فالح الفياض قوته في صمته

مستشار الأمن القومي العراقي.. منشق عن «الدعوة» ومحتفظ بعلاقاته مع طهران وواشنطن

فالح الفياض قوته في صمته
TT

فالح الفياض قوته في صمته

فالح الفياض قوته في صمته

عاد مستشار الأمن القومي العراقي فالح الفياض إلى الواجهة الأسبوع الماضي عندما فوضه رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لزيارة دمشق ونقل رسائل شفوية إلى الرئيس السوري بشار الأسد. وليست الزيارة الأولى للفياض إلى دمشق، الذي يعتبر من المسؤولين العراقيين الرفيعي المستوى النادرين في قلة التصريحات.

فالفياض بات من اللاعبين الأمنيين الأقوياء في العراق ولكنه يبقى عادة خلف الكواليس وإلى جانبها. فعندما زار العبادي قاعدة عسكرية لتفقد طائرات «إف 16» من الولايات المتحدة، كان خلفه الفياض. وعندما تصدر نائب رئيس الجمهورية العراقي نوري المالكي وزعيم «فيلق بدر» هادي العامري تشييع «أبو منتظر المحمداوي» القائد في «الحشد الشعبي» كان إلى جوارهم الفياض. وعندما اجتمع العبادي بمجلس محافظة الأنبار برئاسة صهيب الراوي حول مكافحة «داعش»، جلس الفياض صامتا ومتابعا.
وعلى الرغم من تعددية الألقاب التي يحملها (مهندس الكهرباء، وشيخ العشيرة، والمستشار)، لكن اللقب المفضل لدى مستشار الأمن الوطني العراقي الفياض هو (الحاج). وهذه المفردة وإن شاع استعمالها بطريقة لافتة لدى أعداد متصاعدة من الطبقة السياسية العراقية الحالية، نتيجة لخلفية الكثير منهم الإسلامية، إلا أنها تكاد تكون حكرا على القادة الشيعة بدء من رئيس الوزراء السابق والنائب الحالي لرئيس الجمهورية نوري المالكي الذي لا يعرف إلا بلقب «الحجي أبو إسراء» في أوساط المقربين منه بمن في ذلك صغار موظفيه. فلهذه المفردة في العراق الجديد بريقها الخاص فضلاً عن كونها لدى زعامات الإسلام السياسي تجب ما قبلها من ألقاب. الأمر يختلف إلى حد كبير لدى القادة الكرد من نواب ووزراء ومسؤولين، حيث يفضلون لقب «كاكا» وتعني باللغة الكردية «الأخ». بينما يفضل قادة سنة إسلاميين لقب «الشيخ» على ما عداه من ألقاب ربما لكون غالبية نوابهم ووزرائهم هم من مشيخات عشائرية في المحافظات الغربية التي لا تزال البنية القبلية هي السائدة فيها وتتحكم في مفاصلها كافة.
الفياض الذي ينتمي إلى عشيرة كبيرة في العراق، عشيرة البوعامر، حيث تتولى أسرته الغنية مشيختها بقي محافظا على خيط رفيع من التواصل العشائري والسياسي بجذور قوية مكنته من الاحتفاظ بالمكانتين معا فهو شيخ العشيرة (شيعية الانتماء المذهبي) والموقع السياسي الحساس في العراق. وقد بقي حريصا على الاحتفاظ بعلاقات قوية مع العشائر السنية، لا سيما أن موقع العشيرة الأكثر ثقلا هو في مناطق حزام بغداد الشمالية الشرقية باتجاه محافظة ديالي، حيث توجد عشائر سنية كثيرة احتفظت معها أسرة الفياض عبر عقود طويلة من الزمن بوشائج قوية جعلت من الفياض توازن في معادلات صعبة بدت عشائرية أول الأمر ثم امتدت إلى ما هو سياسي ومن ثم إقليمي.
وبعد أن كان الفياض قياديا في حزب الدعوة، بات الآن قياديا في تجمع «الإصلاح» المنشق عن الدعوة والذي يتزعمه وزير الخارجية إبراهيم الجعفري، القيادي السابق أيضًا من الدعوة. وتولى فالح الفياض في حكومة نوري المالكي الأولى منصب وزير الأمن الوطني حين كان الأمن الوطني وزارة دولة بلا حقيبة. لكنه وبسبب إجراءات الترشيق الحكومي تحولت وزارات مثل الأمن الوطني وشؤون المصالحة الوطنية إلى مستشاريات. وعلى عهد حكومة المالكي الثانية (2010 - 2014) احتفظ الفياض بمنصب مستشار الأمن الوطني بصلاحيات واسعة مكنته من لعب أدوار مهمة داخليا وإقليميا بسبب مما يتمتع به من خصال محددة. وأوضح مسؤول عراقي في الأمن الوطني لـ«الشرق الأوسط» طالبا عدم الإشارة إلى اسمه أو هويته، أن «هناك ثلاث مزايا يتمتع بها الفياض هي التي جعلته يحتفظ بموقعه رغم كل التقلبات سواء داخل بنية الحركة الإسلامية التي بقي ينتمي إليها رغم انتقاله إلى كيان جديد أو ما جرى لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي وما حصلت من تحولات طالت مناصب ومواقع هامة لم يتأثر بها الفياض». وأضاف أن «مزايا الفياض الثلاث هي السرية والعشائرية والمهنية». وفي تفصيلاتها يقول المسؤول الأمني، إن «الفياض لا يتكلم كثيرا ولا يدلي بتصريحات للصحافة ويفضل القيام بمهامه بنوع من الكتمان والسرية حتى في حال كانت علنية الطابع لأن الرجل يفضل أن السرية في العمل وهو ما جعله يحتفظ بعلاقات جيدة مع الجميع استثمرها لصالح عمله».
إلى جانب ذلك، يضيف المسؤول الأمني، أن «الفياض ينتمي إلى عشيرة كبيرة كانت أسرته وما زالت تمثل مشيختها الرئيسية وهو ما جعله يوظف ثقله العشائري في أحلك الظروف في العراق، لا سيما على صعيد التوازنات العشائرية وما حصل من احتكاكات هنا وهناك في بعض المحافظات». وفي ما يتعلق بالعنصر الثالث وهو المهنية يقول المسؤول الأمني: «الفياض رجل مهني من حيث أسلوب العمل وكيفية إدارة مهماته بحزم مع مرونة تتطلبها بعض المهمات». وردا على سؤال فيما إذا كانت مثل هذه المزايا أو السمات كافية في عراق اليوم أن يحتفظ موظف رفيع المستوى في مكانته في ظل المشاحنات والمؤامرات والمناكفات السياسية وغيرها يقول المسؤول الأمني، إن «هناك مسألة في غاية الأهمية لصالح الفياض هي عدم إمكانية رشوته لأنه من أسرة غنية وهي إحدى مصادر قوته». وأشار إلى أن «كل صفقات السلاح التي باتت تمر من تحت يده حين تحولت إلى الأمن الوطني، حيث يعمل سكرتيرا لمجلس الأمن القومي ليس فيها شبهات فساد بالإضافة إلى أن الرجل مقبول عربيا وإيرانيا وأميركيا وهي ميزة ينفرد بها الفياض بين معظم قادة الطبقة السياسية العراقية بعد عام 2003 فعادة من يكون مقبولا إيرانيا لا يمكنه أن يكون مقبول أميركيا وبالعكس وكذلك على صعيد المحيط العربي».

