل عمليات البحث، وبين مهدد للعملية التعليمية، إذا ما عمد مستخدموه إلى «الغش». أشار إليه فنسنت في تعليقه، وأكدت عليه دراسات في مجالات مختلفة، رأت في هذا البرنامج «نعمة كبيرة»، يجب حمايتها من سوء الاستخدام الذي يحولها إلى «نقمة»، تهدد ما يعرف بـ«النزاهة الأكاديمية».
ويستطيع هذا البرنامج الذي طورته شركة أبحاث الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي» بمدينة سان فرانسيسكو، استخدام كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر العامة، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى أشبه بذلك الذي ينتجه البشر، من خلال «خوارزميات» تقوم بتحليل عدد هائل من البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النص الذي يوفره البرنامج «سرقة أدبية» بالمعنى التقليدي، لأن البرنامج «لم ينسخ عملاً سابقاً»، ما يعني أنه لا يمكن لبرامج كشف الانتحال التي تستخدمها المدارس والجامعات، اكتشافه.

تشخيص أمراض العيون

ويدعم مايكل بالاس، الباحث بكلية الطب بجامعة تورونتو بكندا، والذي قاد فريقاً لدراسة استخدام البرنامج في تشخيص أمراض العيون، استخدام «تشات جي بي تي». ويقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»: «يمكن أن تكون نماذج لغة الذكاء الصناعي أداة قوية للمساعدة في مختلف جوانب كتابة البحث، ولكن لا ينبغي أن تحل محل الخبرة والتفكير النقدي للباحثين، الذين يجب عليهم استخدام المحتوى الذي تم إنشاؤه بواسطة الذكاء الصناعي كنقطة انطلاق، ومراجعة المحتوى وتعديله بعناية لضمان دقته وجودته».
ووجّه النصيحة نفسها للمرضى الذين قد يلجأون إلى «دكتور تشات جي بي تي»، الذي حقق دقة عالية في التشخيص، كما كشفت دراسة منشورة في عدد مارس (آذار) الحالي بدورية «طب العيون».
وحدد «تشات جي بي تي» التشخيص الصحيح في 9 من 10 حالات تم عرضها عليه، وهو ما يفوق «دكتور غوغل»، كما يؤكد بالاس؛ لأن «البرنامج مصمم لفهم وتحليل استفسارات اللغة الطبيعية، وتقديم معلومات أكثر دقة، كما يمكنه أيضاً مراعاة التاريخ الطبي الفريد للمريض، وعوامل نمط الحياة، والمعلومات الأخرى ذات الصلة، لتقديم توصيات أكثر دقة».
ورغم ذلك، ينصح بالاس المرضى بالنصيحة التي وجهها للباحثين، وهي أن يكون البرنامج «أداة مساعدة وليس بديلاً للطبيب». ويقول إنه «لا ينبغي استخدام نماذج لغة الذكاء الصناعي بديلاً للاستشارة الطبية عند اختصاصي رعاية صحية مرخص».
تشديد بالاس على هذه النصيحة، رغم اعتراف الدراسة التي قادها بدقة تشخيص «تشات جي بي تي»، يشير بوضوح إلى وجود نسبة من الخطأ في إجابات البرنامج، وهذه النسبة، تظهر عند استخدام البرنامج في إعداد الأبحاث والواجبات المدرسية، ويستطيع المدرس المحترف اكتشافها، وتكون دليلاً على الاستخدام «غير الأمين» للبرنامج، حال لم تجد الطريقة التي أوضحها، مدرس اللغة الإنجليزية مارتن فنسنت، في البداية.

الأخطاء الأسلوبية

واعتمدت الطريقة التي أوضحها فنسنت على قيام أكثر من طالب في الفصل الدراسي باستخدام البرنامج لإعداد نفس البحث. ولكن، إذا استخدمه طالب واحد فقط، تكون الطريقة المثلى التي يوضحها ويل هيوز، وهو مدرس للغة الإنجليزية في أحد مدارس «البكالوريا الدولية» في بريطانيا، هي الأخطاء الأسلوبية.
وقال هيوز على موقع التواصل الاجتماعي «رديت»، الذي يستخدمه مدرسو وطلاب «البكالوريا الدولية»، إنه «تمكن من اكتشاف نصوص مكتوبة ببرنامج (تشات جي بي تي)؛ لأن ما يكتبه البرنامج يكون مليئاً بالأخطاء الأسلوبية».
والأخطاء الأسلوبية سمة مميزة لبرامج الكتابة بالذكاء الصناعي، وقد أشارت تجربة عملية قام بها موقع المعلومات التعليمية «EduRef» إلى هذه السمة، التي يمكن أن تكون أداة لاكتشاف النصوص المكتوبة بهذه البرامج.
وفي التجربة، التي نشر تفاصيلها موقع «نيتشر إنديكس» في 17 أغسطس (آب) 2021، تم تكليف مجموعة من الخريجين الجدد والطلاب الجامعيين المهام نفسها التي تم تكليف «جي بي تي 3» بها، وهو برنامج أنتجته الشركة المنتجة لـ«تشات جي بي تي».
وتم تقييم المهام من قِبل مدرسين لا يعرفون الأعمال المكتوبة من قِبل الخريجين والطلاب، وتلك المكتوبة بالذكاء الصناعي، فتمت الإشادة بالبرنامج لكتابته افتتاحية وتحولات ممتازة، ولكن تم انتقاده لاستخدامه لغة مربكة، ولإخفاقه في صياغة سرد قوي.
وكانت الميزة الواضحة للذكاء الصناعي، هي «عامل الوقت»، فبينما استغرق ما بين ثلاث إلى 20 دقيقة لكتابة ورقة، احتاج الطلاب إلى ثلاثة أيام.

