عمرو موسى لـ«الشرق الأوسط»: الجرح لم يلتئم بعد وسوء التقدير السياسي وراء سقوط العراق

قال إن طموحات صدام «لم تكن لتتوقف عند الكويت... وسوريا كانت المحطة التالية على أجندة خطة التوسع»

عمرو موسى (غيتي)
عمرو موسى (غيتي)
TT

عمرو موسى لـ«الشرق الأوسط»: الجرح لم يلتئم بعد وسوء التقدير السياسي وراء سقوط العراق

عمرو موسى (غيتي)
عمرو موسى (غيتي)

يحمل اللقاء مع الدبلوماسي المخضرم، عمرو موسى، دائماً تفاصيل تضيء زوايا تاريخ لا يزال حياً. فقد كان موسى لعقود صانعاً وشاهداً على مجريات السياسة العربية، سواء خلال عقد على رأس الدبلوماسية المصرية (1991 - 2001) أو لعقد آخر (2001 - 2011) كان حافلاً بالأنواء، قضاه أميناً عاماً للجامعة العربية. في هذا اللقاء مع «الشرق الأوسط»، يُطل عمرو موسى من نافذة الزمن بعد عقدين على الغزو الأميركي للعراق (2003)، ذلك الحدث الفارق، الذي يقول: إن «جراحه لم تلتئم بعد»، يتأمل الطريق التي قادت إلى الغزو، والتشققات التي أصابت البنيان العربي بسببه. يعيد قراءة الحدث مازجاً بين حنكة السياسي وحكمة الدبلوماسي، وبين عقلانية المثقف وحماسة المواطن العربي وألمه.
ينطلق عمرو موسى في استعادته الغزو الأميركي للعراق من غزو أسبق، يراه لازماً لقراءة صحيحة لتطورات الأحداث، وهو الغزو العراقي للكويت (1990 – 1991)، الذي يشير إلى أنه «كشف عن حقيقة مشروع صدام حسين التوسعي، وأصاب النظام العربي باختلال واضح، وأشاع حالة من التشكك حتى لدى الدول التي سعى صدام إلى استقطابها لتكوين غطاء عربي لطموحاته التوسعية، وفي مقدمها مصر».
ويبدي موسى اعتقاداً بأن التحالف العربي والدولي الذي تكوّن لتحرير الكويت «أرسى واقعاً جديداً بشأن أمن المنطقة، ووضع حداً لطموحات صدام»، مؤكداً أن تلك الطموحات «لم تكن لتتوقف عند الكويت، وأن سوريا كانت المحطة التالية على أجندة خطة التوسع، لأسباب تتعلق بالهيمنة على تيار البعث، كما كانت هناك افتراضات شائعة لدى سياسيين ودبلوماسيين بأنه سيتحرك لاحقاً باتجاه جميع دول الخليج».

تحولات عميقة

ويتوقف موسى أمام بعض المتغيرات التي حملتها الفترة التالية لغزو الكويت وصولاً إلى الغزو الأميركي للعراق، فيقول: إن أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 كانت في صدارة تلك التحولات «التي لم يُجِد النظام العراقي آنذاك قراءتها»، مؤكداً أنها «غيّرت مسار السياسة الأميركية، وأدت إلى جنوح الولايات المتحدة إلى استخدام القوة».
وحول مدى الإدراك العربي لخطورة الموقف قبيل الغزو الأميركي، يقول موسى «كانت هناك معلومات واضحة أمام صانع القرار العربي، بل وظهر بعضها إلى العلن، تفيد بأن الولايات المتحدة تجهز لإتمام الغزو، وأن قيادات عراقية معارضة تنسق معها، وأجهزة الاستخبارات العربية كانت نشطة في هذا الاتجاه».
ويضيف «في ظني أن صدام حسين في تلك الآونة صار متواكلاً، وكان يعتقد أن واشنطن لن تنفذ تدخلها العسكري، وهذه مسألة غريبة، ومخاطرة بمصير شعب ودولة عريقة»، ويشير إلى أنه في المقابل «كان واضحاً أيضاً أن معظم القادة العرب إما أنهم لا يهتمون بمصير صدام، وإما أنهم يرون أنه يستحق ما سوف يجري له ويتوقعونه».

