الراوي... قصة سقوط بغداد واللقاءات الأخيرة مع صدّام

وزير التجارة العراقي الأسبق يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن مشاهد «الجثث المحترقة» و«معركة المطار» وكيف سلّمه السوريون للأميركيين «يداً بيد»

محمد مهدي صالح الراوي
محمد مهدي صالح الراوي
TT

الراوي... قصة سقوط بغداد واللقاءات الأخيرة مع صدّام

محمد مهدي صالح الراوي
محمد مهدي صالح الراوي

كان محمد مهدي صالح الراوي، وزير التجارة العراقي الأسبق ووكيل رئيس ديوان الرئيس الراحل صدّام حسين سابقاً، شاهداً على الغزو الأميركي لبلاده في 20 مارس (آذار) 2003. عاين بأم عينيه حملة «الصدمة والترويع» التي أعلنها الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش وتضمنت قصفاً عنيفاً للمنشآت العراقية، قبل تقدم القوات البرية نحو بغداد. يتذكر «الجثث المحترقة» التي نتجت عن القصف الأميركي. يتذكر الاجتماعات الأخيرة التي عقدها مع صدّام، قبل انهيار نظامه. ويتذكر مشاهدته الدبابات الأميركية وهي تدخل العاصمة العراقية. غادر الراوي بغداد بعد سقوطها في 5 أبريل (نيسان). ذهب إلى مسقط رأسه في راوة بمحافظة الأنبار قرب الحدود السورية. ومن هناك، دخل إلى سوريا نفسها حيث استقبله آصف شوكت، مسؤول الأمن السوري وزوج شقيقة الرئيس بشار الأسد. كان الراوي يعتقد أنه سيكون موضع ترحيب في سوريا. فهو من مهندسي عودة العلاقات العراقية – السورية، وكان مكلفاً من الرئيس صدّام بملف سوريا. لم يدم بقاؤه في سوريا طويلاً. أعاده السوريون إلى الحدود العراقية حيث تسلّمه مباشرة الجنود الأميركيون يداً بيد. فهو المطلوب رقم 35 على قائمة أبرز المطلوبين للولايات المتحدة من أركان حكم صدّام. وُضع في قائمة المطلوبين بملف «أسلحة الدمار الشامل» التي زعم الأميركيون أن صدّام يمتلكها وبرروا بها الغزو، من دون أن يجدوا دليلاً على وجودها. بعد 9 سنوات في المعتقل، أُفرج عن الراوي بعد أن أصدرت المحكمة الجنائية العراقية العليا حكماً ببراءته. «الشرق الأوسط» أجرت حواراً مع المسؤول العراقي الأسبق تحدث فيه عن ذكرى الغزو وكيف انتهى به المطاف في أيدي الأميركيين:
يتذكر الراوي بوضوح ليلة بدء الحرب، لكنه يؤكد أنها لم تكن مفاجئة. يقول: «لم يكن الغزو الأميركي للعراق وبداية الاعتداء الغاشم على بلدنا مفاجئاً للمسؤولين والوزراء والقوات المسلحة والأجهزة الأمنية والتنظيمات الحزبية... كان الجميع متأهباً في تلك الليلة وحتى قبل أن يحصل القصف الجوي وتبدأ المعارك البرية. كانت الدولة والأجهزة الأمنية مستعدة على الأرض وفي كل الميادين لمواجهة العدو. وبالتالي لم نفاجأ بهذا الغزو غير المبرر. فقد كان هناك قرار أميركي مسبق باحتلال العراق تحت أي ذريعة».
ويتابع: «بالنسبة لي، بقيتُ في الوزارة مع زملائي. لم نترك مقراتنا، وكنا نتابع الأمور. فقد استبقنا الحرب بأن أمّنّا خزيناً من الغذاء الاحتياطي للمواطنين يدوم ستة أشهر. كان الهدف أن يكون لدى المواطنين ما يكفيهم عندما تندلع الحرب. وبالفعل أنجزنا هذه المهمة قبل أن يبدأ القصف الجوي على بغداد. بقينا في الوزارة أنا والمديرون العامّون والموظفون... كنا في الوزارة ليلة بدء القصف، ولم نغادر مكاننا. ولكن كان لدينا أيضاً مكان آخر احتياطي في ساحة عدن القريبة من موقع الوزارة. يقع هناك مقر إحدى شركاتنا التي تدير مخازن الدقيق والخبز. بقينا نتناوب بين مقر الوزارة والمقر الاحتياطي طوال فترة القصف الجوي والمعارك البرية وحتى احتلال بغداد. لم نغادر».

