إرهاب المستوطنات

11 ألف اعتداء نفذها مستوطنون ضد الفلسطينيين خلال 11 عامًا

إرهاب المستوطنات
TT

إرهاب المستوطنات

إرهاب المستوطنات

من اعتقد أن العملية الإرهابية البشعة التي نفذها إرهابيون يهود فجر الجمعة الماضي في قرية دوما الفلسطينية، حين أشعل المجرمون النيران في بيت سعد دوابشة بهدف إحراقه وزوجته وطفليه، هي عملية يتيمة فهو مخطئ؛ فالعملية تعد واحدة من 15 عملية إرهابية جرت بالطريقة عينها منذ عام 2008، وكان يمكن للبداية أن تكون أبشع وأقسى، كما يقول الصحافي الإسرائيلي آفي سخاروف.
يروي الكاتب الإسرائيلي ما جرى في ذلك اليوم من شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2008، فيقول: «وجدت نفسي في وضع مماثل لوضع سعد دوابشة وزوجته. مجموعة من المستوطنين المتطرفين أقدموا، يومها، على حرق عائلة فلسطينية بأكملها. وقع الحادث على هامش إخلاء (بيت الخلاف) في الخليل. كنت أقوم بمسح لمشهد الجريمة مراسلا لصحيفة (هآرتس)، وقد لاحظت نارًا صاعدة من أحد المنازل الفلسطينية في واد يقع بين (كريات أربع) والخليل.

اتجهت أنا والمصورة التي ترافقني إلى المكان. من بعيد، لاحظنا اللهيب يخرج من المنزل، وسمعنا صراخا، ودهشنا لرؤية العشرات من المستوطنين (أكثر من مائة) المتجمعين حول المنزل، يلقون الحجارة على كل من يحاول الخروج منه.
لقد كانت هذه محاولة لارتكاب مذبحة، لا أقل من ذلك. توجهت إلى أحد الجنود القريبين من المكان، فأوضح لي أنه وزملاءه مسؤولون عن قطاع بأكمله، ولا يمكنهم الوصول إلى المنزل. اقتربنا أكثر من منزل العائلة، ورأينا المشهد التالي المرعب: يهود يحاولون قتل أسرة بأكملها حرقا. محاولة لمذبحة. في مرحلة ما، ركضنا إلى جانب مصورين آخرين إلى المنزل تحت وابل من الحجارة. في الداخل كانت الصورة صعبة. نساء في حالة هستيريا، رجال خائفون، جميعهم يشعرون أن أجلهم قريب. أتذكر جيدا الرعب على وجه إحدى النساء، التي راحت تصرخ بشكل متكرر: (الله أكبر)، وتتوسل لإنقاذها. حاولت الخروج والصراخ لإيقاف مرتكبي المذبحة، لكنهم راحوا يرجمون الصحافيين الإسرائيليين بالحجارة أيضا. وطوال هذا الوقت، كانت النيران لا تزال تشتعل وتتصاعد من المبنى إلى أعلى. بينما العرض مستمر حولها. تقدم الكشافة اليهودية للإرهابيين اليهود النصائح حول كيفية إيذاء الأسرة على نحو أكثر فعالية، وعدم القيام بأي فعل من شأنه وقف المذبحة. فقط بعد نحو عشرين دقيقة، نجحت قوات الشرطة في الانضمام إلينا وإنقاذنا جميعا من الموت. وغني عن القول، أنه لم يجر اعتقال أحد من المتورطين في هذا العمل، أو محاكمته. أولئك لم يكونوا قلة. كان هناك أكثر من مائة مستوطن اكتفوا بمراقبة كل شيء عن قرب، بدلا من محاولة التدخل لمساعدة الأسرة (الفلسطينية). وانتهى ذلك الحادث بمعجزة (على الرغم من قيام بعض كتاب التعقيبات بالتعبير عن حزنهم لعدم إحراقي وقتها مع العائلة الفلسطينية)».
هذه العمليات لم تحظ بما تستحق من اهتمام، في حينه. لذلك رأينا المذبحة تعود وتتكرر. لكن من يتابع نشاط المستوطنين في الضفة الغربية عن كثب، لا يفاجأ مطلقا بالاعتداءات ولا ببشاعتها. فقد تفنن هؤلاء المستوطنون في عمليات الاعتداء. ووفقا لإحصاءات مؤسسات حقوق الإنسان، بلغت الاعتداءات من هذا النوع، نحو 11 ألف اعتداء، وقعت جميعها منذ سنة 2004. وحسب معطيات منظمة «يش دين»، وهي منظمة إسرائيلية لحقوق الإنسان وتطبيق القانون، فقد جرى منذ عام 2008، توثيق 15 عملية إضرام للنيران أو محاولة لإضرامها في بيوت الفلسطينيين في الضفة الغربية وهم نيام. في 12 حالة منها، جرى تقديم شكاوى إلى الشرطة، انتهت عشر منها بغلق الملفات من دون تقديم لوائح اتهام، بينما يتواصل التحقيق في ملفين آخرين.
في قرية بورين مثلا، تم توثيق ثلاث حالات جرى خلالها إضرام النيران في بيوت، وفي يونيو (حزيران) 2014، جرى حرق بيت في قرية خربة أبو فلاح، حيث ألقيت قنبلة مولوتوف على البيت وسكانه لا يزالون في داخله. وفي ديسمبر، تم إضرام النار في بيت بقرية الديرات، أيضا بوجود سكانه فيه.
وبالإضافة إلى الاعتداءات على الأراضي الفلسطينية ونهبها وإقامة بيوت استيطانية عليها، توجد بين المستوطنين مجموعات متطرفة تتحكم فيها عقلية البلطجة والعنف؛ يحرقون المزروعات، ويعتدون على المواطنين في الطرقات، ويقتحمون بلدات فلسطينية ويقذفون الحجارة على زجاج النوافذ، ويدخلون بأعداد كبيرة إلى البلدات ويغلقونها في وجه أصحابها وسكانها، ويطلقون الرصاص فوق الرؤوس، ويخربون ممتلكات، ويعتدون على المساجد والكنائس والأديرة والمقابر. وفي مثل هذه الأيام من السنة الماضية، خطفت مجموعة مستوطنين الفتى المقدسي القاصر، محمد أبو خضير، وقام أفرادها بسكب الوقود السائل على جسده وحرقه حيا حتى الموت.
لقد اختار المستوطنون تنفيذ هذه الاعتداءات بدوافع مختلفة؛ أهمها ما يسمى «الردع»، ويقصد به تنفيذ عمليات اعتداء بهدف التخويف ونشر الرعب. على سبيل المثال، يلجأ اليهود المتطرفون هؤلاء، إلى عمليات استيطان في قلب الأحياء العربية في القدس الشرقية المحتلة. وهم يعرفون أن الفلسطينيين لا يطيقون تصرفاتهم ولا يرغبون في جيرتهم. ولكي يمنعوا الفلسطينيين من ترجمة غضبهم إلى فعل، يبادرون بالاعتداء على الفلسطينيين.

