تراجع الآيديولوجيات وتقدم الآيديولوجيين

المعارك المكشوفة.. في استهداف العلاقات المصرية – السعودية

جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
TT

تراجع الآيديولوجيات وتقدم الآيديولوجيين

جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)

رغم أن دعوى الالتزام الآيديولوجي، اليساري والإسلامي، لم تعد معلنة بوضوح، فإنها لم تنفض بعد، حيث لا تزال حية تبعث من جديد، مع الثوران والاستقطاب السياسي العربي والأزمات الوطنية والإقليمية.
لا يخفي هذا التحيز أو الالتزام خفض النبرة الآيديولوجية، أو التحول للفكرة المدنية أو الديمقراطية، التي صار كثيرون من الأصوليين يتشحون بوشاحها، كما اتشح بوشاحها قوميون سابقا، رغم أنها كانت دائما قابلة للإزاحة من أفكارهم وممارستهم إلا نادرًا.
أقنعة مستحدثة، وتحولات فكرية، لكنها لا تخفي الولاءات الآيديولوجية لأفكار واتجاهات معينة، تكون إيران أو تركيا أو ربيع الإسلاميين السابق أو الذاكرة الناصرية، كل حسب تطوراته وتاريخه السابق.
لكن الغريب المثير هو توظيف الأضداد الآيديولوجية لبعضها بعضا في استهداف العلاقات والتحالفات الإقليمية في المنطقة، وخصوصا التقارب المصري - السعودي - الخليجي الصاعد في وجه أخطار التدخل أو التمدد الإقليمي المحاذية.
حيث يستهدفون بآليات متشابهة، تعكير الأجواء بين الأشقاء، التي تتأكد كل يوم، وكان آخرها في إعلان القاهرة الأخير في 29 يوليو (تموز) الحالي بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، الذي تمخض عنه الشروع في إنشاء القوة العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي والعسكري الوثيق بين البلدين.
فيما يلي سنرصد نماذج من هذه الخطابات المتحيزة وتوظيفها التأويلي المكشوف للوقائع دون الواقع، وللشوارد دون للنسق، فتنتقي ما شاءت دليلا وتمرر ما أرادت حجة دون انتباه لما يناقضها في باطن خطابها ذاته.
من أمثلة هذا التوظيف أو الاصطياد الآيديولوجي اعتماد بعض الأصوات الخليجية لمواقف شاردة تعبر عن أصحابها قبل أن تعبر عن النظام أو السياسة أو المجتمع والنخبة المصرية بشكل رئيسي.
من ذلك توظيف البعض لمقال الكاتب الأستاذ فهمي هويدي المنشور في 19 يوليو الماضي في صحيفة «الشروق» المصرية بعنوان «حروب أبوظبي»، الذي عبر عن كثير من التحيزات التي تسكن كاتبه، وهو ما يصعب تفسيره دون الرجوع لموقف الإمارات الداعم لمصر في 30 يونيو (حزيران) وما بعدها! ويكفي فيه أن صاحبه كان الوحيد في العالم الذي لا يرى «داعش» والتطرف خطرا تنبغي مكافحته، ولا بد من المبادرة لهذه المكافحة والمواجهة.
وهو ما تمكن قراءته كذلك في البيان الذي أصدره الداعية السعودي عوض القرني بعد أحكام الإعدام المستأنفة، التي لم تكن نهائية في مصر في 15 يونيو سنة 2015 داعيا للجهاد في مصر، وأن «ما يجري فيها حرب لاستئصال الإسلام» هكذا قولا واحدا لا يمكن أن يلتقي مع النظام ولا الخطاب السعودي السائد ولكن يرتبط بدعوة آيديولوجية سابقة قال بها القرضاوي في 27 يوليو سنة 2013، أو ما صدر من بيانات تزامنت معه من الاتجاه نفسه.
في السياق نفسه، حملت بعض الأصوات الخليجية المتحيزة ضد مصر، النظام المصري بعض آراء الأستاذ محمد حسنين هيكل في حواره مع جريدة «السفير» اللبنانية بتاريخ 21 يوليو من العام الحالي، الذي أجراه معه رئيس تحريرها في منتجع بالساحل الشمالي، ذكر فيه إعجابه بما اعتبره انتصارًا إيرانيًا، بالوصول لاتفاق نووي في 14 يوليو الماضي، وأن إيران وتركيا تمثلان المواجهة الحقيقية للسياسة الأميركية في المنطقة، وأن مصر مشغولة ومأزومة، والسعودية وسائر دول الخليج كذلك!
وهو ما حاولت توظيفه أصوات خليجية متعددة وصفت الرجل بأنه مفكر النظام المصري وواضع سياسته، وهكذا تلتقي الأضداد الآيديولوجية في توظيف كل منها الآخر، مستهدفا علاقة واحدة!