محمد مهدي صالح الراوي ضمن قائمة أبرز المطلوبين للولايات المتحدة من نظام الرئيس الراحل صدام حسين (غيتي)

ويتحدث الراوي عن آخر الاجتماعات التي حضرها للقيادة العراقية خلال الغزو وحتى سقوط النظام. يقول: «حضرت 3 اجتماعات بعد الغزو مع الرئيس الراحل صدّام حسين. الاجتماع الأول كان بعد أكثر من أسبوع من بدء القصف الجوي وانطلاق المعارك البرية. حضرت مع وزير النفط. كان الرئيس قد طلب منّي أن أُدخل مواد غذائية إلى مدينة بغداد تحسباً لأن تكون هناك معارك مع العدو داخلها. كذلك طلب من الدكتور عامر رشيد، وزير النفط، أن يكثّف الدخان المحترق من الوقود لحرف اتجاهات الصواريخ عن أهدافها المحددة. الاجتماع الثاني حضرته أيضاً مع وزير النفط، بعدما طلبنا الرئيس الراحل مجدداً. حضرنا وقتها اجتماع القيادة وكان الرئيس صدّام يتابع موضوع تأمين الغذاء داخل بغداد. فطمأنته وقلت له إننا أكملنا تجهيز 6 أشهر للمواطنين، ولذلك لا يوجد مبرر للقلق من هذا الجانب. كما أكدت له أنه لا سبب للقلق في بغداد تحديداً؛ إذ لدينا مخزون فائض من الأغذية يكفي أكثر من ستة أشهر. فقال: رغم ذلك، واصلوا جهدكم... كان هذا قبل أن تدخل الدبابات الأميركية إلى المدينة. الاجتماع الثالث كان في يوم 3 أبريل وحضره قادة عسكريون. وكان حاضراً (ابنا صدّام) قصي وعدي ووزير الدفاع (سلطان هاشم الطائي). كان القادة العسكريون يناقشون الوضع بعدما دخلت القوات الأميركية إلى بغداد، فطلب مني الرئيس الراحل أن أعاون الجيش في نقل السلاح. وبالفعل حضر عميد ركن من الحرس الجمهوري واستقر في إحدى شركات وزارة التجارة وهي الشركة العامة لتجارة الحبوب في باب المعظم بوسط مدينة بغداد إلى جانب المدير العام للشركة يوسف عبد الرحمن العاني. وحسب طلب ممثل الحرس الجمهوري، استمر نقل السلاح من مخازن العظيم ومن مخازن تكريت إلى المواقع المطلوبة. استمر النقل إلى أن احتُلت بغداد وتوقف العمل بعد دخول غوغائيين إلى مقر الشركة (بعد احتلال بغداد). كان هذا آخر اجتماع لنا بالرئيس صدّام».
هل ودّعكم صدّام في اللقاء الأخير؟ هل شعرتم بأنه سيكون لقاء الوداع؟ يرد الراوي بالقول: «لا أبداً. لم يكن أبداً هذا شعورنا. لم نشعر بأن الأمور ستنتهي إلى ما آل إليه الوضع. ونحن أدّينا واجبنا في وزارة التجارة حتى آخر لحظة في تأمين الغذاء للشعب العراقي منذ أن فُرض الحصار وعلى مدى أكثر من 13 عاماً وساعدنا أيضاً جهات أخرى بقدر ما نستطيع وبقدر ما كُلّفنا به كوزارة تجارة... طبعاً وزارة التجارة لديها أسطول كبير لنقل المواد، ولذلك طلب منا الرئيس الراحل أن ننقل السلاح. فلدينا قرابة 2000 شاحنة من الشاحنات الكبيرة القادرة حتى على نقل الدبابات... وبالفعل، جهزنا وزارة الدفاع بنحو 45 شاحنة لنقل الدبابات قبل أن تبدأ المعارك و2750 ماطوراً بثلاث عجلات».
وعندما يُسأل عن شعوره وهو يرى الدبابات الأميركية تدخل بغداد، يرد الراوي قائلاً: «طبعاً شعوري هو شعور شخص وطني يقاوم احتلالاً غاشماً لبلده من دون سبب... كانت مشاهد الدبابات وهي تدخل بغداد مؤلمة. ولكن لا المجتمع الدولي ولا المجتمع الإقليمي ولا حتى الجامعة العربية قامت بدور جدّي لمنع هذا العدوان. قمة شرم الشيخ أصدرت بياناً يدين أي عدوان على العراق، ولكن لم يكن هناك عمل فعلي لمنع وقوعه».
ويتحدث الراوي عن مشاهداته للقصف الذي استهدف بغداد مع بداية الغزو، فيقول: «كان القصف شديداً جداً وبخاصة على بغداد. طال الدمار الأبنية والمواطنين. كنت أرافق شاحنات الدقيق التي توصّل الدقيق إلى المخابز في مدينة بغداد. وكنت شاهداً في إحدى المرات على طائرات الأباتشي وهي ترشق المواطنين بطلقات نارية يميناً وشمالاً على طريق (الدورة – مسجد أم الطبول- المطار)، فحرقت السيارات المارة والسيارات الواقفة على جانبي الطريق. استُشهد مدير التعبئة والإحصاء التابع لوزارة التجارة، هو وزوجته. ذهبت بنفسي إلى مكان الحادث في سايلو الدورة. لاحظت الجثث وبعضها كان ما زال يحترق بعد الضربة. بعضهم كانوا ما زالوا أحياء داخل السيارات المحترقة. وجدت أن الموظف عندي واسمه نصرت هو وزوجته قد تفحما بشكل فوري في سيارتهما. شاهدت منظراً لا إنساني يخالف قواعد الحرب سبّبته الضربات الأميركية على مواطنين يسيرون في الشارع. المشهد لا يزال في ذاكرتي وكيف كان الضحايا يحترقون داخل سياراتهم وهم في النزع الأخير».
ويضيف موضحاً: «كان هذا الحادث بداية معركة المطار، حيث أُعلن قبل يوم أن القوات الأميركية دخلت المطار. ذهبتُ مع وزير النقل أحمد مرتضى، ونقلتْ وسائل الإعلام مشهد صعودنا إلى طائرة جامبو داخل المطار لإثبات عدم صحة الخبر الذي أطلقه الأميركيون. بعدها بيوم دخلت القوات الأميركية المطار وواجهت مقاومة شرسة من فصائل الحرس الجمهوري والحرس الخاص و(فدائيي صدّام) والمتطوعين العرب، وأُبيد معظم القوات المعادية وتقهقر المتبقي خارج المطار، مما دفع القوات الأميركية إلى استخدام أسلحة فتاكة محرّمة أبادت معظم المقاتلين وصهرت الدبابات في هجومها الثاني على المطار، ما مكّنها من احتلاله. ولقد سبق أن أبلغني مسؤول عربي كبير قبل ثلاثة أشهر من بدء العدوان على العراق بأنه علم من قائد القوات الأميركية الجنرال تومي فرانكس المكلف بقيادة جيش بلاده لاحتلال العراق، بأنه إذا نشبت الحرب فإن القوات الأميركية ستحتلّ العراق بكل الأسلحة المتاحة حتى وإن تطلب الأمر استخدام القنابل النووية الميدانية (التكتيكية). شدد (المسؤول العربي) على ضرورة الكشف عن أسلحة الدمار إذا كانت موجودة، فقد كان حريصاً على منع وقوع الحرب. فأكدتُ في اللقاء خلوّ العراق من أسلحة الدمار، وتم إيصال هذه المعلومات إلى الرئيس... والذي أُريد التأكيد عليه هنا أن الذي حصل في المعركة الثانية في المطار باستخدام أسلحة محرمة وفتاكة كان جزءاً من خطة غزو العراق المعدّة مسبقاً والتصميم على احتلاله».