 أبواب جهنم

وحول الدور الذي لعبه كأمين عام للجامعة العربية في «سباق الزمن» لمحاولة تجنب الغزو الأميركي الذي رأى أن «القرار بشأنه قد اُتُخذ بالفعل في واشنطن»، يقول موسى: إنه تحرك في تلك الأجواء المشحونة بالتوتر وفق اعتبارات تنطلق من دور الجامعة العربية ورسالتها في الدفاع عن المصلحة العربية الشاملة، وكان أولها التحذير العلني من خطورة الموقف. ويضيف «قلت في تصريح شهير تناقلته وسائل إعلام دولية عدة: إن غزو العراق سيفتح أبواب جهنم».

المسار الثاني كان التحرك قبل 14 شهراً من الغزو؛ إذ التقى الرئيس العراقي صدام حسين في يناير (كانون الثاني) 2002، في لقاء تم فيه «التأكيد على عدم امتلاك العراق أسلحة (دمار شامل) أو مفاعلات نووية»، وعلى ضرورة استئناف زيارات المفتشين الدوليين لتجنب أي استهداف للعراق. وردّ صدام قائلاً «يا أخ عمرو، أنا أثق في قوميتك وعروبتك، وأنك لن تتآمر على العراق». ويضيف موسى «يومها أبلغته (صدام) أنني سأنقل هذه الرسالة (عدم امتلاك العراق أسلحة دمار) بصفتي أميناً للجامعة العربية إلى سكرتير عام الأمم المتحدة، وكان وقتها كوفي أنان. فقال لي: أنت مفوّض أن تتحدث باسم العراق».
وارتكز المسار الثالث، كما يقول موسى، على تنفيذ جملة من المشاورات والتحركات العربية والدولية لإنقاذ الموقف في خريف 2002، بينما كان الأميركيون يتحركون نحو تهيئة الرأي العام العالمي لقرار الحرب، ويؤكد «نجحنا بفضل تلك الجهود في إبعاد الخطر وليس في إنهائه».
وحول الأجواء داخل الجامعة العربية، عند انطلاق الغزو ليلة 19-20 مارس (آذار) 2003، يقول موسى «كان مجلس الجامعة العربية في حالة انعقاد دائم بناءً على طلبي، وفي يوم الغزو، كنا نتابع الأخبار التي ترد إلينا بمشاعر متباينة، فبينما أخبار المقاومة تثير حماس الحاضرين، كانت تعليقات وزير الإعلام العراقي، محمد سعيد الصحاف، تضحكهم، لكننا جميعاً كنا نستشعر أن ما يجري سيقود إلى مصير واحد، وهو ما حدث بعد نحو أسبوعين بسقوط بغداد».
وحول سبب استدعائه ذكرى نكسة يونيو (حزيران) 1967 عند الحديث عن الغزو الأميركي للعراق، يقول موسى «المشترك بينهما هو سوء التقدير السياسي... سوء التقدير في1967، تم تداركه بالإعداد والتخطيط الجيد لحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، بينما سوء التقدير السياسي في حالة صدام حسين، كان موجوداً طوال الوقت».

جنود أميركيون في مطار بغداد مع صورة لصدام حسين بعد إطاحة نظامه يوم 14 أبريل 2003 (أ.ف.ب)