عابد حليم الأستاذ بقسم الهندسة الميكانيكية بالجامعة الإسلامية في نيودلهي بالهند (الجامعة الإسلامية)

وقبل تلك التجربة بشهر واحد، نشر باحثون متخصصون في علوم الكمبيوتر بالمعهد الجامعي الفرنسي، دراسة على موقع ما قبل طباعة الأبحاث (أركايف)، تشير إلى اكتشافهم العديد من الدراسات في مجال تخصصهم تمت كتابتها باستخدام الذكاء الصناعي؛ وذلك لوقوع أصحابها في أخطاء أسلوبية، تمثلت في استخدام «عبارات غريبة».
وقال غيوم كاباناك، الباحث الرئيسي بالدراسة، في تقرير نشره موقع «نيتشر» في 5 أغسطس 2021، إنه «في أبريل (نيسان) 2021، لفتت انتباهه سلسلة من العبارات الغريبة في مقالات المجلات الخاصة بعلوم الكمبيوتر»، ولم يستطع فهم سبب استخدام الباحثين مصطلحات «الوعي المزيف»، و«التنظيم العصبي العميق» و«المعلومات الهائلة»، بدلاً من المصطلحات المعروفة على نطاق واسع مثل «الذكاء الصناعي»، و«الشبكة العصبية العميقة»، و«البيانات الضخمة».
وكشفت المزيد من التحقيقات، عن أن هذه المصطلحات الغريبة، التي أطلق عليها ورفاقه في البحث «عبارات مشوهة»، تنتشر في أوراق علوم الكمبيوتر، حيث وجدوا أكثر من 860 بحثاً تضمنت واحدة على الأقل من العبارات، وتم نشر 31 منها في مجلة واحدة، وهي «ميكروبروسيسور آند ميكروسيستمز».
والعبارات «المشوهة»، كما عرفها كاباناك، هي «ما يحدث للكلمات التي تُترجم من الإنجليزية إلى لغة أجنبية أخرى، ثم تعود إلى اللغة الإنجليزية، ربما بواسطة جهاز كمبيوتر يحاول إنشاء منشور علمي لمجموعة من المؤلفين عديمي الضمير».

تفادي الأخطاء

ويعتقد عابد حليم، الأستاذ بقسم الهندسة الميكانيكية بالجامعة الإسلامية في نيودلهي بالهند، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن «(شات جي بي تي)، سيعمل على تفادي الأخطاء الأسلوبية في نسخته المحدثة، التي تفهم التفاصيل الدقيقة للغة الطبيعية التي ينتجها الإنسان، باستخدام كميات هائلة من البيانات من الإنترنت».
ويقول حليم، الذي قاد دراسة نُشرت في أكتوبر (تشرين الأول) عن البرنامج بدورية (TBench)، إنه «إذا لم يكن المدرس أو البروفسور المشرف على الباحث الجامعي، مدركاً للمستوى الحقيقي للطالب، فقد ينجح في خداعه بأوراق بحثية كتبها الذكاء الصناعي، ما لم توجد برامج أخرى تستخدم أيضاً الذكاء الصناعي لاكتشاف الأوراق البحثية المكتوبة به».
وتبشر الشركة المسؤولة عن موقع «تيرن إت إن Turnitin»، وهو موقع أميركي يستخدمه طلاب «البكالوريا الدولية» والباحثون في الجامعات والمشرفون عليهم، للتأكد من أصالة البحث، ومنع السرقات العلمية، بما طالب به حليم.
ويقول إريك وانج، نائب رئيس الذكاء الصناعي في الشركة، لـ«الشرق الأوسط»، إنه «بينما تتطور أدوات الكتابة بالذكاء الصناعي مثل (تشات جي بي تي)، يتطور (تيرن إت إن) بسرعة معها، وتوجد الآن تقنية لاكتشاف أشكال متعددة من الكتابة بالذكاء الصناعي، سواء تلك المكتوبة باستخدام (جي بي تي 3)، و(تشات جي بي تي)».
ويشرح وانج، الآلية المستخدمة في (تيرن إت إن) لاكتشاف النصوص المكتوبة بالذكاء الصناعي، ويقول: إن «(تشات جي بي تي)، و(جي بي تي 3)، يقومان بإنشاء نص عن طريق وضع الكلمة الأكثر احتمالاً في المكان الأكثر احتمالية، ويؤدي هذا إلى إنشاء توقيع إحصائي يمكن اكتشافه، لأن هذا التوقيع الإحصائي، يبدو مختلفاً تماماً عن الكتابة البشرية، حيث تميل الكتابة البشرية إلى أن تكون شخصية وغير متسقة، وتم تدريب التقنية على اكتشاف هذه الاختلافات في احتمالية الكلمات».

إريك وانج نائب رئيس الذكاء الصناعي في شركة «تيرن إت إن» (تيرن إت إن)

ويرفض وانج «شيطنة أدوات الذكاء الصناعي»، ويقول «من المهم إدراك أن وجود قدرات الكتابة بالذكاء الصناعي، لا يشير إلى نهاية الفكر الأصلي أو التعبير الأصلي، إذا تم تحديد المعايير الصحيحة لاستخدامها». ودعا المدرسين إلى الحديث مع طلابهم بشأن معايير استخدام برامج الذكاء الصناعي، والاستخدام المقبول له.
وما أشار إليه وانج في حديثه عن «الاستخدام المقبول» للذكاء الصناعي، هو ما أكدت عليه أيضاً دراسة نشرت في 25 فبراير (شباط) الماضي بدورية «كريتيكال كير»، تحت عنوان «هل يمكن للذكاء الصناعي أن يساعد في الكتابة العلمية؟».

حوار مع «تشات جي بي تي»