التسامح السلطوي
غير أن الأخطر في موضوع الاعتداءات التي يقوم بها مستوطنون، هو تسامح السلطات الإسرائيلية مع المستوطنين. ويتضح من معطيات نشرتها منظمة «يش دين»، التي تتابع ملفات الاعتداء على الفلسطينيين في الشرطة، أن أكثر من 90 في المائة من بين ملفات الاعتداءات على الفلسطينيين في الضفة الغربية، تنتهي دون تقديم لائحة اتهام.
ويتناول التقرير 205 ملفات تحقيق في السنوات الأخيرة، أنهت الشرطة والنيابة متابعة 163 ملفا منها، تم في 13 ملفا منها (أي ما نسبته 8 في المائة) تقديم لوائح اتهام، في حين تبين أن أحد الملفات قد فقد، ولم يستكمل التحقيق فيه. أما الملفات الـ149 الباقية فقد أغلقت من دون تقديم لوائح اتهام. وكانت المنظمة المذكورة قد تابعت معالجة الملفات التي تتصل بثلاثة مجالات مركزية؛ الاعتداء، والمس بالممتلكات، وتجاوز الحدود. وتبين أنه في 81 مخالفة اعتداء نفذت ضد فلسطينيين، أنهت الشرطة معالجة 62 منها فقط، وتم غلق 53 ملفا منها من دون تقديم لوائح اتهام.
كما تبين أنه في السنوات الأخيرة، فتح 79 ملفا جنائيا حول تجاوز الحدود، بينها حالات اشتكى فيها الفلسطينيون من قيام المستوطنين بقطع الأشجار وحرقها، والاستيلاء على الأراضي، وتدمير محاصيل، بالإضافة إلى مخالفات أخرى. ومع ذلك، وعلى الرغم من الشكاوى الكثيرة، فقد قررت الشرطة الإسرائيلية التوصية بتقديم لوائح اتهام في 5 ملفات فقط. وتبين أيضا، أن نسبة تقديم لوائح الاتهام في الملفات المشار إليها كانت منخفضة في مخالفات المس بالأملاك، حيث تبين أنه في 22 ملفا جنائيا تتصل بالسرقة والحرق وتدمير معدات زراعية وإيقاع أضرار بأملاك فلسطينيين، لم يتم تقديم لوائح اتهام في أي ملف منها. وفي أعقاب هذه المعطيات، طلبت منظمة «يش دين»، تفسيرا من الشرطة، للنسبة المتدنية للملفات التي جرى فيها تقديم لوائح اتهام، وادعت الشرطة أنه في 91 ملفا منها لم يكن الجاني معروفا، وفي 43 ملفا منها، كان هناك نقص في الأدلة. كما ادعت أنه في 9 منها لم يتكن هناك تهمة جنائية في المخالفة، في حين أغلقت 5 ملفات من دون أي سبب واضح.