«اختطاف» العراق

وتطرق الأمين العام الأسبق للجامعة العربية إلى «حالة الفوضى العارمة» التي دخلها العراق عقب الغزو، وتحدث عن يقينه بـ«وجود مخطط لاختطاف العراق»، ويقول «المؤكد لدي أن محاولة اختطاف العراق، وانتزاع هويته العربية جرت بقوة وقسوة من داخل العراق على يد بعض مكوناته السياسية، ومن جيرة العراق، وأعني هنا إيران، ليصبح عراقاً آخر غير الذي نعرفه، وقد كان تمكين إيران من العراق خطأً استراتيجياً كبيراً».
ويضيف «كانت الهوية أول ما اصطدم به العراقيون بعد الغزو». ويتابع، أن الجامعة العربية لعبت آنذاك دوراً محورياً في جمع كل مكونات العراق للمرة الأولى. ويستعيد، في هذا السياق، تدخله شخصياً للإبقاء على الهوية العربية في الدستور العراقي، الذي كانت تجري مناقشته في تلك الفترة، ونجاحه بالتنسيق مع «قادة العراق الجدد» على اختلاف تياراتهم السياسية وانتماءاتهم المذهبية في «الحفاظ على الوجه العربي للعراق». ويسجل أنهم «كانوا جميعاً يقرّون بذلك الانتماء العربي، ويرون أنه ليس من المصلحة إنكاره أو طمسه».
وحول ما إذا كانت «جراح الغزو الأميركي» قد التأمت بعد 20 عاماً، يجيب عمرو موسى بحسم «بالتأكيد... لا». ويضيف «العراق تعرّض لهدم مؤسساته وتمزيق مكوناته، وإعادة البناء تتطلب وقتاً». ويستطرد قائلاً «العراق يسير اليوم في طريق واضحة، وهناك رغبة جادة في إصلاحه، وأحد الأعمدة الرئيسية في هذا الإصلاح يكمن في أن يعتبر نفسه جزءاً من العالم العربي».
ويدعو موسى إلى «تقديم تصور جديد للقومية العربية يناسب متغيرات القرن الـ21، ويقوم على المصلحة المشتركة»، مضيفاً «ما أراه أننا أفقنا، وأن العواطف والهتافات والشعارات، وتهييج الشوارع أصبحت من الماضي، وأن المستقبل ينبغي أن يقوم على أعمدة مثل المصلحة المشتركة، وإصلاح أحوال المواطن العربي، والحكم الرشيد»، مشدداً على أن «غياب الحكم الرشيد جعل العالم العربي أرضاً خصبة لصناعة الفوضى الخلاقة».
وحول ما إذا كان غزو العراق يمكن أن يتكرر إقليمياً، في ظل سياقات التوتر الحالية بين الغرب وإيران، يقول الأمين العام الأسبق للجامعة العربية: إن «سوء التقدير السياسي يؤدي إلى نفس النتائج، فمن غير المتصور أن يرتكب أحد نفس الأخطاء، ويتوقع نتائج إيجابية».
ويضيف «إيران الآن تحت المجهر، وهناك مطالبات من جانب الحكومة الإسرائيلية وبعض الدوائر التي تسير في الاتجاه نفسه، بضرب إيران»، مبدياً اعتقاده بأن درس الغزو الأميركي للعراق، «لا يزال صالحاً للجميع»، وهو ضرورة ألا «يبالغ أي حاكم أو دولة في تقدير قوته، ويجب تجنب الغرور بالقوة؛ فاللعب مع الكبار خطر، وفي لحظات الحسم لن يحميك إلا القبول العام في وطنك وفي المنطقة».
ويستطرد موسى، مؤكداً، أن «السلوك الإيراني المزعزع للاستقرار بالمنطقة لا يمكن قبوله»، وأن حديث الإيرانيين عن أنهم يديرون أربع عواصم عربية «إهانة غير مقبولة للعرب، وحتى الآن لم يعتذر أحد عنها». ويتابع «لا أعتقد أنه ستكون هناك عاصمة عربية خامسة تُدار من طهران».
وحول المشهدين الإقليمي والدولي بعد 20 عاماً من الغزو الأميركي للعراق، يقول: إن هناك «حرباً باردة قادمة. حرب غربية - روسية، وأخرى أميركية – صينية، وحروب مختلفة». ويستطرد «الدول العربية حالياً ضعيفة من حيث الوزن السياسي عالمياً، ولا بد أن نكون جزءاً من حركة عالمية أكبر، هي حركة الجنوب العالمي Global South، وسنجد إلى جوارنا في هذا المسار دولاً مثل الهند والبرازيل وغيرهما»، مشيراً إلى أن «هذه التجمعات لا تزال في مرحلة الإنضاج».