وذهب الباحثون في تلك الدراسة التي قادها ميشيل سالفانو، من قسم العناية المركزة بمستشفى «إيراسمي» بجامعة بروكسل، إلى أن «تشات جي بي تي»، هو برنامج ذكاء صناعي قادر على المساعدة في عملية كتابة ورقة علمية، ويمكن أن يساعد في مراجعة الأدبيات، وتحديد أسئلة البحث، وتقديم نظرة عامة على الحالة الحالية في مجال طب الرعاية الحرجة، والمساعدة في المهام، مثل التنسيق والمراجعة الإملائية، لكنه لا يجب أن يصبح كاتباً للمحتوى».
وأجرى الباحثون تجربة «ساخرة» تم تضمينها في دراستهم لتوصيل هذه الرسالة، حيث طلبوا من برنامج «تشات جي بي تي»، مراجعة ورقتهم البحثية، وسألوه «إذا كان مؤلفاً مشاركاً بها، هل يوافق على إرسالها إلى دورية (كريتيكال كير)؟» فجاء الرد من البرنامج، كالآتي «بصفتي نموذجاً للذكاء الصناعي، لا يمكنني مراجعة أو إرسال الأوراق إلى المجلات، لأنني لست باحثاً أو مؤلفاً، ومع ذلك، يمكنني أن أقدم لك بعض التعليقات على الورقة التي قدمتها، حيث تقدم الورقة لمحة عامة واضحة وشاملة عن الاستخدامات المحتملة لـ(تشات جي بي تي) في الكتابة العلمية، وتحديداً في مجال طب الرعاية الحرجة، وتوفر المقدمة خلفية جيدة عن (تشات جي بي تي) وكيف يمكن استخدامه في مهام مختلفة، وتستمر الورقة في مناقشة الاستخدامات المحتملة لـ(تشات جي بي تي) في الكتابة العلمية، مثل إنشاء المسودة والبحث الأدبي ومراجعة اللغة، وتتطرق الورقة أيضاً إلى الاهتمامات الأخلاقية وقيود استخدام (تشات جي بي تي) في الكتابة العلمية، وأوصي بمراجعة الورقة مرة أخرى، والتحقق من الأخطاء النحوية والإملائية، والتأكد من تنسيق الاستشهادات والمراجع بشكل صحيح، وسيكون من المهم أيضاً الحصول على استنتاج مناسب يلخص الأفكار الرئيسية للورقة ووجهات النظر المستقبلية، ومن المهم أن تضع في اعتبارك أنه يجب دائماً استخدام (تشات جي بي تي) جنباً إلى جنب مع خبرة الخبراء البشريين وحكمهم، ويجب التحقق من مخرجاتها قبل استخدامها في الممارسة السريرية».

الاستخدام بشروط

هذه الإجابة التي أوردها «تشات جي بي تي»، تشير إلى الحدود المسموح بها لاستخدام البرنامج، والتي تلخصها عبارة «نوافق على استخدامه في دعم صناعة المحتوى، وليس تقليد المحتوى»، والتي جاءت في تعليق استقبلته «الشرق الأوسط»، من ماثيو جلانفيل، رئيس مبادئ وممارسات التقييم بمنظمة «البكالوريا الدولية»، والناطق الرسمي باسم المنظمة. ويقول جلانفيل، إنه «أثناء تطوير البرامج التي يمكن أن تكتشف النص المكتوب بواسطة الذكاء الصناعي، يمكن أن تتحسن تقنيات الذكاء الصناعي، وتصبح أكثر تعقيداً، بحيث لا يمكن التعرف على إنتاجها بشكل موثوق».
ويضيف «التركيز في البكالوريا الدولية هو على التطلع إلى المستقبل؛ ما يعني أن تطبيع استخدام الذكاء الصناعي في الأعمال وفي العديد من الأماكن الأخرى، يجب أن يستتبعه تصميم التعليم المناسب للطلاب الذين سيعيشون في هذا العالم».
وانطلاقاً من تلك الرؤية للمنظمة، يؤكد الناطق الرسمي باسم المنظمة، أن «البكالوريا الدولية لا تمانع من استخدام (تشات جي بي تي) أو أي أداة أخرى للذكاء الصناعي، طالما يتماشى الاستخدام مع سياسة النزاهة الأكاديمية للمنظمة».
والنزاهة الأكاديمية، كما يوضح جلانفيل، جانب أساسي من جوانب التدريس والتعلم في برامج البكالوريا الدولية، ويقول إنه «منذ الصغر، تتم مساعدة طلاب البكالوريا الدولية على تعلم القدرة على التمييز بين التصرف بنزاهة (القيام بعملهم الخاص) وعدم النزاهة (تقليد الآخرين)؛ ولهذا السبب، يُتوقع من جميع الطلاب المشاركين في برامج البكالوريا الدولية أن يختاروا التصرف بأمانة وشفافية ومسؤولية وأخلاقية».

إيكل بالاس الباحث بكلية الطب بجامعة تورونتو بكندا (جامعة تورونتو)

وبالإضافة إلى الاعتماد على استيعاب الطلاب لسياسة المنظمة، يشير جلانفيل أيضاً، إلى أن «لدى البكالوريا الدولية مجموعة متنوعة من العمليات، والسياسات الصارمة التي تقلل من مخاطر انتحال الطالب، أو سوء السلوك المدرسي، وتتحقق من صحة عمل الطلاب، حيث تعمل المنظمة بشكل وثيق مع مدارس البكالوريا الدّوليّة والمدرّسين، حتى يتمكنوا من التأكد أن الطالب أنتج عملاً كاملاً من لا شيء».
ويضيف «على سبيل المثال، تركز جميع دورات البكالوريا الدولية مع المعلمين على ضرورة مقابلة الطلاب بانتظام، أثناء مرحلة البحث والكتابة لمنع الممارسات الخاطئة، ويوفر ذلك للمعلمين الفرصة لسؤال الطلاب عن أفكارهم وحججهم للتأكد من أن عمل الطالب هو انعكاس حقيقي لما يفهمه، وأنه متسق مع العمل أو أسلوب الكتابة السابق».
وطالما أن المدرس والطالب يدركان سياسة المنظمة، فلا يوجد مشكلة في رأي جلانفيل من استخدام «تشات جي بي تي» أو أي برنامج من برامج الذكاء الصناعي، ولكن في إطار كونه أداة مساعدة أشبه بالتحدث مع زملائه الطلاب، والمناقشات مع المعلمين، وفي هذه الحالة فهو «لا يضر بأي حال من الأحوال بعملية التعلم».
ويوضح، أنه «لا يجب أن يتعدى استخدام (تشات جي بي تي)؛ كونه مصدراً، تماماً مثل استخدام الأفكار المأخوذة من أشخاص آخرين أو الإنترنت، وكما هو الحال مع أي اقتباس من مصدر آخر، يجب أن يكون ذلك واضحاً في متن النص، ويُشار إليه بشكل مناسب في الببليوغرافيا، الخاصة بالبحث».
ويتوقع جلانفيل، أن «يكون توظيف الطلاب للبرنامج بهدف دعم صناعة المحتوى، وليس تقليد المحتوى، وذلك لإنتاج أعمال أصيلة وأصلية تعبر عن قدراتهم الخاصة».