* البديل الجاهز

* الفياض الذي كان ينتمي إلى حزب الدعوة الإسلامية أيام زعامة الجعفري، لكنه انشق عن الحزب مع الجعفري، حيث شكلا تجمع الإصلاح الوطني، بينما تزعم حزب الدعوة نوري المالكي. ومع ذلك فإنه في الوقت الذي باتت فيه العلاقة بين الجعفري والمالكي تتميز بالجفاء النسبي مع احتفاظ الجعفري برئاسة التحالف الوطني ومن ثم تأييده لتولي حيدر العبادي رئاسة الوزراء فإن الفياض كان تسلم منصب المشرف على «الحشد الشعبي» يساعده رسميا أبو مهدي المهندس. الفياض تسلم هذا المنصب في أواخر عهد المالكي وبقي محتفظا به حتى اليوم رغم أنه لا يميل إلى الظهور أو الذهاب إلى جبهات القتال لأغراض التصوير مثلما هي عادة عدد كبير من المسؤولين العراقيين ممن يريدون التحضير للانتخابات القادمة من خلال استثمار الحرب ضد «داعش». ليس هذا فقط فإن الفياض بقي على مدى السنوات الماضية بمثابة البديل الجاهز لأي منصب هام بمن في ذلك منصب رئيس الوزراء الذي كان يشغله المالكي. ففي أكثر من مرة طرحا اسمه كبديل للمالكي عندما كانت الأمور قد احتدمت، لا سيما بعد مظاهرات عام 2013 في المحافظات الغربية. ومما يحسب للفياض أنه هو الذي طلب من المالكي التهدئة مع السنة العرب وعدم التصعيد السياسي معهم، واقترح في اجتماع رسمي لمجلس الوزراء برئاسة المالكي بذهاب رئيس الحكومة إلى محافظات الأنبار والموصل وصلاح الدين والاجتماع مع المسؤولين ولجان التنسيق الشعبية فيها والاستماع إلى مطالبهم. كما أن الفياض بقي اسما مطروحا لتولي منصب وزير الداخلية الذي بقي المالكي يشغله طوال سنوات حكمه في دورته الثانية. وفي سياق مهمات عمله والأجندة المطروحة أمامه، يشرح مصدر عراقي قريب من الفياض أن الفياض يرى أن أهم المخاطر والتحديات التي تواجه الأمن القومي العراقي تتمثل حول 3 محاور. أولاً: هشاشة بنية الدولة العراقية الجديدة. ثانيًا: المشكلة الطائفية وما يتمحور حولها من مشكلات، كذلك العلاقة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان وبعض المواد الدستورية الفضفاضة. ثالثًا: التدخل الخارجي بمختلف أشكاله ومصادره، حيث إنه يضر إضرارًا بالغًا بالأمن القومي العراقي. رابعًا: مشكلة المياه والتصحر وأثرها على الأمن القومي العراقي والمتوقع تصاعدها مستقبلاً.

* فالح الفياض في سطور

> فالح الفياض من مواليد بغداد عام 1956 من أسرة شيعية تقطن شمال شرقي بغداد.
> حصل الفياض على بكالوريوس في هندسة الكهرباء من جامعة الموصل عام 1977.
> انضم إلى حزب الدعوة الإسلامية منذ وقت مبكر وتعرض للاعتقال من قبل نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين عام 1980 وحكم عليه بالسجن المؤبد، لكنه قضى في سجن أبو غريب خمس سنوات.
> بعد سقوط نظام صدام عام 2003 أصبح عضوًا في أول جمعية وطنية ومن ثم عضوًا في أول برلمان عراقي منتخب عام 2005 عن الائتلاف الوطني العراقي.
> أصبح مديرًا لمكتب نائب رئيس الجمهورية وعضوًا في لجنة المصالحة الوطنية العليا خلال الحكومة السابقة.
> كلف بالكثير من الملفات الخاصة في الحكومة العراقية، قبل أن يصبح وزيرًا للأمن الوطني ومن ثم مستشارًا له حتى اليوم.



هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.