مقالات ذات صلة

انفجار في السليمانية... وأنباء عن استهداف قائد «قسد»

المشرق العربي انفجار في السليمانية... وأنباء عن استهداف قائد «قسد»

انفجار في السليمانية... وأنباء عن استهداف قائد «قسد»

راجت أنباء عن وقوع محاولة لقتل مسؤول كردي سوري بارز في السليمانية بشمال العراق مساء اليوم الجمعة. فقد أورد موقع «صابرين نيوز» القريب من الحرس الثوري الإيراني، نقلاً عن «مصادر كردية»، أن قصفاً استهدف قائد «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) مظلوم عبدي «في محاولة اغتيال فاشلة بواسطة طائرة مسيّرة». من جهتها، أعلنت مديرية قوات الأمن (آسايش) في مطار السليمانية أنها تحقق في انفجار وقع قرب سياج مطار السليمانية دون أن يسفر عن خسائر بشرية أو مادية، مشيرة إلى أن فرق الإطفاء تمكنت من السيطرة على الحريق الناجم عنه سريعاً، بحسب موقع «رووداو» الكردي.

المشرق العربي مسيحيات فررن من العراق يتعلمن مهارت الخياطة لكسب لقمة العيش

مسيحيات فررن من العراق يتعلمن مهارت الخياطة لكسب لقمة العيش

في إحدى الكنائس في الأردن، تخيط العشرينية سارة نائل قميصاً ضمن مشروع أتاح لعشرات النساء اللواتي فررن من العنف في العراق المجاور، مهارات لكسب لقمة العيش. نجت نساء عديدات بصعوبة من العنف المفرط الذي مارسته «دولة الخلافة» التي أعلنها تنظيم «داعش» على مساحات واسعة من العراق وسوريا، قبل أن ينتهي بهن المطاف في الأردن يعانين للحصول على عمل. تنكب سارة نائل (25 عاماً)، وهي لاجئة مسيحية عراقية من بلدة قرقوش تعلمت مهنة الخياطة في الطابق الثالث في كنيسة مار يوسف في عمان، على ماكينة الخياطة في طرف المكان لتخيط قطعة قماش مشرقة زرقاء اللون تمهيداً لصنع قميص. وتقول سارة التي وصلت إلى الأردن عام 2019 وبدأت تعم

«الشرق الأوسط» (عمّان)
المشرق العربي «الشيوخ الأميركي» يقترب من إلغاء تفويضي حربي العراق

«الشيوخ الأميركي» يقترب من إلغاء تفويضي حربي العراق

صوت مجلس الشيوخ الأميركي بأغلبية ساحقة، أمس (الاثنين)، لصالح الدفع قدماً بتشريع لإلغاء تفويضين يعودان لعقود مضت لشن حربين في العراق مع سعي الكونغرس لإعادة تأكيد دوره بخصوص اتخاذ قرار إرسال القوات للقتال. وانتهى التصويت بنتيجة 65 إلى 28 صوتاً، أي تجاوز الستين صوتاً اللازمة في مجلس الشيوخ المؤلف من مائة عضو، مما يمهد الطريق أمام تصويت على إقراره في وقت لاحق هذا الأسبوع.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
الولايات المتحدة​ خطوة جديدة في «الشيوخ» الأميركي نحو إلغاء تفويضي حربي العراق

خطوة جديدة في «الشيوخ» الأميركي نحو إلغاء تفويضي حربي العراق

صوت مجلس الشيوخ الأميركي بأغلبية ساحقة أمس (الاثنين) لصالح الدفع قدما بتشريع لإلغاء تفويضين يعودان لعقود مضت لشن حربين في العراق مع سعي الكونغرس لإعادة التأكيد على دوره بخصوص اتخاذ قرار إرسال القوات للقتال، وفقاً لوكالة «رويترز». وانتهى التصويت بنتيجة 65 إلى 28 صوتا أي تجاوز الستين صوتا اللازمة في مجلس الشيوخ المؤلف من مائة عضو مما يمهد الطريق أمام تصويت على إقراره في وقت لاحق هذا الأسبوع. وجميع الأصوات الرافضة كانت لأعضاء في الحزب الجمهوري.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
المشرق العربي 20 عاماً على الزلزال العراقي