مقالات ذات صلة

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

الولايات المتحدة​ دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

دراسة تكشف: مدرستك الثانوية تؤثر على مهاراتك المعرفية بعد 60 عاماً

أظهر بحث جديد أن مدى جودة مدرستك الثانوية قد يؤثر على مستوى مهاراتك المعرفية في وقت لاحق في الحياة. وجدت دراسة أجريت على أكثر من 2200 من البالغين الأميركيين الذين التحقوا بالمدرسة الثانوية في الستينات أن أولئك الذين ذهبوا إلى مدارس عالية الجودة يتمتعون بوظيفة إدراكية أفضل بعد 60 عاماً، وفقاً لشبكة «سكاي نيوز». وجد الباحثون أن الالتحاق بمدرسة مع المزيد من المعلمين الحاصلين على تدريب مهني كان أوضح مؤشر على الإدراك اللاحق للحياة. كانت جودة المدرسة مهمة بشكل خاص للمهارات اللغوية في وقت لاحق من الحياة. استخدم البحث دراسة استقصائية أجريت عام 1960 لطلاب المدارس الثانوية في جميع أنحاء الولايات المتحدة

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
العالم العربي مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

مصر: نفي رسمي لـ«إلغاء مجانية» التعليم الجامعي الحكومي

نفت الحكومة المصرية، أمس السبت، عزمها «إلغاء مجانية التعليم الجامعي»، مؤكدة التزامها بتطوير قطاع التعليم العالي. وتواترت أنباء خلال الساعات الماضية حول نية الحكومة المصرية «إلغاء مجانية التعليم في الجامعات الحكومية»، وأكد مجلس الوزراء المصري، في إفادة رسمية، أنه «لا مساس» بمجانية التعليم بكل الجامعات المصرية، باعتباره «حقاً يكفله الدستور والقانون لكل المصريين».

إيمان مبروك (القاهرة)
«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

«تشات جي بي تي»... خصم وصديق للتعليم والبحث

لا يزال برنامج «تشات جي بي تي» يُربك مستخدميه في كل قطاع؛ وما بين إعجاب الطلاب والباحثين عن معلومة دقيقة ساعدهم «الصديق (جي بي تي)» في الوصول إليها، وصدمةِ المعلمين والمدققين عندما يكتشفون لجوء طلابهم إلى «الخصم الجديد» بهدف تلفيق تأدية تكليفاتهم، لا يزال الفريقان مشتتين بشأن الموقف منه. ويستطيع «تشات جي بي تي» الذي طوَّرته شركة الذكاء الصناعي «أوبن إيه آي»، استخدامَ كميات هائلة من المعلومات المتاحة على شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، بما في ذلك حوارات ومحادثات بين البشر، لإنتاج محتوى شبه بشري، عبر «خوارزميات» تحلّل البيانات، وتعمل بصورة تشبه الدماغ البشري. ولا يكون النصُّ الذي يوفره البرنامج

حازم بدر (القاهرة)
العالم العربي بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

بن عيسى يشدد على أهمية التعليم لتركيز قيم التعايش

اعتبر محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، ووزير الخارجية المغربي الأسبق، أن مسألة التعايش والتسامح ليست مطروحة على العرب والمسلمين في علاقتهم بالأعراق والثقافات الأخرى فحسب، بل أصبحت مطروحة حتى في علاقتهم بعضهم ببعض. وقال بن عيسى في كلمة أمام الدورة الحادية عشرة لمنتدى الفكر والثقافة العربية، الذي نُظم أمس (الخميس) في أبوظبي، إن «مسألة التعايش والتسامح باتت مطروحة علينا أيضاً على مستوى بيتنا الداخلي، وكياناتنا القطرية، أي في علاقتنا ببعضنا، نحن العرب والمسلمين».

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
شمال افريقيا الدكتور رضا حجازي وزير التربية والتعليم المصري في اجتماعه مع برافين أجراوال ممثل برنامج الأغذية العالمي (صفحة مجلس الوزراء على «فيسبوك»)

مصر: فرص «للمتسربين من التعليم» للالتحاق بالمدارس المجتمعية

أكدت الحكومة المصرية «التزامها بالحد من ظاهرة تسرب الطلاب من التعليم؛ بهدف سد منابع الأمية». وأعلنت عن «فرص للمتسربين من التعليم للالتحاق بمدارس التعليم المجتمعي»، في إطار جهود حكومية لمجابهة الأمية، تستهدف «مصر بلا أمية عام 2023». وأكد الدكتور رضا حجازي، وزير التربية والتعليم المصري، خلال لقائه مع برافين أجراوال، ممثل برنامج الأغذية العالمي، «أهمية تعزيز التعليم داخل المدارس».

نادية عبد الحليم (القاهرة)

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

TT

يوم هزَّت «أيلول الأسود» شِباك الألعاب الأولمبية في ميونيخ

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)
أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

كان يحيى السنوار في العاشرة من عمره حين هزت منظمة «أيلول الأسود» الفلسطينية في 1972 شِباك دورة الألعاب الأولمبية في ميونيخ، وجابت صور جثث المهاجمين والرهائن العالم بأسره.

نحو مليار شخص تابعوا ما سميت «مجزرة ميونيخ» التي اختلط فيها الرصاص الألماني بالرصاص الفلسطيني، وكان ذلك قبل هبوب رياح العولمة وولادة الهاتف الذكي. وبمقاييس تلك الأيام ومسرح الحدث غير المسبوق يمكن وصف ما حدث بأنه «طوفان» لكنه انطلق على الأرض الأوروبية.

رفضت حكومة غولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، الرضوخ لمطالب الخاطفين وبينها السماح لهم بالمغادرة إلى مصر مع رهائنهم. وخدعت الحكومة الألمانية الخاطفين واستهدفتهم نيران قواتها. تسبب الافتقار إلى الخبرة في مقتلة دُبّجت عنها كتب وأُنتجت أفلام وأُهرق حبر كثير. ترددت مائير في البداية، لكنها وافقت تحت ضغط عدد من وزرائها على عملية «غضب الرب» التي تقضي باغتيال كل من له علاقة بهجوم ميونيخ في مطاردة عابرة للخرائط.

