قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية
TT

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

قناة السويس الأولى.. والمفارقة التاريخية

تستعد مصر بعد مائة وواحد وأربعين عامًا من الافتتاح الأول لقناة السويس، للافتتاح الثاني لمجري قناة السويس الجديدة الموازية، ذلك المسار الذي يصل طوله لقرابة اثنين وسبعين كيلومترًا بما يعظم من القيمة الاستراتيجية ويوسع التجارة الدولية. ولكن الحقيقة الثابتة التي لا خلاف عليها أن ظروف شق القناتين قد اختلفت تمامًا، كما أن المستقبل في الحالتين سيختلف تمامًا، فعلى الرغم من أن مشروع إنشاء قناة السويس تاريخيًا منذ افتتاحها عام 1869، كان من المفترض أن يكون فاتحة خير على مصر في القرن التاسع عشر، فإن الظروف السياسية والنمط الاستعماري في العالم آنذاك حول هذا المشروع العظيم إلى أداة لضرب الاستقلال المصري، انتهى باحتلال البلاد في عام 1882، ثم باندلاع حرب عام 1956 المعروفة بـ«العدوان الثلاثي»، عندما سعت بريطانيا لمحاولة إعادة احتلال مصر مرة أخرى بعد استقلالها وجلاء قواتها عنها، ولكن اليوم يختلف تمامًا عن البارحة.
إن فكرة وصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر لم تكن وليدة القرون الحديثة؛ بل إن هناك أفكارا منفذة بالفعل سعت إلى ذلك خلال ألفيات سابقة ولو بشكل غير مباشر. ولعل مشروع «قناة سوزيستريس» التي ربطت بين البحرين الأحمر والمتوسط من خلال نهر النيل، يعد مثالاً على الفكرة البدائية لقناة السويس لتسهيل التجارة البحرية عبر الأراضي المصرية. ولكن مع مرور الوقت اندثرت هذه القناة وظلت التجارة الدولية تمر من خلال المتوسط إلى ميناء السويس على ظهور الإبل، فكان ذلك يرفع سعر التكلفة والوقت في آن معا. ومع الصعوبات المرتبطة بهذا الخط التجاري، فقد كان أفضل وأقصر الطرق المتاحة للتجارة بين الشرق والغرب، ولكن الخريطة التجارية والاستراتيجية الدولية تغيرت بشكل كبير عقب الفتوحات الجغرافية المختلفة، خاصة عندما اكتشف البرتغاليون طريق رأس الرجاء الصالح، فحولوا جزءًا كبيرًا من التجارة الدولية حول القارة الأفريقية، وهو ما ضرب مصدرًا مهمّا للدخل المصري، وقلل من أهمية البلاد الاستراتيجية، مما دفع الدولة المملوكية للدخول في حرب بحرية شهيرة هي معركة «ديو» البحرية عام 1509 للقضاء على هذا الطريق الجديد. ولكن القوات المصرية - العثمانية انهزمت أمام القوة البحرية البرتغالية، وتم تثبيت وضعية التجارة الدولية في أغلبها عبر طريق رأس الرجاء الصالح، ودخلت مصر عصرًا من الهبوط المالي والاستراتيجي النسبي إلى أن جاءت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 بقيادة نابليون بونابرت. وقد درس الفرنسيون فكرة ربط البحر المتوسط بميناء السويس على البحر الأحمر، ولكن التقدير الخاطئ لعلماء الحملة الفرنسية دفع للاعتقاد بأن منسوب البحر الأحمر أعلى من المتوسط، مما سيؤدي إلى غرق الأراضي، فلم تخرج الفكرة إلى حيز النور. ولكن مع مرور الوقت والارتباط القوي بين فرنسا ومصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، دفع فرديناند دليسيبس، أحد الشخصيات الفرنسية المغامرة وأقرب أصدقاء للأمير سعيد الذي أصبح بعد ذلك والي مصر، لدراسة المشروع مرة أخرى، وقام بطرح الأمر على سعيد باشا عام 1854، مقترحًا بناء ميناء في المتوسط باسم بورسعيد، نسبة له، ثم شق قناة تربط بين البحر المتوسط والبحيرات المختلفة، وأخرى من ميناء السويس إلى البحيرات. وبالفعل وافق والي مصر على إنشاء شركة لهذا الغرض في العام نفسه على أن تؤول إدارتها إلى مصر بعد تسعة وتسعين عامًا من تاريخ الافتتاح. وقد تم منح مصر ما يقرب من خمسة عشر في المائة من عوائد الشركة، وعشرة في المائة للمؤسسين، وخمسة وسبعين في المائة للمساهمين.
وعلى الرغم من رجاحة المشروع، فإن بريطانيا كانت رافضة له؛ حيث كانت لها أطماعها في مصر منذ الحملة الفرنسية على البلاد، خاصة أنها كانت تتحكم في مجرى التجارة بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق وفي قبلها الهند. وكانت فكرة أن يسيطر الفرنسيون على هذه القناة الجديدة كارثية في ظل الصراع البريطاني الاستعماري مع فرنسا، فعمدت بريطانيا للضغط على المصارف الدولية لوقف تمويل هذه الشركة. وبالتالي وجد ديليسبس نفسه في موقف حرج للغاية اضطر معه للبحث عن وسيلة للاكتتاب العام في الشركة، فطرح أسهمها في البورصات الدولية. ولجأ ديليسبس مرة أخرى لصديقه والي مصر لإقناعه بشراء كثير من الأسهم بما يفوق طاقة الخزانة المصرية، ولكن الرجل فعل ذلك باستدانة واسعة بفائدة عالية، فكانت هذه بداية الأزمة المصرية الحقيقية التي تفاقمت على مدار السنوات التالية.