سقوط بغداد... وسقوطه في أيدي الأميركيين

ويروي الراوي قصة خروجه من بغداد بعد احتلالها وكيف انتهى به المطاف في أيدي الأميركيين. فيقول: «لم نكن في الأساس نتوقع أن تُحتل بغداد وأن يُحتل العراق. لذلك لم تكن لدينا خطة، على الأقل كوزراء، للتعامل مع احتلال العراق. الذي حصل أنه بعد دخول القوات الأميركية إلى بغداد، اتصل بنا في يوم 9 أبريل سكرتير أمانة مجلس الوزراء الدكتور خليل المعموري وأبلغ ممثلي الوزراء الذين يستلمون التوجيهات من المجلس يومياً أو إيصال المعلومات إليه، بأن الوزراء يمكنهم أن يذهبوا إلى المكان الذي يرغبون فيه. مدينتي هي راوة وعائلتي وأهلي هناك. فاتجهت إلى راوة التي تبعد عن الحدود السورية نحو 100 كلم. عوائلنا الراويون موجودون في البوكمال وفي دير الزور وفي حلب. كان هناك تواصل منذ زمن طويل كعوائل على طول خط الفرات الأعلى (بين العراق وسوريا). فلما وصلت إلى راوة، أشاروا عليّ أن أذهب إلى سوريا لفترة أسبوعين وأراقب الموقف، علماً بأنني في الحقيقة لم أكن مهيئاً نفسياً للسفر إلى أي بلد خارج العراق ولا يوجد لديّ سوى جوازي الدبلوماسي. في اليوم التالي، اتجهت إلى سوريا مع أخي مزهر، ومعي المستشار في رئاسة الجمهورية عصام عبد الرحيم الراوي المشرف على نقطة طريبيل. وصلنا إلى سوريا، وفي الواقع لديّ علاقة قوية بالجانب السوري. فقد كنت عندما أطلب زيارة للرئيس بشار الأسد تتم تلبية الطلب. وقد أرسلني الرئيس الراحل صدّام مبعوثاً إلى الرئيس بشار حينما عُيّن رئيساً للجمهورية. وتم توقيع اتفاق للتجارة الحرة وفُتحت الحدود بحيث أصبح العراق وسوريا سوقاً اقتصادية موحدة وتم تشغيل أنبوب النفط الذي يعد خطوة مهمة في إطار الخروج من طوق الحصار عام 2000، وعلى هذا الأساس، حينما ذهبت إلى سوريا (بعد احتلال العراق) لم يكن لديّ قلق على أساس أنني أذهب إلى بلد أمتلك علاقة قوية به. استقبلني آصف شوكت في حينه وأبلغني أن أُحضر عائلتي إنْ رغبت، فقلت له: شكراً. أريد العودة للعراق، ولكن سأبقى في سوريا لأسبوعين كي أرى تطور الموقف في العراق، حسبما أبلغت مدير استخبارات دير الزور. في نفس الليلة، أخذَنا آصف شوكت إلى عشاء أنا والسفير العراقي... وتغيّر الموقف بالليل بعد العشاء».
يضيف الراوي شارحاً ما حصل معه: «نقلوني إلى شقة في المزة أنا وزملائي. كانت الشقة أقل ما يمكن أن نقول عنها إنها كانت وسخة جداً. ليس بها شيء. كان واضحاً أنها تعود لموظفي الاستخبارات العسكرية. لم يكن هناك شيء في الثلاجة. شعرنا بأن الاستقبال الأول كان جيداً قبل الظهر... ولكن في الليل كان الموقف قد تغيّر. ويبدو أنه تم اتخاذ قرار بتسليمي منذ ذلك الوقت. طلبنا مباشرة العودة إلى العراق. بعد يومين فرّقونا. اعتُقل أخي لدى استخبارات دير الزور، وأنا حجزوني في إقامة جبرية في قرية تسمى قرية الأسد، كما أعتقد، انتظاراً لاستكمال الترتيبات اللوجيستية للتسليم... سكنت في بيت وبقي برفقتي خمسة ضباط يراقبونني ولا يسمحون لي بأن أخرج منه. فكتبت رسالة إلى الرئيس بشار بيّنت فيها أنني فلان ابن فلان وأنني جئت إلى سوريا لمدة أسبوعين وشكرته على حسن الضيافة وطلبت العودة إلى العراق وإعلامي عن مصير شقيقي. كان هذا يوم 21 أبريل 2003 قبل يومين من تسليمي. يوم 23 أبريل جاءني العميد يونس مكلفاً من اللواء آصف شوكت وأخبرني بأنه حصلت موافقة (السيد الرئيس) على عودتك... الساعة 12 (ظهراً) غادرنا دمشق في سيارة أوبل ومعنا أحد موظفيه. وصلنا إلى قرب دير الزور فقلت رجاءً أن توقفني قليلاً في المدينة كي أرى أخي فلديّ حدس كبير أنه معتقل في دير الزور. وهذا الأمر كنت قد أوضحته في رسالتي إلى الرئيس بشار التي ذكرت فيها: أرجو إبلاغي عن مصير أخي لأنني فقدته في اليوم الثالث من مجيئي إلى سوريا. لدى وصولنا إلى البوكمال شكرت العميد يونس وقلت له: أمامنا مدينة القائم التي تسمى حصيبة، فاسمح لي أن أدخل إلى بلدي. فقال لي: لا تستطيع الدخول إلى بلدك من المنفذ الرسمي وإنما سيأتي نفس الشخص الذي أوصلك إلى دمشق من دير الزور في البداية، وهو العميد ركن نصيح، وهو سيوصلك إلى حصيبة وإنما عن طريق المهربين عبر الصحراء. فقلت له: ما السبب؟ أمامي القائم والمسافة قصيرة لا تستغرق أكثر من خمس دقائق سيراً على الأقدام وحالياً ليل والجو بارد، فلماذا تريدون إيصالي عبر طريق المهربين؟ فقال لي: هذا هو التوجيه. خرجتُ بالسيارة إلى الصحراء وكان معي العميد ركن نصيح من استخبارات دير الزور. بعد نحو 20 دقيقة، وصلنا إلى نقطة معينة. أطفأ الأضواء. مشينا في الظلمة. دخلنا إلى منخفض صغير وخرجنا في الأراضي العراقية. وجدت أمامي سبعة جنود أميركيين طلبوا منّا الوقوف ووجهوا البنادق الليزرية عليّ. فتوقفت. سلمني العميد ركن نصيح للأميركيين تسليم يد. كتّفوني ووضعوا قبعة على رأسي وأدخلوني إلى عربة همفي سارت في الصحراء العراقية نحو ربع ساعة. ثم دخلت مع السيارة في طائرة (تشينوك) وصلت إلى قاعدة يبدو أنها قاعدة الوليد قرب الحدود الأردنية. كانت هناك طائرة ثابتة الجناح تنتظرني، نقلوني بها إلى بغداد».