أحد منفّذي عملية ميونيخ يطلّ من مقر البعثة الإسرائيلية في القرية الأولمبية (غيتي)

لا غرابة إذاً أن تؤرق استضافة الدورة الحالية من الألعاب الأولمبية بلداً مثل فرنسا. فهذا الحدث العالمي قد يُغري المجموعات الإرهابية التي تبحث عن منبر استثنائي لتوجيه ضربة مدوية على الصعيد الدولي. يضاعف المخاوف أن العقود الماضية شهدت ولادة تنظيمات أدمت العالم، من قماشة «القاعدة» و«داعش» وغيرها.

يقع الصحافي في فخ المحطات المثيرة فيروح يسأل عنها كلما عثر على شريك فيها أو شاهد. وأنا كنت من هؤلاء ولا أزال. وشاءت المهنة أن ألتقى الرجلين اللذين صنعا موقعة ميونيخ تخطيطاً وتنفيذاً. اسم الأول صلاح خلف (أبو إياد) عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، والرجل الثاني فيها بعد ياسر عرفات. واسم الثاني محمد داود عودة (أبو داود) عضو «المجلس الثوري» لحركة «فتح».

عرفات أبلغ وعباس صرف التكاليف

بعد ما يزيد قليلاً على نصف قرن، يمكن القول إن «الموساد» الإسرائيلي قتل كثيرين لكنه لم يقتل الثلاثة الذين وُلدت الفكرة على أيديهم وتحققت في صورة مأساة. والثلاثة هم: «أبو إياد»، ومساعده فخري العمري (أبو محمد)، و«أبو داود». اُغتيل «أبو إياد» والعمري لكن برصاص صبري البنا («أبو نضال» زعيم انشقاق «فتح - المجلس الثوري»، وأُصيب «أبو داود» برصاص «أبو نضال» أيضاً).

في تونس، قال لي «أبو داود» إن الفكرة «جاءت من العمري في لقاء ثلاثي. استوقفتْ الفكرة (أبو إياد) ثم أعجبته وأيّدتُها أنا». ويقول «أبو داود» إن عرفات «كان يعرف أن عمليةً لاحتجاز الرهائن ومبادلتهم بسجناء فلسطينيين في إسرائيل ستجري في ميونيخ، وتولى محمود عباس (أبو مازن) مسؤول المالية في (فتح) صرف المبلغ اللازم لتنفيذها».

وشدد «أبو إياد»، رداً على سؤال طرحتُه عليه، على أن العملية خرجت عن مسارها بسبب تشدد مائير ورعونة الحكومة الألمانية، وأن تعليمات مشدَّدة كانت قد أُعطيت للمنفذين بعدم قتل الرهائن أو إطلاق النار إلا في حالة الاضطرار القصوى للدفاع عن النفس. ويؤكد «أبو داود» أن التعليمات كانت صارمة بعدم القتل.

ملابس داخلية لتهريب السلاح

قصة مثيرة فعلاً. تولى «أبو إياد» شخصياً إحضار الأسلحة التي استخدمها المنفذون وكانت برفقته سيدة لبنانية سميت «جولييت» ساهم فتح حقيبتها المغطاة بملابس داخلية في إحراج رجل الجمارك الألماني، فمرَّر الحقائب الأخرى من دون تفتيش وهي كانت تحمل الرشاشات. وتولى «أبو داود» تخزين الحقائب في محطة القطار وتبديل أماكنها يومياً بانتظار موعد التنفيذ.

«أبو داود» خلال الحديث إلى الزميل غسان شربل (الشرق الأوسط)

لم تراود الشكوك أجهزة الأمن الألمانية في ما يتعلق بزائر كان يتنقل بين فنادق ميونيخ بجواز سفر عراقي يحمل اسم سعد الدين ولي. كان الرجل المتنكر «أبو داود». وسيتولى استطلاع القرية الأولمبية أكثر من مرة.

وفي ليلة التنفيذ سيستخدم قامته الفارعة لمساعدة بعض المنفذين على تخطي السياج المحيط بالقرية الأولمبية. وتشاء الصدفة أن يتولى مساعدة منفذين آخرين رياضيون أميركيون عائدون من سهرة سمر من دون معرفة هوية رفاق «أبو داود» وأن حقائبهم ستختطف بعد قليل أنفاس الدورة الأولمبية والعالم.

قصة «أيلول الأسود»

لم تكن «أيلول الأسود» منظمة مستقلة. وُلدت على دويّ المعارك التي دارت بين الجيش الأردني والتنظيمات الفلسطينية في سبتمبر (أيلول) 1970 واختتمت في العام التالي بعد معارك جرش وعجلون التي قُتل فيها القيادي الفتحاوي «أبو علي إياد».

وُلدت «أيلول الأسود» من رغبة في الثأر من النظام الأردني ومن المواجهة المفتوحة مع إسرائيل. كانت يافطة تستخدمها مجموعات في «فتح» لتنفيذ عمليات لا تريد تحمل مسؤولية مباشرة عنها، ونسبت إليها أحياناً عمليات لا علاقة لها بها. ويقول «أبو داود» إن علي حسن سلامة الذي اغتاله «الموساد» في بيروت لم تكن له علاقة على الإطلاق بعملية ميونيخ. ويضيف أن ما حصل في ميونيخ أثار حماسة الشعب الفلسطيني، ما دفع سلامة إلى الإيحاء بأنه شريك في العملية، خصوصاً أنه استخدم لافتة «أيلول الأسود» لتنفيذ بعض العمليات.

أثار الخروج القسري من الأردن حالة من الغضب في صفوف الفلسطينيين. وطُرحت أسئلة عن مسؤولية القيادات الفلسطينية في خسارة ما كان يعد الموقع الأفضل لمواجهة إسرائيل وإبقاء التواصل قائماً مع الأراضي المحتلة. ترك الخروج جرحاً في نفس «أبو إياد» لا سيما بعدما استمر اللغط حول ما قيل إنه اتفاق توصل إليه مع السلطات الأردنية إبان اعتقاله في أحداث 1970.

تحت لافتة «أيلول الأسود» ستتم عملية تصفية الحسابات. في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1971 سددت «أيلول الأسود» ضربة مؤلمة إلى الأردن. ففي ذلك اليوم اغتيل رئيس الوزراء الأردني وصفي التل، لدى دخوله فندق «شيراتون» في القاهرة. أربعة من أفراد المنظمة كانوا في انتظاره. وستطلق الحادثة جدلاً طويلاً لم يتوقف حتى اليوم وثمة من لا يزال يعتقد أن التل سقط برصاصة قناص كان يرابط على سطح بناية قريبة وليس برصاص فريق «أيلول الأسود».

