إرهاب المستوطنات

11 ألف اعتداء نفذها مستوطنون ضد الفلسطينيين خلال 11 عامًا

إرهاب المستوطنات
TT

إرهاب المستوطنات

إرهاب المستوطنات

من اعتقد أن العملية الإرهابية البشعة التي نفذها إرهابيون يهود فجر الجمعة الماضي في قرية دوما الفلسطينية، حين أشعل المجرمون النيران في بيت سعد دوابشة بهدف إحراقه وزوجته وطفليه، هي عملية يتيمة فهو مخطئ؛ فالعملية تعد واحدة من 15 عملية إرهابية جرت بالطريقة عينها منذ عام 2008، وكان يمكن للبداية أن تكون أبشع وأقسى، كما يقول الصحافي الإسرائيلي آفي سخاروف.
يروي الكاتب الإسرائيلي ما جرى في ذلك اليوم من شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2008، فيقول: «وجدت نفسي في وضع مماثل لوضع سعد دوابشة وزوجته. مجموعة من المستوطنين المتطرفين أقدموا، يومها، على حرق عائلة فلسطينية بأكملها. وقع الحادث على هامش إخلاء (بيت الخلاف) في الخليل. كنت أقوم بمسح لمشهد الجريمة مراسلا لصحيفة (هآرتس)، وقد لاحظت نارًا صاعدة من أحد المنازل الفلسطينية في واد يقع بين (كريات أربع) والخليل.

اتجهت أنا والمصورة التي ترافقني إلى المكان. من بعيد، لاحظنا اللهيب يخرج من المنزل، وسمعنا صراخا، ودهشنا لرؤية العشرات من المستوطنين (أكثر من مائة) المتجمعين حول المنزل، يلقون الحجارة على كل من يحاول الخروج منه.
لقد كانت هذه محاولة لارتكاب مذبحة، لا أقل من ذلك. توجهت إلى أحد الجنود القريبين من المكان، فأوضح لي أنه وزملاءه مسؤولون عن قطاع بأكمله، ولا يمكنهم الوصول إلى المنزل. اقتربنا أكثر من منزل العائلة، ورأينا المشهد التالي المرعب: يهود يحاولون قتل أسرة بأكملها حرقا. محاولة لمذبحة. في مرحلة ما، ركضنا إلى جانب مصورين آخرين إلى المنزل تحت وابل من الحجارة. في الداخل كانت الصورة صعبة. نساء في حالة هستيريا، رجال خائفون، جميعهم يشعرون أن أجلهم قريب. أتذكر جيدا الرعب على وجه إحدى النساء، التي راحت تصرخ بشكل متكرر: (الله أكبر)، وتتوسل لإنقاذها. حاولت الخروج والصراخ لإيقاف مرتكبي المذبحة، لكنهم راحوا يرجمون الصحافيين الإسرائيليين بالحجارة أيضا. وطوال هذا الوقت، كانت النيران لا تزال تشتعل وتتصاعد من المبنى إلى أعلى. بينما العرض مستمر حولها. تقدم الكشافة اليهودية للإرهابيين اليهود النصائح حول كيفية إيذاء الأسرة على نحو أكثر فعالية، وعدم القيام بأي فعل من شأنه وقف المذبحة. فقط بعد نحو عشرين دقيقة، نجحت قوات الشرطة في الانضمام إلينا وإنقاذنا جميعا من الموت. وغني عن القول، أنه لم يجر اعتقال أحد من المتورطين في هذا العمل، أو محاكمته. أولئك لم يكونوا قلة. كان هناك أكثر من مائة مستوطن اكتفوا بمراقبة كل شيء عن قرب، بدلا من محاولة التدخل لمساعدة الأسرة (الفلسطينية). وانتهى ذلك الحادث بمعجزة (على الرغم من قيام بعض كتاب التعقيبات بالتعبير عن حزنهم لعدم إحراقي وقتها مع العائلة الفلسطينية)».
هذه العمليات لم تحظ بما تستحق من اهتمام، في حينه. لذلك رأينا المذبحة تعود وتتكرر. لكن من يتابع نشاط المستوطنين في الضفة الغربية عن كثب، لا يفاجأ مطلقا بالاعتداءات ولا ببشاعتها. فقد تفنن هؤلاء المستوطنون في عمليات الاعتداء. ووفقا لإحصاءات مؤسسات حقوق الإنسان، بلغت الاعتداءات من هذا النوع، نحو 11 ألف اعتداء، وقعت جميعها منذ سنة 2004. وحسب معطيات منظمة «يش دين»، وهي منظمة إسرائيلية لحقوق الإنسان وتطبيق القانون، فقد جرى منذ عام 2008، توثيق 15 عملية إضرام للنيران أو محاولة لإضرامها في بيوت الفلسطينيين في الضفة الغربية وهم نيام. في 12 حالة منها، جرى تقديم شكاوى إلى الشرطة، انتهت عشر منها بغلق الملفات من دون تقديم لوائح اتهام، بينما يتواصل التحقيق في ملفين آخرين.
في قرية بورين مثلا، تم توثيق ثلاث حالات جرى خلالها إضرام النيران في بيوت، وفي يونيو (حزيران) 2014، جرى حرق بيت في قرية خربة أبو فلاح، حيث ألقيت قنبلة مولوتوف على البيت وسكانه لا يزالون في داخله. وفي ديسمبر، تم إضرام النار في بيت بقرية الديرات، أيضا بوجود سكانه فيه.
وبالإضافة إلى الاعتداءات على الأراضي الفلسطينية ونهبها وإقامة بيوت استيطانية عليها، توجد بين المستوطنين مجموعات متطرفة تتحكم فيها عقلية البلطجة والعنف؛ يحرقون المزروعات، ويعتدون على المواطنين في الطرقات، ويقتحمون بلدات فلسطينية ويقذفون الحجارة على زجاج النوافذ، ويدخلون بأعداد كبيرة إلى البلدات ويغلقونها في وجه أصحابها وسكانها، ويطلقون الرصاص فوق الرؤوس، ويخربون ممتلكات، ويعتدون على المساجد والكنائس والأديرة والمقابر. وفي مثل هذه الأيام من السنة الماضية، خطفت مجموعة مستوطنين الفتى المقدسي القاصر، محمد أبو خضير، وقام أفرادها بسكب الوقود السائل على جسده وحرقه حيا حتى الموت.
لقد اختار المستوطنون تنفيذ هذه الاعتداءات بدوافع مختلفة؛ أهمها ما يسمى «الردع»، ويقصد به تنفيذ عمليات اعتداء بهدف التخويف ونشر الرعب. على سبيل المثال، يلجأ اليهود المتطرفون هؤلاء، إلى عمليات استيطان في قلب الأحياء العربية في القدس الشرقية المحتلة. وهم يعرفون أن الفلسطينيين لا يطيقون تصرفاتهم ولا يرغبون في جيرتهم. ولكي يمنعوا الفلسطينيين من ترجمة غضبهم إلى فعل، يبادرون بالاعتداء على الفلسطينيين.