ويتابع: «وصلتُ قرابة العاشرة ليلاً، وبدأ التحقيق معي على مدى خمس ساعات. كان هناك مترجم لبناني يعمل مع المحقق الأميركي. قلت له إنني لا أحتاج إلى مترجم. فأنا خريج بريطانيا (لديه شهادة دكتوراه من جامعة مانشستر)، وأستطيع أن أتحدث معك بالإنجليزية. استمر التحقيق خمس ساعات. في الساعة الرابعة صباحاً نُقلتُ إلى غرفة كان فيها وزير التعليم العالي العراقي الدكتور همام عبد الغفور والدكتور سطام الكعود وشخص يدعى (أبو محمود الخلايلة) ينتمي إلى مجموعة أبو نضال الفلسطينية، وكان قد سلّم نفسه آنذاك وهو غير مطلوب للقوات الأميركية. أعطوني كيس زبالة أسود لاستخدامه كفراش، وكان الجو بارداً لكن نمنا أربعتنا على بطانية واحدة في هذه الغرفة من دون غطاء. في الصباح جاءني شخص وسأل: لماذا عدت؟ فقلت: طلبت من السلطات السورية -لم أقل من الرئيس بشار- أن أرجع إلى بلدي. سألني عن أمور أخرى مثل: مَن ذهب معك؟ فقلت: لم يذهب معي أحد. وبالطبع لا يمكن أن أبلغ عن زملائي. في اليوم التالي استدعاني رئيس المحققين في الاستخبارات العسكرية وقال لي إن واشنطن منزعجة جداً منك لأنك لم تقدم معلومات صحيحة. قلت له كيف؟ فقال: أنت تقول إنك ذهبت لوحدك إلى سوريا ولكن في الرسالة التي أرسلتها إلى الرئيس بشار الأسد كنت تسأل عن مصير أخيك مزهر مهدي صالح، إذن أنت لا تعطينا معلومات صحيحة. فقلت له: إن مزهر أخي رجل لا علاقة له بالسياسة وجاء معي ليخدمني، فلماذا أعطيكم اسمه؟ حتى رسالتي إلى الرئيس السوري وصلت إلى الأميركيين وعرضوها عليّ».
وعندما يُسأل الراوي عن فحوى رسالته إلى الرئيس السوري، يقول إنها تضمنت أموراً عدة بينها «موضوع يخص البلدين ومستقبل أمن سوريا. كان الرئيس صدّام قد كلفني بأن أبلغ الرئيس بشار بها. وقتها اجتمع مجلس قيادة الثورة والقيادة العراقية، وبعد انتهاء الاجتماع اتصل بي نائب رئيس الوزراء طارق عزيز، وقال لي إن الرئيس يقول إن هناك تهديداً على سوريا ونحن حاضرون أن نهيئ الجيش العراقي، فأبلغ الرئيس بشار بهذا الموضوع. اتصلت بالعميد ذو الهمة وقلت له إن هذه رسالة من الرئيس صدّام للرئيس بشار يقول فيها إن الجيش العراقي حاضر ومستعد لدعم سوريا في مواجهة أي تهديد بعدما سمعنا أن هناك تهديداً ضدكم. عاد العميد ذو الهمة بجواب بعد ساعة وشكر الرئيس صدّام، وقال: إن وضعنا حالياً جيد ولا نشعر بخطر، وسنبلغكم إذا احتجنا لأي شيء. انتهى الموضوع بالنسبة لي، ولكن الرئيس أرسل وزير الدفاع العراقي إلى دمشق وحرّك حينها الجيش باتجاهين؛ الأول التنف، والآخر البوكمال باتجاه سوريا لدعمها إزاء التهديد ضد سوريا من إسرائيل. كانت هذه الرسالة في الحقيقة مصدر التحقيق معي من الأميركيين الذي طلبوا معرفة السبب الذي دفع صدّام إلى أن يكلفني أنا بالذات بهذه المهمة، فقلت لهم: إنني الشخص المعنيّ بالعلاقة مع سوريا».
ويختم الراوي ذكرياته بالقول: «بعد انتهاء المحقق من أسئلته، وجّهت إليه السؤال التالي: لماذا جئتم لاحتلال العراق ولقد كانت علاقاتكم متينة معه في الثمانينات، وكنتم تقدمون له قرضاً سنوياً بمقدار مليار دولار، ووقّعت أنا مع وزير التجارة الأميركي اتفاقية واسعة للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتكنولوجي؟ فأجاب: جئنا لبناء الديمقراطية وسننسحب بعد إنجاز ذلك. أجبته: لن تؤسسوا ديمقراطية حقيقية في العراق ولن تنسحبوا منه وسيحكم العراق كل من المؤسسة الدينية والمؤسسة العشائرية، وسيتحول العراق، البلد الآمن، إلى بلد ينشأ فيه التطرف وسترتفع أسعار النفط إلى أعلى بكثير من الأسعار الحالية البالغة 20 دولاراً للبرميل، وستحصل حالة عدم استقرار في المنطقة. فانهيار العراق، عبر التاريخ، يقود إلى انهيار في المنطقة وستنشأ حالة عدم استقرار واضطراب تقود إلى اختلال في التوازن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط. والشعب العراقي شعب صعب المراس لم يحكمه عبر التاريخ سوى سرجون الأكدي وحمورابي وآشور بانيبال ونبوخذ نصر والحجاج وهارون الرشيد وصدّام حسين. وكان يسجّل جوابي. وكان ذلك في صباح يوم 25 أبريل 2003».