إفراج السلطات المصرية عن المنفذين من دون محاكمتهم عزز شكوكاً أردنية بأن جهازاً مصرياً شارك أو تساهل. وكان نذير رشيد، مدير المخابرات الأردنية، قد نصح التل بعدم التوجه إلى القاهرة، لكنه رفض، وكان ما كان. تحدث «أبو إياد» في مواضيع كثيرة لكنه كان يرفض الخوض في حادثة اغتيال وصفي التل نظراً لحساسيتها، خصوصاً أن الأخير كان معروفاً بالنزاهة والشجاعة والدفاع عن فكرة الدولة والتنمية.

«أبو داود» أيضاً لم يرغب يوماً في الاسترسال في هذا الموضوع الذي تردد أنه كان ملفاً مقيماً لدى فخري العمري بعدما نال قرار اغتيال التل «موافقة مَن لا بد من موافقتهم».

بعد نحو أسبوعين من اغتيال التل، انهمر الرصاص على سيارة السفير الأردني في بريطانيا زيد الرفاعي، وأسعفه الحظ بالنجاة، واقتصرت الأضرار على إصابة في يده. حملت المحاولة توقيع «أيلول الأسود» أيضاً. وكانت هناك فصول أخرى لا يتسع المجال هنا لذكرها.

إحباطات متراكمة

في 1972 بدا الجو الفلسطيني ملبداً. خيبة الخروج من الأردن وافتقار قوات الفصائل الفلسطينية في جنوب لبنان إلى ما يمكّنها من التصدي للغارات الإسرائيلية أو التوغلات. خاف قادة فلسطينيون من انهيار المعنويات أو شيوع اليأس.

بدأ التفكير في الربيع في حلقة ضيقة في ضرورة القيام بعمل مدوٍّ يثير الاهتمام الدولي بالوضع الفلسطيني ويؤكد لسكان المخيمات أن المقاومة قادرة على إيذاء إسرائيل وإيلامها.

«أبو إياد» نقل الأسلحة إلى ألمانيا بجواز سفر مزور و«زوجة» مزيفة (غيتي)

ازداد اهتمام «أبو إياد» مع مجيء الصيف بالقيام بعمل كبير وكان موعد الألعاب الأولمبية يقترب. طلب من «أبو داود» زيارة بلغاريا والحصول هناك على مسدسات مزوَّدة بكواتم صوت «لأننا سنحتاج إليها في أوروبا». وكان العمري يمتلك لائحة المواصفات المطلوبة. كان الغرض تسديد ضربات إلى عملاء «الموساد» في القارة الأوروبية.

كانت الجهات الفلسطينية قد وجّهت منذ بداية السنة رسالة إلى اللجنة الدولية الأولمبية طلبت فيها تمكين الفلسطينيين من المشاركة في دورة ميونيخ لكن اللجنة لم ترد. واجهت رسالة ثانية المصير نفسه.

في الثامن من يوليو (تموز)، كان «أبو داود» في مدينة دورتموند لشراء سيارة قد تحتاج المجموعة إليها في عملياتها الأوروبية. اتصل في ذلك النهار بـ«أبو إياد» الذي عاجله بخبر مؤلم. خبر اغتيال الروائي والصحافي الفلسطيني غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة «الهدف» الناطقة باسم «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». قُتلت معه بانفجار سيارته ابنة شقيقته لميس الذي اصطحبها لتسجيلها في جامعة في بيروت.

بدا واضحاً أن كنفاني دخل دائرة الخطر مذ تولى إعلان مسؤولية الجبهة عن الهجوم على مطار اللد الذي نفَّذه ثلاثة من «الجيش الأحمر الياباني» يعملون تحت عباءة الدكتور وديع حداد، مسؤول «المجال الخارجي» في الجبهة والذي هز العالم بعمليات خطف الطائرات.

على مقهى في روما وُلدت الفكرة

في أول لقاء مع «أبو إياد» بعد الحادثة طرح السؤال عن رد قوي على الاعتداءات الإسرائيلية التي تخطت كل حدود. اقترح العمري مهاجمة سفارات وقنصليات إسرائيلية لكن «أبو إياد» رأى أن ذلك سيضع المقاومة في مواجهة مع الدول التي تستضيف هذه السفارات. سأل «أبو إياد» «أبو داود» رأيه فأجابه أنه لم يبلور لديه اقتراح لكن البقاء في الوضع الراهن غير ممكن.

سيكون الموعد الثلاثي المقبل في مقهى في روما. أبلغ «أبو إياد» باستمرار اللجنة الدولية الأولمبية في تجاهل وجود الفلسطينيين فانتابه الغضب. قال العمري: «ما داموا يصرون على تجاهلنا لماذا لا نحاول التسلل إلى المدينة الأولمبية؟». سأله «أبو إياد» عن الغرض فأجاب: «لنحتجز رياضيين إسرائيليين». سأله «أبو إياد» إن كان مجنوناً؟ تدخل «أبو داود» ملمحاً إلى أن معظم الإسرائيليين لهم علاقة ما بالمؤسسة الأمنية أو تابعوا تدريبات عسكرية.

صمت «أبو إياد» وبدا كمن يمحص الفكرة. قطع فجأة صمته وقال: «في مقابل من نحتجزهم من رياضيين وإداريين إسرائيليين نطالب بإطلاق عدد وازن من سجنائنا في إسرائيل. الفكرة ليست سيئة». وبعد لحظات خاطب «أبو داود» قائلاً: «ميونيخ في طريقك إلى بلغاريا».

انطلقت التحضيرات لعملية ميونيخ. وقبل المغادرة طلب «أبو داود» من «أبو إياد» التحدث إلى «أبو مازن» للحصول على تمويل للعملية، فردّ: «لا تقلق سأتحدث إليه في الوقت المناسب. أنا متأكد من موافقته وسنحصل على المبلغ اللازم».