التسامح السلطوي
غير أن الأخطر في موضوع الاعتداءات التي يقوم بها مستوطنون، هو تسامح السلطات الإسرائيلية مع المستوطنين. ويتضح من معطيات نشرتها منظمة «يش دين»، التي تتابع ملفات الاعتداء على الفلسطينيين في الشرطة، أن أكثر من 90 في المائة من بين ملفات الاعتداءات على الفلسطينيين في الضفة الغربية، تنتهي دون تقديم لائحة اتهام.
ويتناول التقرير 205 ملفات تحقيق في السنوات الأخيرة، أنهت الشرطة والنيابة متابعة 163 ملفا منها، تم في 13 ملفا منها (أي ما نسبته 8 في المائة) تقديم لوائح اتهام، في حين تبين أن أحد الملفات قد فقد، ولم يستكمل التحقيق فيه. أما الملفات الـ149 الباقية فقد أغلقت من دون تقديم لوائح اتهام. وكانت المنظمة المذكورة قد تابعت معالجة الملفات التي تتصل بثلاثة مجالات مركزية؛ الاعتداء، والمس بالممتلكات، وتجاوز الحدود. وتبين أنه في 81 مخالفة اعتداء نفذت ضد فلسطينيين، أنهت الشرطة معالجة 62 منها فقط، وتم غلق 53 ملفا منها من دون تقديم لوائح اتهام.
كما تبين أنه في السنوات الأخيرة، فتح 79 ملفا جنائيا حول تجاوز الحدود، بينها حالات اشتكى فيها الفلسطينيون من قيام المستوطنين بقطع الأشجار وحرقها، والاستيلاء على الأراضي، وتدمير محاصيل، بالإضافة إلى مخالفات أخرى. ومع ذلك، وعلى الرغم من الشكاوى الكثيرة، فقد قررت الشرطة الإسرائيلية التوصية بتقديم لوائح اتهام في 5 ملفات فقط. وتبين أيضا، أن نسبة تقديم لوائح الاتهام في الملفات المشار إليها كانت منخفضة في مخالفات المس بالأملاك، حيث تبين أنه في 22 ملفا جنائيا تتصل بالسرقة والحرق وتدمير معدات زراعية وإيقاع أضرار بأملاك فلسطينيين، لم يتم تقديم لوائح اتهام في أي ملف منها. وفي أعقاب هذه المعطيات، طلبت منظمة «يش دين»، تفسيرا من الشرطة، للنسبة المتدنية للملفات التي جرى فيها تقديم لوائح اتهام، وادعت الشرطة أنه في 91 ملفا منها لم يكن الجاني معروفا، وفي 43 ملفا منها، كان هناك نقص في الأدلة. كما ادعت أنه في 9 منها لم يتكن هناك تهمة جنائية في المخالفة، في حين أغلقت 5 ملفات من دون أي سبب واضح.