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

المشرق العربي الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

حثت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لدى العراق، جينين هينيس بلاسخارت، أمس (الخميس)، دول العالم، لا سيما تلك المجاورة للعراق، على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث التي يواجهها. وخلال كلمة لها على هامش فعاليات «منتدى العراق» المنعقد في العاصمة العراقية بغداد، قالت بلاسخارت: «ينبغي إيجاد حل جذري لما تعانيه البيئة من تغيرات مناخية». وأضافت أنه «يتعين على الدول مساعدة العراق في إيجاد حل لتأمين حصته المائية ومعالجة النقص الحاصل في إيراداته»، مؤكدة على «ضرورة حفظ الأمن المائي للبلاد».

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي بارزاني: ملتزمون قرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل

بارزاني: ملتزمون قرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل

أكد رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان بارزاني، أمس الخميس، أن الإقليم ملتزم بقرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل، مشيراً إلى أن العلاقات مع الحكومة المركزية في بغداد، في أفضل حالاتها، إلا أنه «يجب على بغداد حل مشكلة رواتب موظفي إقليم كردستان». وأوضح، في تصريحات بمنتدى «العراق من أجل الاستقرار والازدهار»، أمس الخميس، أن الاتفاق النفطي بين أربيل وبغداد «اتفاق جيد، ومطمئنون بأنه لا توجد عوائق سياسية في تنفيذ هذا الاتفاق، وهناك فريق فني موحد من الحكومة العراقية والإقليم لتنفيذ هذا الاتفاق».