لم ينجح «أبو داود» في إقناع البلغار بتسليمه الأسلحة. اشترطوا اتصالاً من جهة رسمية وكانوا يقصدون منظمة التحرير أو قيادة «فتح». تدخل «أبو إياد» لكنهم وضعوا شرطاً جديداً وهو أن تتجه الأسلحة إلى الشرق الأوسط لا إلى أوروبا نظراً لخطورة انكشافها هناك.

«أبو داود» مصاباً بعد محاولة اغتيال في وارسو عام 1981 (غيتي)

كان «أبو داود» يتحدث في ليل العاصمة التونسية كمن يسترجع شبابه أو لحظة عرسه. لم يستثمر دوره في ميونيخ كما فعل «كارلوس» الفنزويلي بعد عملية احتجاز وزراء «أوبك» في فيينا. أخفيت ذهولي كي لا يشعر أنه ذهب بعيداً. لا شيء يشبع شراهة الصحافي كهذه القصة المثيرة عن رجال يتحركون بجوازات سفر مزورة وتأشيرات تم التلاعب بها وتبديل فنادق وعناوين وتضليل حراس.

زيارتان استطلاعيتان

كرر «أبو داود» محاولاته لاستكشاف القرية الأولمبية. استعان ذات يوم بسيدة فلسطينية تتقن شيئاً من الألمانية. تظاهر بأنه رجل برازيلي ويريد الدخول لمصافحة أصدقاء له. رق قلب الحارس الألماني وسمح لهما. سيعود لاحقاً برفقة الشابين اللذين سيتوليان قيادة الفريق المنفذ وهما يوسف نزال ومحمد مصالحة.

اقترب من مقر البعثة الإسرائيلية ورأى امرأة تحمل أوراقاً. سألها بالإنجليزية عن مقر البعثة الإسرائيلية فاستفسرت عن سبب السؤال. رد بأنه برازيلي ويحلم كرفيقيه بزيارة إسرائيل والحصول على معلومات عن هذا البلد وكذلك على أعلام له لنقلها إلى أولادهم. تبين أن السيدة إسرائيلية ووقعت في الفخ، فما إنْ توجهت إلى المقر القريب حتى دخل الثلاثة برفقتها للتعرف على جغرافيا المكان الذي سيشهد الهجوم. استطلع «البرازيليون» قدر الإمكان المداخل والممرات والأجنحة الملحقة.

استلزمت الأسابيع الأخيرة من الإعداد لقاءات ورحلات في اتجاه جملة مدن بينها أثينا ومدريد وصوفيا وجنيف، فضلاً عن بيروت وطرابلس الليبية. كان لـ«أيلول الأسود» مركز تدريب في نقطة قريبة من صيدا في جنوب لبنان. لكن الضرورة اقتضت إرسال مجموعة من المقاتلين لمتابعة دورة سريعة ومكثفة في طرابلس.

طُرحت في أحد الاجتماعات المسألة الأهم، وهي كيف يمكن إيصال الأسلحة في ظل إجراءات استثنائية لا بد من أن تواكب حدثاً يشارك فيه رياضيون من 120 دولة. فوجئ «أبو داود» والعمري بـ«أبو إياد» يقول بلهجة حاسمة: «أنا سأوصلها». استبعد «أبو داود» أن يضطلع «أبو إياد»، وهو رجل ذائع الصورة والصيت مباشرةً، بمهمة محفوفة بالأخطار، ورجح أن يستعين بمنظمة أو مجموعة.

زوجة لبنانية مزيفة... وقنابل في حقيبة يد

أرسل «أبو إياد» إلى «أبو داود» أن ينتظره في مطار فرانكفورت في 24 أغسطس (آب) 1972. ذهب «أبو داود» إلى الموعد وراقب من وراء الزجاج. انتظر إطلالة «أبو إياد» بفارغ الصبر وعلى قدر من القلق. فجأة أطل «أبو إياد» في صحبة سيدة لبنانية تظاهر بأنها زوجته وسُميت جولييت، فضلاً عن تاجر صديق له واسمه علي أبو لبن.

كان «أبو إياد» ثابت الأعصاب على خلاف أبو لبن الذي وصل به الأمر حد تناول المهدئات. أشار رجل الجمارك إلى «أبو إياد» أن يفتح الحقائب فخاف «أبو داود» أن تنهار العملية برمتها. وفجأة بدأ «أبو إياد» في إخراج الملابس الداخلية لـ«زوجته» مبدياً شيئاً من التذمر من هذا النوع من المعاملة. أُصيب موظف الجمارك بالإحراج وأشار بمرور الحقائب كمن يعتذر. وهكذا وصلت الأسلحة المخبأة في الحقائب الأخرى.

لم يقترب «أبو داود» من «أبو إياد» الذي صعد مع رفيقيه إلى سيارة تاكسي. تبعه «أبو داود» في السيارة الموالية وطلب من السائق السير وراء سيارة صديقه. ضحك سائق السيارة الثانية من إصرار «أبو داود» على متابعة صديقه ودفَعَه الخبث إلى التفكير أن عين الرجل هي على السيدة الموجودة في التاكسي الآخر ولم يخطر بباله أن رجال السيارتين سيشعلون حريقاً كبيراً سيلازم اسم ميونيخ والألعاب الأولمبية.

هكذا عرف «أبو داود» الفندق الذي ينزل فيه «أبو إياد». ترجل من السيارة ومشى قليلاً في اتجاه آخر للتضليل ثم دخل الفندق وصعد إلى غرفة أبو لبن. وجد «أبو إياد» مسترخياً هناك وكانت «جولييت» في غرفة أخرى.

اكتشف «أبو داود» أن عدد الرشاشات ثمانية وطلب منه «أبو إياد» التصرف على أساس أن الفريق المهاجم سيكون من ثمانية لا عشرة. لاحظ «أبو داود» غياب القنابل فاتفق أن يعود أبو لبن سريعاً إلى بيروت لإحضارها في حقيبة يد تفادياً لإثارة الشبهة. وهذا ما حصل. نقل «أبو داود» الأسلحة إلى خزائن الأمانات في محطة القطار في ميونيخ، وأضاف إليها لاحقاً القنابل وكان يغيّر مكانها يومياً ومن دون أن يثير شكوك أجهزة الأمن.