لهذا التسامح يوجد ثمن
يقول الصحافي عاموس هرئيل، الذي يتابع نشاط المستوطنين، إن «تراكم أحداث الأسبوع الماضي - المواجهة العنيفة حول هدم المباني في بيت إيل، ولائحة الاتهام ضد (شبيبة التلال) الذين أشعلوا النار في كنيسة الطابغة، والتوتر في الحرم القدسي أثناء (صلاة التاسع من آب)، ومقتل ثلاثة فلسطينيين برصاص الجيش الإسرائيلي خلال أسبوع، و(يوم الغضب) الذي أعلنته حماس احتجاجا – يشكل وصفة لاحتمال اندلاع مواجهات أوسع». ويتابع: «التسامح طويل الأمد الذي أبدته الدولة ضد عنف اليمين الراديكالي، الذي بدا واضحا مرة أخرى هذا الأسبوع في بيت إيل (لم يبق أي من المعتدين على رجال الشرطة في السجن)، هو الذي يسمح في نهاية هذه المسألة، بجرائم الكراهية القاتلة كتلك التي وقعت في قرية دوما. هناك ثمن لليد الخفيفة. النضال السياسي، حتى عندما يدار ضد تطبيق قرار محكمة، هو جزء من الحوار المشروع، ولكن عندما توافق القيادة المنتخبة للمستوطنات، بصمت، على أعمال الشغب، ويتنافس الوزراء خلال الأسبوع الحالي في الهجوم على المحكمة العليا ووزير الأمن، يصعب التعامل مع القتل في دوما وكأنه رعد في يوم صاف، حتى وإن كانت الغالبية الساحقة من المستوطنين تعارض أعمال مجموعة إرهابية صغيرة».
يقول الروائي ديفيد غروسمان، إن «الشعور السائد هو أن القيادة الإسرائيلية لا تزال، الآن أيضا، لا تفهم - أو ترفض الاعتراف أمام نفسها بهذه الحقيقة التي لا تطيقها – أن العناصر الإرهابية اليهودية القائمة فيها، أعلنت الحرب عليها، وأنها غير قادرة، أو خائفة، أو مترددة بشأن الحاجة إلى تفسير هذا الإعلان بعبارات لا لبس فيها. في كل يوم تنطلق هنا قوى وحشية متزمتة.. مظلمة ومحكمة الغلق في تعصبها. إنهم يؤججون أنفسهم بنار الإيمان الديني والقومي، ويتجاهلون تماما قيود الواقع وقيود الأخلاق ومبادئ المنطق البسيط. وكلما أصبح الوضع العام أشد خطورة وتفككا، فإنهم يزدهرون. لا يمكن المساومة مع هؤلاء الناس. يتحتم على حكومة إسرائيل محاربتهم تماما كما تحارب الإرهاب الفلسطيني. هل يمكن للفظاعة الكامنة في حرق الرضيع، أن تجعل قادة اليمين يستردون رشدهم ويفهمون، أخيرا، ما يصرخ به الواقع في آذانهم منذ سنوات.. وهو أن استمرار الاحتلال والامتناع عن الحوار مع الفلسطينيين يمكنه أن يقرب نهاية إسرائيل كدولة للشعب اليهودي، كدولة ديمقراطية، كمكان يتماثل الشباب معه ويرغبون في العيش فيه وتربية أولادهم أيضا؟ هل يفهم نتنياهو فعلا، حتى العمق، أنه خلال هذه السنوات التي استثمر فيها كل قواه لعرقلة الاتفاق مع إيران، نشأ هنا واقع خطير لا يقل عن التهديد الإيراني، وأنه يتصرف حياله، كرجل لا يعرف ماذا يفعل؟ يصعب تصور كيف يمكن التخلص من هذه الفقاعة وإعادة الأمور إلى وضع منطقي. الواقع الذي ولده نتنياهو ورفاقه (وأيضا غالبية من سبقوه في ديوان رئيس الحكومة)، وترددهم أمام النشاط الاستيطاني وتضامنهم العميق معه، هذا الواقع احتجزهم هم أنفسهم في داخله في النهاية، وجعلهم مشلولين وعاجزين».