لهذا التسامح يوجد ثمن
يقول الصحافي عاموس هرئيل، الذي يتابع نشاط المستوطنين، إن «تراكم أحداث الأسبوع الماضي - المواجهة العنيفة حول هدم المباني في بيت إيل، ولائحة الاتهام ضد (شبيبة التلال) الذين أشعلوا النار في كنيسة الطابغة، والتوتر في الحرم القدسي أثناء (صلاة التاسع من آب)، ومقتل ثلاثة فلسطينيين برصاص الجيش الإسرائيلي خلال أسبوع، و(يوم الغضب) الذي أعلنته حماس احتجاجا – يشكل وصفة لاحتمال اندلاع مواجهات أوسع». ويتابع: «التسامح طويل الأمد الذي أبدته الدولة ضد عنف اليمين الراديكالي، الذي بدا واضحا مرة أخرى هذا الأسبوع في بيت إيل (لم يبق أي من المعتدين على رجال الشرطة في السجن)، هو الذي يسمح في نهاية هذه المسألة، بجرائم الكراهية القاتلة كتلك التي وقعت في قرية دوما. هناك ثمن لليد الخفيفة. النضال السياسي، حتى عندما يدار ضد تطبيق قرار محكمة، هو جزء من الحوار المشروع، ولكن عندما توافق القيادة المنتخبة للمستوطنات، بصمت، على أعمال الشغب، ويتنافس الوزراء خلال الأسبوع الحالي في الهجوم على المحكمة العليا ووزير الأمن، يصعب التعامل مع القتل في دوما وكأنه رعد في يوم صاف، حتى وإن كانت الغالبية الساحقة من المستوطنين تعارض أعمال مجموعة إرهابية صغيرة».
يقول الروائي ديفيد غروسمان، إن «الشعور السائد هو أن القيادة الإسرائيلية لا تزال، الآن أيضا، لا تفهم - أو ترفض الاعتراف أمام نفسها بهذه الحقيقة التي لا تطيقها – أن العناصر الإرهابية اليهودية القائمة فيها، أعلنت الحرب عليها، وأنها غير قادرة، أو خائفة، أو مترددة بشأن الحاجة إلى تفسير هذا الإعلان بعبارات لا لبس فيها. في كل يوم تنطلق هنا قوى وحشية متزمتة.. مظلمة ومحكمة الغلق في تعصبها. إنهم يؤججون أنفسهم بنار الإيمان الديني والقومي، ويتجاهلون تماما قيود الواقع وقيود الأخلاق ومبادئ المنطق البسيط. وكلما أصبح الوضع العام أشد خطورة وتفككا، فإنهم يزدهرون. لا يمكن المساومة مع هؤلاء الناس. يتحتم على حكومة إسرائيل محاربتهم تماما كما تحارب الإرهاب الفلسطيني. هل يمكن للفظاعة الكامنة في حرق الرضيع، أن تجعل قادة اليمين يستردون رشدهم ويفهمون، أخيرا، ما يصرخ به الواقع في آذانهم منذ سنوات.. وهو أن استمرار الاحتلال والامتناع عن الحوار مع الفلسطينيين يمكنه أن يقرب نهاية إسرائيل كدولة للشعب اليهودي، كدولة ديمقراطية، كمكان يتماثل الشباب معه ويرغبون في العيش فيه وتربية أولادهم أيضا؟ هل يفهم نتنياهو فعلا، حتى العمق، أنه خلال هذه السنوات التي استثمر فيها كل قواه لعرقلة الاتفاق مع إيران، نشأ هنا واقع خطير لا يقل عن التهديد الإيراني، وأنه يتصرف حياله، كرجل لا يعرف ماذا يفعل؟ يصعب تصور كيف يمكن التخلص من هذه الفقاعة وإعادة الأمور إلى وضع منطقي. الواقع الذي ولده نتنياهو ورفاقه (وأيضا غالبية من سبقوه في ديوان رئيس الحكومة)، وترددهم أمام النشاط الاستيطاني وتضامنهم العميق معه، هذا الواقع احتجزهم هم أنفسهم في داخله في النهاية، وجعلهم مشلولين وعاجزين».