كان التحيز واضحا تشي به كلمات هيكل نفسه، فهو لم يخفِ إعجابه بإيران منذ زيارته الأولى لها في عهد مصدق سنة 1951 وزيارة خاتمي له في منزله بالقاهرة، ومعاداته لتجربة السادات ومبارك وانقلابهما على الناصرية! وعدم تعاطفه المستقر والقديم مع السعودية بالخصوص! ولكن هل يجوز سحبها على نظام أكد في حواره أنه «ليست لديه رؤية واضحة عما ستكون عليه مصر مستقبلا».
من الجهة الأخرى، وجدت بعض الأصوات المصرية المتحيزة في الإعلام المصري ما كتبه بعض الصحافيين والمغردين السعوديين من أن ثمة تغيرًا في السياسة السعودية والخليجية تجاه مصر مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز العرش في 23 يناير (كانون الثاني) العام الحالي، بل تم تحميل النظام والحكم في السعودية، رؤى للدكتور خالد الدخيل وتغريدات لصحافيين وإعلاميين آخرين تحدثوا فيها عن تحولات في الموقف السعودي تجاه مصر، رغم تأكيدات الخطاب الرسمي ووزير الخارجية عادل الجبير، أكثر من مرة أن الروابط السعودية المصرية تزداد توثيقا، وأنها جناحا الأمة العربية اللذان يرفرفان من أجل حماية شعوبها، وأن مصر جزء أساسي من تحالف دعم الشرعية في اليمن، كما كان في 23 و30 يوليو الماضي.
كان رصدنا مبكرا للتحيزات الآيديولوجية لدى الأستاذ هيكل والكثير من الأصوات الآيديولوجية منذ قديم، وسنحاول التمثيل عليها فيما يلي:
صرح الأستاذ هيكل بعد ساعتين من تنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) سنة 2011 قائلا: «شاهدنا حدثًا لا مثيل له في التاريخ المصري.. نضج جيل ونضج شعب وكدنا نفقد الأمل.. كنت أقول: يا ليل الصب متى غده» (برنامج العاشرة مساء - الدقيقة الثانية) وفي 20 فبراير من العام نفسه صرح بقوله عن ضرورة التنحي: «كان على مبارك ألا يعاند التاريخ وأن يتنحى» (من حوار مع «المصري اليوم» في هذا التاريخ) ولكننا وجدناه في 23 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه في حوار مع جريدة «الأهرام» يقول بعد اندلاع الثورة في ليبيا وسوريا (حيث التقارب الآيديولوجي): «لست مستبشرا بربيع مصر ولا بغيرها»، ويقول في وصف الثورات العربية الأخرى: «ليس ربيعا عربيا ولكن خريطة تقسيم دولي للمصالح والموارد على نمط سايكس بيكو»، وهو التحول نفسه الذي أصاب أصواتا أخرى رحبت وهللت للثورة المصرية لكن توقفت عندما اندلعت أخواتها ضد نظام الأسد مثلا! وهو ما يمكننا النمذجة له في تصريحات السيد نبيل بري والسيد حسن نصر الله في الموقف من ثورة مصر ومن الثورة في سوريا فيما بعد، ولكن يحسب لهم على عكس هيكل تأييدهم للثورة ضد نظام القذافي لارتباطه بحادث اختفاء السيد موسى الصدر والعداوة التاريخية بينهما! ففي 13 فبراير سنة 2011 وصف السيد نبيل بري الثورة المصرية بأنها «أرقى ما سمع وقرأ عن ثورات»، لكنه في 21 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه يصف الثورة السورية بأنها «مؤامرة تمهد لسايكس بيكو جديد».
هكذا التحيزات لا تغادر أصحابها وتكشف لا موضوعية الحبس والتحيز الآيديولوجي وولاءاته.
مع ارتباك دولي وإقليمي تجاه الأوضاع في المنطقة، لا يمكن فيه الحسم بشيء، وتبدو كل المسارات محتملة، وجدت التنظيمات والأصوات الآيديولوجية المختلفة فرصها للعودة إعلاميا وخطابيا من جديد، ولكن بشكل مختلف يمكننا تحديد عدد من ملامحه فيما يلي:
تتماهى الخطابات والأصوات الآيديولوجية العائدة والمستعادة في اعتمادها على التخفي خلف الجزئي والتفصيلي، وتجاهلها نقد آيديولوجياتها ومنطلقاتها السابقة، مع عدم إعلانها أو الترويج لها، فهي تتشح بلباس مصلحة النظام الذي تدافع عنه! أو بلباس الديمقراطية والمظلومية والتحديات الجديدة! وهو ما يجد مناخا مناسبا لهذا في تسارع الأحداث والحوادث ومساحات التغريدات في آن، فتوابع الزلازل المستمرة لا تتيح لهم غير اقتطاف ما شاءوا.