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي: علاقاتنا مع الدول العربية بلغت أفضل حالاتها

رئيس الوزراء العراقي: علاقاتنا مع الدول العربية بلغت أفضل حالاتها

أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن علاقات بلاده مع الدول العربية الشقيقة «وصلت إلى أفضل حالاتها من خلال الاحترام المتبادل واحترام سيادة الدولة العراقية»، مؤكداً أن «دور العراق اليوم أصبح رياديا في المنطقة». وشدد السوداني على ضرورة أن يكون للعراق «هوية صناعية» بمشاركة القطاع الخاص، وكذلك دعا الشركات النفطية إلى الإسراع في تنفيذ عقودها الموقعة. كلام السوداني جاء خلال نشاطين منفصلين له أمس (الأربعاء) الأول تمثل بلقائه ممثلي عدد من الشركات النفطية العاملة في العراق، والثاني في كلمة ألقاها خلال انطلاق فعالية مؤتمر الاستثمار المعدني والبتروكيماوي والأسمدة والإسمنت في بغداد.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي السوداني يؤكد استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»

السوداني يؤكد استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»

أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»، داعياً الشركات النفطية الموقّعة على جولة التراخيص الخامسة مع العراق إلى «الإسراع في تنفيذ العقود الخاصة بها». جاء ذلك خلال لقاء السوداني، (الثلاثاء)، عدداً من ممثلي الشركات النفطية العالمية، واستعرض معهم مجمل التقدم الحاصل في قطاع الاستثمارات النفطية، وتطوّر الشراكة بين العراق والشركات العالمية الكبرى في هذا المجال. ووفق بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء، وجه السوداني الجهات المختصة بـ«تسهيل متطلبات عمل ملاكات الشركات، لناحية منح سمات الدخول، وتسريع التخليص الجمركي والتحاسب الضريبي»، مشدّداً على «ضرورة مراعا

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي مباحثات عراقية ـ إيطالية في مجال التعاون العسكري المشترك

مباحثات عراقية ـ إيطالية في مجال التعاون العسكري المشترك

بحث رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروسيتو العلاقات بين بغداد وروما في الميادين العسكرية والسياسية. وقال بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي بعد استقباله الوزير الإيطالي، أمس، إن السوداني «أشاد بدور إيطاليا في مجال مكافحة الإرهاب، والقضاء على عصابات (داعش)، من خلال التحالف الدولي، ودورها في تدريب القوات الأمنية العراقية ضمن بعثة حلف شمال الأطلسي (الناتو)». وأشار السوداني إلى «العلاقة المتميزة بين العراق وإيطاليا من خلال التعاون الثنائي في مجالات متعددة، مؤكداً رغبة العراق للعمل ضمن هذه المسارات، بما يخدم المصالح المشتركة، وأمن المنطقة والعالم». وبي

حمزة مصطفى (بغداد)

«البنتاغون» يعلن إطلاق عملية ضد «داعش» في سوريا رداً على هجوم تدمر

عناصر من الجيش الأميركي في ريف الرميلان بمحافظة الحسكة شرق سوريا (أرشيفية - أ.ف.ب)
عناصر من الجيش الأميركي في ريف الرميلان بمحافظة الحسكة شرق سوريا (أرشيفية - أ.ف.ب)
TT

«البنتاغون» يعلن إطلاق عملية ضد «داعش» في سوريا رداً على هجوم تدمر

عناصر من الجيش الأميركي في ريف الرميلان بمحافظة الحسكة شرق سوريا (أرشيفية - أ.ف.ب)
عناصر من الجيش الأميركي في ريف الرميلان بمحافظة الحسكة شرق سوريا (أرشيفية - أ.ف.ب)

أعلن وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث، الجمعة، إطلاق عملية عسكرية ضد تنظيم «داعش» في سوريا رداً على هجوم في تدمر أودى بحياة ثلاثة أميركيين.

وقال هيغسيث في منشور على منصة «إكس»: «بدأت القوات الأميركية عملية +ضربة عين الصقر+ في سوريا للقضاء على مقاتلين وبنى تحتية ومواقع تخزين أسلحة لتنظيم داعش، في رد مباشر على الهجوم الذي استهدف قوات أميركية في 13 ديسمبر (كانون الأول)».

وأفادت صحيفة ‌«نيويورك تايمز»، ‌نقلاً ‌عن ⁠مسؤول ​أميركي ‌طلب عدم الكشف عن ⁠هويته، ‌أن ‍الجيش الأميركي ‍شن ‍غارات جوية على ​أهداف عدة لتنظيم «داعش» في سوريا اليوم الجمعة.

وتأتي هذه ‌الهجمات ⁠بعد ​أن ‌تعهد الرئيس دونالد ترمب، بالرد بعد هجوم على جنود أميركيين نهاية الأسبوع الماضي في سوريا من قبل شخص يشتبه في ⁠انتمائه لتنظيم «داعش».