20 عاماً على الزلزال العراقي

تحلُّ اليومَ، الأحد، الذكرى العشرون للغزو الأميركي للعراق، وهو حدثٌ كان بمثابة زلزال ما زالت المنطقة تعيش تداعياتِه حتى اليوم. لم يستمع الرئيسُ الأميركي آنذاك، جورج دبليو بوش، لتحذيراتٍ كثيرة، غربيةٍ وعربية، سبقت إطلاقَه حرب إطاحة نظام الرئيس السابق صدام حسين عام 2003، وحذرته من أنَّ خطوتَه ستفتح «باب جهنم» بإدخال العراق في فوضى واقتتال داخلي وستسمح بانتشار التطرفِ والإرهاب. أطلق بوش حملةَ إطاحة صدام التي أطلق عليها «الصدمة والترويع» ليلة 19 مارس (آذار) بقصفٍ عنيف استهدف بغداد، في محاولة لقتل الرئيس العراقي، قبل إطلاق الغزو البري.


بعد عام من الحرب... سكان غزة يبحثون عن حل لأطنان الركام

فلسطينيان يتفقدان حطام مسجد شهداء الأقصى الذي دمر في غارة إسرائيلية على دير البلح بقطاع غزة (إ.ب.أ)
فلسطينيان يتفقدان حطام مسجد شهداء الأقصى الذي دمر في غارة إسرائيلية على دير البلح بقطاع غزة (إ.ب.أ)
TT

بعد عام من الحرب... سكان غزة يبحثون عن حل لأطنان الركام

فلسطينيان يتفقدان حطام مسجد شهداء الأقصى الذي دمر في غارة إسرائيلية على دير البلح بقطاع غزة (إ.ب.أ)
فلسطينيان يتفقدان حطام مسجد شهداء الأقصى الذي دمر في غارة إسرائيلية على دير البلح بقطاع غزة (إ.ب.أ)

فوق أنقاض منزله الذي كان يوماً مكوناً من طابقين، يجمع محمد البالغ من العمر (11 عاماً) قطعاً من السقف المتساقط في دلو مكسور ويسحقها، لتتحول إلى حصى سيستخدمه والده في صنع شواهد قبور لضحايا حرب غزة.

ويقول والده جهاد شمالي، عامل البناء السابق البالغ من العمر (42 عاماً)، بينما كان يقطع معادن انتشلها من منزلهم في مدينة خان يونس بجنوب قطاع غزة، والذي تضرر خلال غارة إسرائيلية في أبريل (نيسان): «بنجيب الدبش مش كرمال نبني فيه دور، لا، لبلاط الشهداء (شواهد القبور) وللمقابر، يعني من مأساة لمأساة».

العمل شاق، وفي بعض الأحيان كئيب. وفي شهر مارس (آذار)، قامت أسرة شمالي ببناء قبر لأحد أبنائها وهو إسماعيل، الذي قُتل أثناء أداء بعض المهام المنزلية، وفقاً لوكالة «رويترز».

لكن هذا يشكل أيضاً جزءاً صغيراً من جهود بدأت تتبلور للتعامل مع الأنقاض، التي تخلفها الحملة العسكرية الإسرائيلية للقضاء على حركة «حماس».

فلسطينيون يسيرون وسط أنقاض المنازل التي دمرها القصف الإسرائيلي شمال قطاع غزة (رويترز)

وتقدر الأمم المتحدة أن هناك أكثر من 42 مليون طن من الركام، بما في ذلك مبانٍ مدمرة لا تزال قائمة وبنايات منهارة.

وقالت الأمم المتحدة إن هذا يعادل 14 مثل كمية الأنقاض المتراكمة في غزة بين 2008 وبداية الحرب قبل عام، وأكثر من 5 أمثال الكمية التي خلفتها معركة الموصل في العراق بين عامي 2016 و2017.