أبرز الاعتداءات الإرهابية اليهودية ضد الفلسطينيين (1980 ـ 2015)

فيما يلي أبرز الاعتداءات اليهودية الإرهابية ضد الفلسطينيين، والتي نبتت بين صفوف المستوطنين:
> جاءت البداية مع ظهور العصابات السرية اليهودية، بين عامي 1980 و1984، وكان من أبرز نشاطاتها، محاولة اغتيال رؤساء ثلاث بلديات فلسطينية وإصابتهم جميعا، وقتلت ثلاثة جامعيين في الكلية الإسلامية في الخليل.
> ظهور تنظيم سري يحمل اسم «تي إن تي» (وهي اختصار عبري لعبارة «إرهاب ضد إرهاب»)، عمل بين 1983 و1984، وأدين أعضاؤه بسلسلة عمليات إرهابية، مثل زرع عبوات ناسفة في مؤسسات دينية عربية بمنطقة القدس.
> في 1984، جاءت «عصابة لفتا»، التي ضمت نشطاء متطرفين أقاموا في قرية لفتا المهجرة في القدس، وتسللوا إلى الحرم القدسي حاملين عبوات ناسفة بهدف تفجير المساجد، وقد تم ضبطهم قبل تنفيذ الجريمة.
> في 22 أبريل (نيسان) 1985، نفذ كل من داني أيزنمان وغيل فوكس وميخال هليل في القدس الشرقية، عملية إرهابية، حيث أوقفوا سيارة أجرة فلسطينية وقتلوا سائقها. وقد حكم عليهم بالسجن المؤبد، غير أنه جرى إطلاق سراحهم بعد 5 - 11 عاما.
> في 20 مايو (أيار) 1990، نفذ المجرم عامي بوبر جريمة إرهابية مهولة؛ إذ داهم مجموعة من العمال الفلسطينيين كانوا ينتظرون عند محطة للحافلات في ريشون لتسيون، بعد انتهاء عملهم، لكي يستقلوا إحدى حافلاتها عائدين إلى بيوتهم. قتل بوبر 7 عمال فلسطينيين وأصاب 11 آخرين بجراح. وقد فرض على القاتل السجن المؤبد لسبع مرات، ثم جرى تخفيف عقوبته وتقليصها لمدة 40 سنة.
> في نوفمبر (تشرين الثاني) 1992، وخلال الذكرى السنوية الثانية لمقتل زعيم حركة «كاخ» مائير كهانا، ظهرت «دورية الانتقام» التي قام أربعة من أفرادها بإلقاء قنبلة في الحي الإسلامي في القدس، أسفر انفجارها عن مقتل فلسطيني وإصابة عدد كبير من الجرحى.
> في 25 فبراير (شباط) 1994، نفذ السفاح باروخ غولدشتاين، مجزرة الحرم الإبراهيمي، فقتل 29 مصليا مسلما وأصاب 129، قبل أن يسيطر المصلون عليه ويقتلونه.
> وفي عام 2002، ظهرت مجموعة الإرهابيين من مستوطنة «بات عاين»، التي أدين أفرادها بقيامهم بمحاولات لتنفيذ عمليات إرهابية ضد الفلسطينيين، وقد تمت تبرئتهم من قتل ثمانية فلسطينيين.
> في 4 أغسطس (آب) 2005، صعد الإرهابي عيدن نتان زادة، الجندي الفار من الخدمة، إلى حافلة ركاب متجهة من تل أبيب إلى مدينة شفاعمرو العربية داخل إسرائيل، وقتل أربعة من ركابها وأصاب آخرين، قبل أن تتمكن الحشود التي وصلت إلى المكان من القبض عليه وقتله.
> في 17 أغسطس 2005، اختطف المستوطن أشير فيسغان، سلاح أحد الحراس وفتح النار على الفلسطينيين الذين كان يقلهم في سيارته، فقتل أربعة وأصاب آخر.
> في 21 يوليو (تموز) 2014، اختطف يوسف حاييم بن ديفيد، وقاصرون يهود، الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير من شعفاط، وحرقوه حيا في غابة القدس، انتقاما لقتل ثلاثة فتية يهود، كما ادعوا في المحكمة.



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.