وذكر ‌الجيش الأميركي، أن ‍اثنين ‍من أفراده ومترجم مدني قتلوا، ‍السبت، في مدينة تدمر وسط سوريا على يد مهاجم استهدف قافلة للقوات الأميركية ​والسورية قبل أن يُقتل بالرصاص. وأصيب ثلاثة جنود أميركيين ⁠آخرين في الهجوم.

ونفذ التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضربات جوية وعمليات برية في سوريا استهدفت المشتبه في انتمائهم لتنظيم «داعش» في الشهور القليلة الماضية، وغالباً ما كان ذلك بمشاركة قوات ‌الأمن السورية.


الرئيس السوري يهنئ الشعب برفع عقوبات «قيصر» ويؤكد بدء مرحلة البناء

الرئيس السوري أحمد الشرع (أ.ف.ب)
الرئيس السوري أحمد الشرع (أ.ف.ب)
TT

الرئيس السوري يهنئ الشعب برفع عقوبات «قيصر» ويؤكد بدء مرحلة البناء

الرئيس السوري أحمد الشرع (أ.ف.ب)
الرئيس السوري أحمد الشرع (أ.ف.ب)

رحّب الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، الجمعة، برفع الولايات المتحدة نهائياً العقوبات المفروضة على سوريا، في خطوة تمهّد لعودة الاستثمارات إلى البلاد بعد سنوات من الحرب.

وقال، في كلمة مصورة، هي أول منشور له عبر منصة «إكس»: «اليوم هو أول يوم وسوريا دون عقوبات بفضل الله عزّ وجلّ، ثم بجهودكم وصبركم لأربعة عشر عاماً».

وتوجه بـ«الشكر الجزيل والخاص للرئيس دونالد ترمب، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، على استجابته لدعوة هذا الشعب السوري، وتقدير أعضاء الكونغرس لتضحيات الشعب السوري وتلبيتهم لدعوته برفع العقوبات عن سوريا».

وأضاف: «الشكر الجزيل لكل من ضحى وصبر خلال فترة الثورة السورية المباركة، لكل من استنشق الكيماوي، ولكل من هاجر وغادر أرضه، ولكل من غرق في البحار، ولدماء الشهداء التي روت هذه الأرض المباركة، حتى وصلنا إلى هذا النصر العظيم الذي توج برفع القيود عن سوريا بشكل كامل».

كما شكر ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، والرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.

وكانت وزارة الخارجية السورية أكدت في وقت سابق أن رفع العقوبات «مدخل لمرحلة إعادة البناء والتنمية»، داعية «جميع السوريين، في الداخل والمهجر، إلى الإسهام في جهود النهوض الوطني».

وعلّق ترمب مرّتين تطبيق العقوبات على سوريا استجابة لمناشدات سعودية وتركية. لكن الشرع سعى إلى وضع حد نهائي للعقوبات خشية دفعها المستثمرين المتخوفين من تداعياتها القانونية في الولايات المتحدة للابتعاد عن سوريا.

وأقرّ الكونغرس الأميركي، الأربعاء، الرفع النهائي للعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق بشار الأسد عبر «قانون قيصر».


ملعب يعدّ متنفساً لأطفال مخيم بالضفة الغربية يهدده قرار هدم إسرائيلي

أطفال مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين يتدربون على كرة القدم في ملعب صغير ملاصق لجدار الفصل بالضفة الغربية المحتلة (أ.ف.ب)
أطفال مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين يتدربون على كرة القدم في ملعب صغير ملاصق لجدار الفصل بالضفة الغربية المحتلة (أ.ف.ب)
TT

ملعب يعدّ متنفساً لأطفال مخيم بالضفة الغربية يهدده قرار هدم إسرائيلي

أطفال مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين يتدربون على كرة القدم في ملعب صغير ملاصق لجدار الفصل بالضفة الغربية المحتلة (أ.ف.ب)
أطفال مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين يتدربون على كرة القدم في ملعب صغير ملاصق لجدار الفصل بالضفة الغربية المحتلة (أ.ف.ب)

في ملعب صغير ملاصق لجدار الفصل بالضفة الغربية المحتلة، كان أطفال مخيم عايدة للاجئين الفلسطينيين يتدربون على كرة القدم غير مكترثين بالإسمنت الشاهق الذي بات جزءاً من المشهد، حتى جاء قرار إسرائيلي بهدم المنشأة التي تحوّلت إلى متنفس نادر لسكان المخيم المكتظ قرب بيت لحم.

يقول عبد الله عدنان، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، وهو يستعد لتدريبات المنتخب الفلسطيني لكرة القدم، إن «هذا الملعب منَحَني فعلاً القدرة على التدريب»، مضيفاً: «لولاه، لَما كانت لديّ هذه الفرصة لأمثّل المنتخب».

وُلد عدنان ونشأ في «عايدة»، على غرار شبان كثيرين من المخيّم أدّوا أولى مراوغاتهم هنا.

في مطلع ديسمبر (كانون الأول) الحالي، عثر أطفال جاءوا للعب على مذكرة للجيش الإسرائيلي عند مدخل الملعب، أحضروها إلى مهند أبو سرور، المدير الرياضي لنادي شباب عايدة.