وإذا تراكمت هذه الكمية فإنها قد تملأ الهرم الأكبر في الجيزة، أكبر أهرامات مصر، 11 مرة. وهي تزداد يومياً.

وقال 3 مسؤولين في الأمم المتحدة إن المنظمة الدولية تحاول تقديم المساعدة، في الوقت الذي تدرس فيه السلطات بقطاع غزة كيفية التعامل مع الأنقاض.

وتخطط مجموعة عمل لإدارة التعامل مع الحطام تقودها الأمم المتحدة، لبدء مشروع تجريبي مع السلطات الفلسطينية في خان يونس ومدينة دير البلح بوسط قطاع غزة، لبدء إزالة الحطام من جوانب الطرق هذا الشهر.

وقال أليساندرو مراكيتش، رئيس مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في غزة والمشارك في رئاسة مجموعة العمل: «التحديات جسيمة... ستكون عملية ضخمة، ولكن في الوقت نفسه، من المهم أن نبدأ الآن».

ويقول الجيش الإسرائيلي إن مقاتلي «حماس» يختبئون بين المدنيين، وإنه سيضربهم أينما ظهروا، بينما يحاول أيضاً تجنب إيذاء المدنيين.

ورداً على سؤال حول الحطام، قالت وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق، إنها تهدف إلى تحسين التعامل مع النفايات، وستعمل مع الأمم المتحدة لتوسيع هذه الجهود. وقال مراكيتش إن التنسيق مع إسرائيل ممتاز، لكن المناقشات التفصيلية بشأن الخطط المستقبلية لم تتم بعد.

خيام وسط الأنقاض

بدأت إسرائيل هجومها بعد أن قادت «حماس» هجوماً على إسرائيل في 7 أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي. وتقول الإحصاءات الإسرائيلية إن هذا الهجوم أسفر عن مقتل نحو 1200 واقتياد أكثر من 250 رهينة إلى قطاع غزة.

فلسطيني وابنه يجلسان أسفل سقف مهدم في خان يونس بقطاع غزة (رويترز)

وتقول السلطات الصحية الفلسطينية إن نحو 42 ألف فلسطيني قتلوا خلال عام من الحرب. وعلى الأرض، تتراكم الأنقاض عالياً فوق مستوى المشاة والعربات التي تجرها الحمير على المسارات الضيقة المليئة بالأتربة، والتي كانت في السابق طرقاً مزدحمة.

وقال يسري أبو شباب وهو سائق سيارة أجرة، بعد أن أزال ما يكفي من الحطام من منزله في خان يونس لإقامة خيمة: «مين راح ييجي هنا مشان يزيل الأنقاض لنا؟ ولا حدا، مشان هيك إحنا بنقوم بها الشي بأنفسنا».

وبحسب بيانات الأقمار الاصطناعية للأمم المتحدة، فإن ثلثي مباني غزة التي بنيت قبل الحرب، أي ما يزيد على 163 ألف مبنى، تضررت أو سويت بالأرض. ونحو ثلثها كان من البنايات متعددة الطوابق.

وبعد حرب استمرت 7 أسابيع في غزة عام 2014، تمكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وشركاؤه من إزالة 3 ملايين طن من الحطام، أي 7 في المائة من إجمالي الركام الآن.

فلسطينيان يتفقدان حطام مسجد شهداء الأقصى الذي دمر في غارة إسرائيلية على دير البلح بقطاع غزة (إ.ب.أ)

وأشار مراكيتش إلى تقدير أولي غير منشور ذكر أن إزالة 10 ملايين طن من الحطام ستكلف 280 مليون دولار، وهو ما يعني نحو 1.2 مليار دولار إجمالاً إذا توقفت الحرب الآن.

وأشارت تقديرات الأمم المتحدة في أبريل، إلى أن إزالة الأنقاض سوف تستغرق 14 عاماً.

جثث مطمورة

قال مراكيتش إن الحطام يحتوي على جثث غير منتشلة وقنابل غير منفجرة. وتقول وزارة الصحة في قطاع غزة إن عدد تلك الجثث قد يصل إلى 10 آلاف.