اللمسات الأخيرة

وصل أعضاء الفريق المشارك من طرابلس وتولى مصالحة ونزال توزيعهم في ثلاثة فنادق مختلفة بمعدل اثنين في كل فندق ومن دون ذكر اسم «أبو داود». وكان على «أبو داود» أن يشتري لهم ثياباً رياضية وحقائب وبعض الضمادات والبسكويت في حال طال احتجاز الرهائن.

عناصر من الأمن الألماني يحاولون دخول موقع الاحتجاز في القرية الأولمبية (غيتي)

افتُتحت الألعاب الأولمبية في 26 أغسطس. اختار المخططون الانتظار كي يسود الانطباع أن الألعاب تجري طبيعية وتتراخى التدابير الأمنية.

كنت أشعر أنني أنتظر قصة جديدة كلما أشعل «أبو داود» سيجارة إضافية.

قال «أبو داود» إن اجتماعاً عُقد سابقاً في بيروت وشمل أيضاً «أبو إياد» و«أبو مازن» خلص إلى التشديد بصورة قاطعة على عدم اعتبار العملية فرصة للثأر والتنكيل وأن «العملية سياسية قبل أن تكون عسكرية والمصلحة تقضي بعدم إراقة الدماء إلا في حال الخطر وفي سياق الدفاع عن النفس». وأضاف أنه أبلغ الفريق المنفذ بذلك في اجتماع عقده معه «بوصفي برازيلياً مؤيداً للثورة الفلسطينية وكنت أتحدث خلال الاجتماع بالإنجليزية ويتولى أحدهم الترجمة».

كانت الاستعدادات قد اكتملت: سيدخل المنفذون من أقرب نقطة في السياج الأولمبي إلى المبنى 31 الذي تقيم فيه البعثة الإسرائيلية. سيحاول احتجاز أكبر عدد ممكن من الرهائن. سيتولى مصالحة عملية التفاوض. سيسلم الوسطاء لائحة تطالب بإطلاق أكثر من مائتي سجين فلسطيني في إسرائيل وهي تتضمن أيضاً اسم كوزو أوكاموتو الياباني الذي شارك في هجوم اللد، إضافة إلى الإفراج عن أولريكه ماينهوف وأندرياس بادر من جماعة «بادر ماينهوف» الألمانية الراديكالية.

كانت هناك تعليمات بخفض المطالب إذا تعقدت المفاوضات، «وكانت الخطة تقضي بطلب طائرة لاصطحاب الرهائن إلى دولة شرق أوسطية ويفضل أن تكون مصر التي ستطالب بالتأكيد بعملية تبادل لإطلاق الإسرائيليين المحتجزين»، كما روى «أبو داود».

ليلة التنفيذ

في الرابع من سبتمبر شعر «أبو داود» باكتمال التحضيرات فأعطى إشارة التنفيذ. بعد منتصف الليل سيكون إلى جانب السياج مع المنفذين بثيابهم الرياضية والرشاشات المخبأة في حقائبهم. يقول «أبو داود» إن «الشباب كانوا يستعدون لتسلق السياج حين سمعنا ضجيجاً وسرعان ما تبين أنهم لاعبون أميركيون سهروا وأسرفوا في الشراب وقرروا تسلق السياج للعودة. المضحك أنهم عرضوا على شبابنا المساعدة وقدموها وشملت رمي الحقائب التي تحوي السلاح إلى الجهة المقابلة. واستخدمت أنا طولي لمساعدة من وجد صعوبة. وكانت المفاجأة أن الرجل الذي ساعدته قال لي: شكراً أبو داود، وأنا كنت أتوهم أنني نجحت في إخفاء هويتي عن المنفذين باستثناء نزال ومصالحة».

ترك «أبو داود» المكان وعاد إلى فندق سجل نفسه فيه باسم مستعار آخر. شرارة البدء في الرابعة والنصف صباحاً. مرت ساعات ولم تبث الإذاعات شيئاً. وكان «أبو داود» قد اتفق مع مصالحة ونزال على أن يلتحق به أعضاء الفريق في محطة القطار إذا فشلت المحاولة لأن جوازاتهم كانت في حوزته. في الثامنة بثت وسائل الإعلام نبأ اقتحام القرية الأولمبية. وهكذا صارت القصة ملك العالم بأسره.

مروحية الخاطفين والرهائن مدمَّرة بعد تبادل النار في مطار عسكري قرب ميونيخ (غيتي)

رفضت حكومة غولدا مائير شروط الخاطفين. ويعتقد أنها مارست ضغوطاً على حكومة ألمانيا الغربية بذريعة أن التجاوب يشجع الإرهاب. خدعت الحكومة الألمانية الخاطفين. وافقت على انتقالهم إلى مطار عسكري حيث ستنتظرهم طائرة «لوفتهانزا» لنقلهم إلى مصر. هبطت طائرتا الهليكوبتر في المطار وتوجه نزال ومصالحة لتفقد طائرة الركاب، ولدى خروجهما اندلع الرصاص واختلط. حاولت الأجهزة الألمانية قتل الخاطفين وكانت النتيجة مقتل خمسة منهم، إضافة إلى رهائنهم التسع وشرطي ألماني. ويُذكَر أن رياضيين إسرائيليين قُتلا خلال عملية الاقتحام وتجميع الرهائن.

«غضب الرب»

بعد ميونيخ وافقت حكومة مائير على عملية «غضب الرب» التي أدت إلى اغتيال عدد من المسؤولين والدبلوماسيين الفلسطينيين ولم تكن لمعظمهم علاقة من قريب أو بعيد بعملية ميونيخ. نجحت إسرائيل في اغتيال كثيرين إلا الحلقة الأساسية. فقد اغتيل «أبو إياد» وفخري العمري في تونس في 14 يناير (كانون الثاني) ومعهما المسؤول الأمني هايل عبد الحميد (أبو الهول) على يد شاب اسمه حمزة أبو زيد اندسّ في جهاز حماية عبد الحميد بناءً على طلب «أبو نضال».

كان «أبو إياد» متحفظاً في الكلام عن المحطات التي لعب دوراً فيها. لم يرد ترك بصماته مباشرةً في أي مكان. كان ينسب ما تحقق إلى «الشباب» ولهذا لمست قدراً من العتب عليه من جانب «أبو داود» الذي لعب دوراً حاسماً في عملية ميونيخ وغيرها.