طفل فلسطيني يتدرب على حراسة المرمى بملعب كرة قدم في مخيم عايدة بالضفة الغربية (أ.ف.ب)

يقول أبو سرور: «فوجئنا عندما اكتشفنا أنها قرار بهدم ملعب كرة القدم في مخيم عايدة».

ويضم هذا الملعب، الذي تُعادل مساحته نصف ملعب كرة قدم، وفق المعايير الرسمية، أكثر من 500 طفل يتدربون على أرضيته.

«مساحة مفتوحة»

يضيف أبو سرور أن «هذا الملعب هو المساحة المفتوحة الوحيدة التي نملكها. وإغلاقه يشكل انتكاسة لحلم الأطفال وإسكاتاً للشعب الفلسطيني وطموحه أن يكون جزءاً من هذه الرياضة».

ويشير عدنان، البالغ 18 عاماً، إلى أن الملعب «طوق نجاة»، إذ إنه لو لم يكن موجوداً لاضطر إلى اللعب في الشارع أو ترك اللعبة نهائياً.

وتحتل إسرائيل الضفة الغربية منذ عام 1967 وتهدم، بشكل متكرر، منازل أو منشآت فلسطينية بحجةِ بنائها بلا ترخيص.

طفل فلسطيني يتدرب على كرة القدم في ملعب بمخيم عايدة قررت السلطات الإسرائيلية هدمه وتظهر خلفه أجزاء من جدار الفصل بالضفة الغربية (أ.ف.ب)

واطّلعت «وكالة الصحافة الفرنسية» على مذكرة الجيش، الصادرة عن «كوغات»، هيئة وزارة الدفاع المسؤولة عن الشؤون المدنية الفلسطينية، والتي تقول إن الملعب بُني «دون ترخيص».

لكن أنطون سلمان، رئيس بلدية بيت لحم وقت إنشاء الملعب في 2021، يؤكد أن الموقع قانوني تماماً.

ويشير إلى أن البلدية استأجرت الأرض من الكنيسة الأرمنية المالكة لها، قبل أن تتولى اللجنة الشعبية للمخيم إدارتها، الأمر الذي أكده رئيس اللجنة سعيد العزة.

وردّاً على أسئلة «وكالة الصحافة الفرنسية»، قال الجيش الإسرائيلي إنه «على طول السياج الأمني (الجدار الفاصل)، هناك أمر مصادرة وأمر يحظر البناء، وبالتالي فإن البناء في المنطقة نُفّذ بصورة غير قانونية»، مضيفاً أن طعناً قدّمته الكنيسة الأرمنية ما زال قيد النظر.

وكغيره من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، أنشئ «مخيم عايدة» لإيواء جزء من مئات الآلاف الذين فرّوا أو أُجبروا على مغادرة منازلهم عام 1948 عند قيام إسرائيل. ومع مرور الوقت، تحولت مدن الخيام إلى أحياء إسمنتية مكتظة.

جنود إسرائيليون يُوقفون فلسطينياً ووُجّه إلى الحائط لتفتيشه في مخيم نور شمس قرب طولكرم بالضفة الغربية (أ.ف.ب)

ويقول العزة إن «أكثر من سبعة آلاف شخص يعيشون على هذه القطعة من الأرض. الشوارع ضيقة، وليس لدينا مكان آخر للتنفس!».

«فرنسا أسهل من نابلس»

يعرض أبو سرور بفخرٍ ما قدّمه الملعب للسكان، إذ تمكنت مجموعات شبابية من السفر إلى الخارج للمشاركة في لقاءات رياضية، في متنفس نادر، مقارنة بالحصار المفروض على الضفة الغربية.

ويقول: «الذهاب للعب في فرنسا أسهل من الذهاب للعب في نابلس» (على بُعد أقل من مائة كيلومتر شمال الضفة الغربية).

وبعد الهجوم غير المسبوق لحركة «حماس» على جنوب إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والذي أطلق شرارة حرب ضروس في قطاع غزة، أقامت السلطات الإسرائيلية مئات الحواجز الإضافية في الأراضي الفلسطينية.

يضم ملعب مخيم عايدة الذي تُعادل مساحته نصف ملعب كرة قدم وفق المعايير الرسمية أكثر من 500 طفل يتدربون على أرضيته (أ.ف.ب)

وبات التنقل بين المدن أكثر تعقيداً بفعل شبكات طرق مخصّصة للمستوطنين، يُحظر على الفلسطينيين استخدام أجزاء منها، ما يَفرض عليهم الالتفاف لمسافات طويلة.

وفي الآونة الأخيرة، احتاج فريق كرة قدم من رام الله، التي تبعد نحو 20 كيلومتراً، إلى ست ساعات للوصول إلى مخيم عايدة، وفق أبو سرور.

وعلى هامش تدريب يضم نحو خمسين طفلاً بين الخامسة والعاشرة، يأمل المدرب محمود جندية أن يُبقي القرارُ الملعب قائماً.

ويقول: «نعم، الجدار موجود، نشعر بأننا في سجن. لكن رغم ذلك، الأهم أن يبقى الملعب وأن يواصل الأطفال اللعب. إذا هُدم الملعب، فإن كل أحلام الأطفال ستُهدم».