وبالفعل بدأ الحفر في القناة بدءا من 1859 بسواعد مصرية كفلها والي مصر للشركة. والثابت تاريخيًا، رغم محاولات البعض تجميل الصورة، أن العمال المصريين دفعوا أثمانًا باهظة لهذا المشروع في ظل ظروف أقرب للسخرة توفيرًا للنفقات، فمات ما يقرب من ربع القوة العاملة في القناة في ظل ظروف غير إنسانية يدفعها عدم اكتراث القيادة السياسية في البلاد وجشع المستثمرين والمغامرين الغربيين. وعندما آل حكم مصر إلى إسماعيل باشا، فإنه وجد مصر تمر بظروف مالية صعبة للغاية أدت إلى مزيد من الاستدانة لضمان استمرار العمل في القناة، وبعد عشر سنوات من الحفر والعمل الشاق على أكتاف المصريين، جاءت لحظة الافتتاح العظيمة في 1869 التي شارك فيها كبار الساسة، وعلى رأسهم أوجوني زوجة الإمبراطور نابليون الثالث. وقام والي مصر بالاستدانة مرة أخرى لدفع نفقات الاحتفالات المبالغ فيها بشكل فج التي تقدرها بعض المصادر التاريخية بقرابة خمسة عشرة ملايين جنيه مصري، وهو ما دفع بالبلاد إلى حافة الإفلاس، خاصة في السنوات القليلة التالية. وتزامنت هذه الحقبة مع التزام مصر بتسديد رهنها لمحاصيل القطن المصري الذي كان يعد أهم منتجات البلاد، في الوقت الذي انتهت فيه الحرب الأهلية الأميركية وعاد القطن الأميركي ينافس القطن المصري، مما أدى لهبوط أسعار هذه السلعة على المستوى الدولي، فوضع ذلك مزيدًا من الضغوط على مصر.
وعند هذا الحد اضطر إسماعيل باشا إلى بيع أسهم مصر في قناة السويس بمبلغ زهيد وصل إلى عشرين مليون جنيه مصري، وكان المشترى بطبيعة الحال هو بريطانيا العظمي، فلقد رأي رئيس الوزراء بنيامين ديزرائيلي فرصته الذهبية ليضع يده على أسهم الشركة فيحقق بالمال ما لم يكن يستطيع تحقيقه بالقوة العسكرية، وذلك بمزيد من المكاسب المالية، فقد تضاعفت أسعار هذه الأسهم وعائداتها أضعافًا مضاعفة. وبدأ الخراب السياسي والمالي يحل على مصر تدريجيًا، مما دفعها لمزيد من الاستدانة ووضع خزانتها تحت الوصاية الفرنسية والبريطانية المشتركة عند حد معين، وتبع ذلك إقالة إسماعيل بضغوط دولية، وحل بدلاً منه الخديوي توفيق الذي كان أضعف من مقاومة الغربيين، فدانت البلاد للنفوذ البريطاني التدريجي، وعندما اندلعت الحركة العرابية بقيادة أحمد عرابي ضد الاستبداد، بدأت بريطانيا تحرك أسطولها مستغلة الظروف لاحتلال مصر. وعلى الرغم من تأكيدات شركة قناة السويس بأن القناة محايدة ولا يتم استخدامها في الأغراض العسكرية، فقد استخدمها الأسطول البريطاني للأغراض العسكرية، وانهزم الجيش المصري في معركة التل الكبير واحتلت بريطانيا مصر في عام 1882.
إن هذه القصة الحزينة لإنشاء قناة السويس بأرواح وأموال مصرية كثيرة، تمثل نموذجًا حقيقيًا لسوء الإدارة السياسية والمالية والانتهازية الحقيقية، وعلى الرغم من أنه كان مفترضًا أن تكون هذه القناة مصدرا للخير والرخاء لمصر وشعبها في القرن التاسع عشر، فإن الاستعمار الدولي بالتوازي مع ضعف القيادة السياسية في مصر أدي إلى إفلاس البلاد واحتلالها الفعلي. ومع ذلك، فقد أصبحت مع مرور الوقت سندًا حقيقيًا لمصر ودورها الإقليمي بعد أن استقرت أوضاع القناة باستقرار الأوضاع السياسية. وأصبحت القناة اليوم تمثل مساهمة كبيرة للخزانة المصرية وللقيمة الاستراتيجية المتعاظمة لها على المستوى الدولي.
وعلى الرغم من مظاهر الاحتفال بمناسبة افتتاح القناة عام 1869 واليوم، فإن واقع الأمر يشير إلى الاختلاف التاريخي لحفر القناتين، فاليوم يفخر المصريون بهذه القناة التي أنشئت بسواعدهم وأموالهم على حد سواء وبلا تدخلات سياسية أجنبية في الشأن المصري. وقصة افتتاح قناة السويس اليوم لا تمثل للمصريين فرحة بتحقيق هدف استراتيجي بسواعد وأموال مصرية في وقت قياسي فحسب، ولكنها تمثل لكثيرين مصالحة مع العناء التاريخي، ودواءً حقيقيًا لمرارة واحدة من أصعب الفترات التاريخية في حياة مصر الحديثة.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.