وتقول اللجنة الدولية للصليب الأحمر إن التهديد «واسع النطاق»، ويقول مسؤولون في الأمم المتحدة إن بعض الحطام يشكل خطراً كبيراً بالتعرض للإصابة.

يعيش نزار زعرب من خان يونس مع ابنه في منزل لم يتبقَّ منه سوى سقف مائل بزاوية خطيرة.

وقال برنامج الأمم المتحدة للبيئة إن ما يقدر بنحو 2.3 مليون طن من الحطام ربما يكون ملوثاً، مستنداً إلى تقييم لمخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، التي تعرض بعضها للقصف.

ويمكن أن تسبب ألياف الأسبستوس سرطان الحنجرة والمبيض والرئة عند استنشاقها.

وسجلت منظمة الصحة العالمية نحو مليون حالة من حالات التهابات الجهاز التنفسي الحادة في قطاع غزة خلال العام الماضي، دون أن تحدد عدد الحالات المرتبطة بالغبار.

وقالت بسمة أكبر، وهي متحدثة باسم منظمة الصحة العالمية، إن الغبار يشكل «مصدر قلق كبيراً»، يمكن أن يلوث المياه والتربة ويؤدي إلى أمراض الرئة.

فلسطيني يجر مقعداً متحركاً تجلس عليه سيدة مصابة وسط أنقاض مبانٍ دمرها القصف الإسرائيلي في خان يونس جنوب قطاع غزة (رويترز)

ويخشى الأطباء من ارتفاع حالات الإصابة بالسرطان والتشوهات الخلقية في المواليد بسبب تسرب المعادن في العقود المقبلة.

وقال متحدث باسم برنامج الأمم المتحدة للبيئة إن لدغات الثعابين والعقارب والتهابات الجلد الناجمة عن ذباب الرمل تشكل مصدر قلق.

نقص الأراضي والمعدات

استُخدمت أنقاض في السابق للمساعدة في بناء الموانئ البحرية. وتأمل الأمم المتحدة الآن في إعادة تدوير جزء منها لبناء شبكات الطرق وتعزيز الخط الساحلي.

ويقول برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إن قطاع غزة، الذي كان عدد سكانه قبل الحرب نحو 2.3 مليون نسمة، يتكدسون في شريط يبلغ طوله 45 كيلومتراً وعرضه 10 كيلومترات، يفتقر إلى المساحة اللازمة للتخلص من النفايات والركام.

وتقع مكبات النفايات الآن في منطقة عسكرية إسرائيلية. وقالت هيئة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية إنها تقع في منطقة محظورة، ولكن سيتم السماح بالوصول إليها.

وقال مراكيتش إن مزيداً من إعادة التدوير يعني مزيداً من الأموال لتمويل المعدات مثل الكسارات الصناعية. ولا بد أن تدخل هذه المعدات إلى قطاع غزة عبر نقاط عبور تسيطر عليها إسرائيل.

وتحدث مسؤولون حكوميون عن نقص في الوقود والآلات، بسبب القيود الإسرائيلية التي تبطئ جهود إزالة الأنقاض.

وقال المتحدث باسم برنامج الأمم المتحدة للبيئة إن إجراءات الموافقة المطولة «عائق رئيسي». ويقول برنامج الأمم المتحدة للبيئة إنه يحتاج إلى إذن أصحاب الممتلكات لإزالة الأنقاض، لكن حجم الدمار أدى إلى طمس الحدود بينها، كما فُقد بعض السجلات العقارية أثناء الحرب.

وقال مراكيتش إن كثيراً من الجهات المانحة أبدى الاهتمام بالمساعدة منذ اجتماع استضافته الحكومة الفلسطينية بالضفة الغربية في 12 أغسطس (آب)، دون أن يسمي هذه الجهات.

وقال مسؤول في الأمم المتحدة، طلب عدم ذكر اسمه لتجنب التأثير سلباً على الجهود الجارية: «الجميع قلق بشأن ما إذا كان ينبغي الاستثمار في إعادة إعمار غزة، أم لا، إذا لم يكن هناك حل سياسي».