حسب هوية الكاتب تكون درجة الوضوح الآيديولوجي، وتعبيره عنها، فيبدو الدعاة الإسلاميون أكثر وضوحا في التعبير عن هذه الانتماءات والولاءات السابقة، ويسوقونها بلغة تعبوية ومظلومية وهوياتية غالبا (مثل السعودي الدكتور عوض القرني والداعية سلمان العودة) من الكتاب المتعاطفين معهم (مثل فهمي هويدي وآخرين)، أو غيرهم الذين يطرحون رؤاهم التحليلية الواقعية من جانب آخر كالموقف والعلاقة بين مصر والسعودية والخليج، على خلفية «عاصفة الحزم» التي انطلقت تلبية لنداء الشرعية اليمنية في 24 مارس (آذار) العام الحالي، أو في الموقف الإيجابي من إيران والعداء لأميركا (الأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ فهمي هويدي نموذجا)، سواء في الإعجاب بإيران الذين يجتمعان فيه، أو في الموقف السلبي الذي يردده الأول تجاه المملكة العربية السعودية، من بقايا الناصرية، أو في موقف الأخير من دولة الإمارات، كما كان في مقاله في 19 يوليو العام الحالي حول مبادراتها التي وصفها حروبًا!
رغم أنها المرة الثالثة أو الرابعة التي تعلن فيها تركيا نيتها وتوجهها لمنطقة عازلة في الشمال السوري، تحولت لمنطقة آمنة، ثم تركزت لضرب الأكراد والعمال الكردستاني تحديدا، مع تنازل للولايات المتحدة لاستخدام قاعدة أنجرليك التي طالما استخدمتها في السابق، يرى الخطاب المتحيز لتركيا وتحالفها مع الإسلاميين في المنطقة ومعاداة النظام المصري وحراك 30 يونيو، أن هذا حزم في سوريا قادم! دون أن يفسروا لنا تأخره المستمر حتى الآن منذ بداية إطلاق دعوى المنطقة العازلة في مارس سنة 2012.
كذلك خطابهم مع انطلاق «عاصفة الحزم» تلبية لنداء الشرعية في اليمن في 25 مارس العام الحالي، كان ترويجهم لضرورة لاستعادة العلاقة مع «الإخوان» والإسلاميين عموما، وليس فقط الإصلاح في اليمن على حساب العلاقة مع مصر ونظامها بعد 30 يونيو، هكذا حاولت الأصوات الآيديولوجية الخليجية المتحيزة للإخوان وضد هذا النظام بعدها، مع تجاهل للسياقات بين العلاقتين!
وكان من تناقض الأصوات الآيديولوجية الخليجية رفضها دعم الشرعية في ليبيا، أو التدخل العسكري المصري فيها ردا على ذبح تنظيم داعش بدرنة 21 مصريًا، وهو ما تكرر مرات كثيرة بحق أقباط مصريين، بينما يؤيدون وبقوة التدخل في سوريا و«عاصفة الحزم» بقوة!
تكتيكات غير ظاهرة تستهدف في مركزها ودورانها استهداف هذه العلاقة الصاعدة بين مصر والسعودية والخليج، واستبدال تركيا أو جماعات الإسلام السياسي بها، وهذه أمثلة لا حصر، وبينما يغضب هؤلاء حين تكون عملية للتنظيمات الإرهابية في تركيا أو في الخليج، نجد التجاهل لرثاء شهدائها وضحاياها في مصر والتبرير لها بممارسات النظام، لتبقى «داعش» وفق هذا المنطق مدافعة، تطالب بالديمقراطية في مصر، كما يبطن الخطاب الإخواني والخطاب المتحيز له غير المعلن لذلك.
رغم تراجع كثير من الآيديولوجيات وانكسارها، وعودا وتجربة، نظرا وتطبيقا، فإن بقايا حنينها والعجز عن التحرر من أسرها وحبسها، وانتصارية الإصرار الآيديولوجي على ماضيه التليد القريب أو البعيد، تمثل عوائق قوية لهذا التحرر.
هذه النوستالجيا، الحنين الأول، قد يكون ناصريا أو بعثيا أو إخوانيا أو جهاديا! وهنا يلتقي اللاوعي بالوعي، ويتحرك العقل بإرادة العقيدة لا إرادة المعرفة، وبوعي الآيديولوجيا الزائف لا بالوعي المعرفي الموضوعي والمحايد الذي يربط الوقائع بواقعها وكل حالة ماثلة بسياقاتها!
إنها شظايا الآيديولوجية تفور مع الثوران والزلزالية العربية منذ عام 2011 مرورا بمحطاتها التالية، من دعوى الربيع إلى ربيع الإسلاميين عام 2012 إلى انكسارهم عام 2013 وصولا للربيع الداعشي وصدام الجهاديات الطائفية.
المثقف الآيديولوجي، منظما كان أم غير منظم، تنطلق تحليلاته غالبا من تحيزاته التي قد لا يعلنها، فعادت دعوى الالتزام التي انتشرت في خمسينات وستينات القرن الماضي في الأفكار اليسارية والقومية، أو السمع والطاعة والإخلاص في خطاب الإسلاميين، لكن بخطاب تمويهي لا يعلن هذه التحيزات غالبا ولا يعلن هدفه الأصلي منها.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.