أبرز الاعتداءات الإرهابية اليهودية ضد الفلسطينيين (1980 ـ 2015)

فيما يلي أبرز الاعتداءات اليهودية الإرهابية ضد الفلسطينيين، والتي نبتت بين صفوف المستوطنين:
> جاءت البداية مع ظهور العصابات السرية اليهودية، بين عامي 1980 و1984، وكان من أبرز نشاطاتها، محاولة اغتيال رؤساء ثلاث بلديات فلسطينية وإصابتهم جميعا، وقتلت ثلاثة جامعيين في الكلية الإسلامية في الخليل.
> ظهور تنظيم سري يحمل اسم «تي إن تي» (وهي اختصار عبري لعبارة «إرهاب ضد إرهاب»)، عمل بين 1983 و1984، وأدين أعضاؤه بسلسلة عمليات إرهابية، مثل زرع عبوات ناسفة في مؤسسات دينية عربية بمنطقة القدس.
> في 1984، جاءت «عصابة لفتا»، التي ضمت نشطاء متطرفين أقاموا في قرية لفتا المهجرة في القدس، وتسللوا إلى الحرم القدسي حاملين عبوات ناسفة بهدف تفجير المساجد، وقد تم ضبطهم قبل تنفيذ الجريمة.
> في 22 أبريل (نيسان) 1985، نفذ كل من داني أيزنمان وغيل فوكس وميخال هليل في القدس الشرقية، عملية إرهابية، حيث أوقفوا سيارة أجرة فلسطينية وقتلوا سائقها. وقد حكم عليهم بالسجن المؤبد، غير أنه جرى إطلاق سراحهم بعد 5 - 11 عاما.
> في 20 مايو (أيار) 1990، نفذ المجرم عامي بوبر جريمة إرهابية مهولة؛ إذ داهم مجموعة من العمال الفلسطينيين كانوا ينتظرون عند محطة للحافلات في ريشون لتسيون، بعد انتهاء عملهم، لكي يستقلوا إحدى حافلاتها عائدين إلى بيوتهم. قتل بوبر 7 عمال فلسطينيين وأصاب 11 آخرين بجراح. وقد فرض على القاتل السجن المؤبد لسبع مرات، ثم جرى تخفيف عقوبته وتقليصها لمدة 40 سنة.
> في نوفمبر (تشرين الثاني) 1992، وخلال الذكرى السنوية الثانية لمقتل زعيم حركة «كاخ» مائير كهانا، ظهرت «دورية الانتقام» التي قام أربعة من أفرادها بإلقاء قنبلة في الحي الإسلامي في القدس، أسفر انفجارها عن مقتل فلسطيني وإصابة عدد كبير من الجرحى.
> في 25 فبراير (شباط) 1994، نفذ السفاح باروخ غولدشتاين، مجزرة الحرم الإبراهيمي، فقتل 29 مصليا مسلما وأصاب 129، قبل أن يسيطر المصلون عليه ويقتلونه.
> وفي عام 2002، ظهرت مجموعة الإرهابيين من مستوطنة «بات عاين»، التي أدين أفرادها بقيامهم بمحاولات لتنفيذ عمليات إرهابية ضد الفلسطينيين، وقد تمت تبرئتهم من قتل ثمانية فلسطينيين.
> في 4 أغسطس (آب) 2005، صعد الإرهابي عيدن نتان زادة، الجندي الفار من الخدمة، إلى حافلة ركاب متجهة من تل أبيب إلى مدينة شفاعمرو العربية داخل إسرائيل، وقتل أربعة من ركابها وأصاب آخرين، قبل أن تتمكن الحشود التي وصلت إلى المكان من القبض عليه وقتله.
> في 17 أغسطس 2005، اختطف المستوطن أشير فيسغان، سلاح أحد الحراس وفتح النار على الفلسطينيين الذين كان يقلهم في سيارته، فقتل أربعة وأصاب آخر.
> في 21 يوليو (تموز) 2014، اختطف يوسف حاييم بن ديفيد، وقاصرون يهود، الطفل الفلسطيني محمد أبو خضير من شعفاط، وحرقوه حيا في غابة القدس، انتقاما لقتل ثلاثة فتية يهود، كما ادعوا في المحكمة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.