تراجع الآيديولوجيات وتقدم الآيديولوجيين

المعارك المكشوفة.. في استهداف العلاقات المصرية – السعودية

جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
TT

تراجع الآيديولوجيات وتقدم الآيديولوجيين

جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)
جندي من الشرطة المصرية وجنديان من الجيش أمام مدخل سجن طرة في القاهرة الذي يحتجز فيه عدد من المتطرفين أمس (رويترز)

رغم أن دعوى الالتزام الآيديولوجي، اليساري والإسلامي، لم تعد معلنة بوضوح، فإنها لم تنفض بعد، حيث لا تزال حية تبعث من جديد، مع الثوران والاستقطاب السياسي العربي والأزمات الوطنية والإقليمية.
لا يخفي هذا التحيز أو الالتزام خفض النبرة الآيديولوجية، أو التحول للفكرة المدنية أو الديمقراطية، التي صار كثيرون من الأصوليين يتشحون بوشاحها، كما اتشح بوشاحها قوميون سابقا، رغم أنها كانت دائما قابلة للإزاحة من أفكارهم وممارستهم إلا نادرًا.
أقنعة مستحدثة، وتحولات فكرية، لكنها لا تخفي الولاءات الآيديولوجية لأفكار واتجاهات معينة، تكون إيران أو تركيا أو ربيع الإسلاميين السابق أو الذاكرة الناصرية، كل حسب تطوراته وتاريخه السابق.
لكن الغريب المثير هو توظيف الأضداد الآيديولوجية لبعضها بعضا في استهداف العلاقات والتحالفات الإقليمية في المنطقة، وخصوصا التقارب المصري - السعودي - الخليجي الصاعد في وجه أخطار التدخل أو التمدد الإقليمي المحاذية.
حيث يستهدفون بآليات متشابهة، تعكير الأجواء بين الأشقاء، التي تتأكد كل يوم، وكان آخرها في إعلان القاهرة الأخير في 29 يوليو (تموز) الحالي بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، الذي تمخض عنه الشروع في إنشاء القوة العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي والعسكري الوثيق بين البلدين.
فيما يلي سنرصد نماذج من هذه الخطابات المتحيزة وتوظيفها التأويلي المكشوف للوقائع دون الواقع، وللشوارد دون للنسق، فتنتقي ما شاءت دليلا وتمرر ما أرادت حجة دون انتباه لما يناقضها في باطن خطابها ذاته.
من أمثلة هذا التوظيف أو الاصطياد الآيديولوجي اعتماد بعض الأصوات الخليجية لمواقف شاردة تعبر عن أصحابها قبل أن تعبر عن النظام أو السياسة أو المجتمع والنخبة المصرية بشكل رئيسي.
من ذلك توظيف البعض لمقال الكاتب الأستاذ فهمي هويدي المنشور في 19 يوليو الماضي في صحيفة «الشروق» المصرية بعنوان «حروب أبوظبي»، الذي عبر عن كثير من التحيزات التي تسكن كاتبه، وهو ما يصعب تفسيره دون الرجوع لموقف الإمارات الداعم لمصر في 30 يونيو (حزيران) وما بعدها! ويكفي فيه أن صاحبه كان الوحيد في العالم الذي لا يرى «داعش» والتطرف خطرا تنبغي مكافحته، ولا بد من المبادرة لهذه المكافحة والمواجهة.
وهو ما تمكن قراءته كذلك في البيان الذي أصدره الداعية السعودي عوض القرني بعد أحكام الإعدام المستأنفة، التي لم تكن نهائية في مصر في 15 يونيو سنة 2015 داعيا للجهاد في مصر، وأن «ما يجري فيها حرب لاستئصال الإسلام» هكذا قولا واحدا لا يمكن أن يلتقي مع النظام ولا الخطاب السعودي السائد ولكن يرتبط بدعوة آيديولوجية سابقة قال بها القرضاوي في 27 يوليو سنة 2013، أو ما صدر من بيانات تزامنت معه من الاتجاه نفسه.
في السياق نفسه، حملت بعض الأصوات الخليجية المتحيزة ضد مصر، النظام المصري بعض آراء الأستاذ محمد حسنين هيكل في حواره مع جريدة «السفير» اللبنانية بتاريخ 21 يوليو من العام الحالي، الذي أجراه معه رئيس تحريرها في منتجع بالساحل الشمالي، ذكر فيه إعجابه بما اعتبره انتصارًا إيرانيًا، بالوصول لاتفاق نووي في 14 يوليو الماضي، وأن إيران وتركيا تمثلان المواجهة الحقيقية للسياسة الأميركية في المنطقة، وأن مصر مشغولة ومأزومة، والسعودية وسائر دول الخليج كذلك!
وهو ما حاولت توظيفه أصوات خليجية متعددة وصفت الرجل بأنه مفكر النظام المصري وواضع سياسته، وهكذا تلتقي الأضداد الآيديولوجية في توظيف كل منها الآخر، مستهدفا علاقة واحدة!
كان التحيز واضحا تشي به كلمات هيكل نفسه، فهو لم يخفِ إعجابه بإيران منذ زيارته الأولى لها في عهد مصدق سنة 1951 وزيارة خاتمي له في منزله بالقاهرة، ومعاداته لتجربة السادات ومبارك وانقلابهما على الناصرية! وعدم تعاطفه المستقر والقديم مع السعودية بالخصوص! ولكن هل يجوز سحبها على نظام أكد في حواره أنه «ليست لديه رؤية واضحة عما ستكون عليه مصر مستقبلا».
من الجهة الأخرى، وجدت بعض الأصوات المصرية المتحيزة في الإعلام المصري ما كتبه بعض الصحافيين والمغردين السعوديين من أن ثمة تغيرًا في السياسة السعودية والخليجية تجاه مصر مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز العرش في 23 يناير (كانون الثاني) العام الحالي، بل تم تحميل النظام والحكم في السعودية، رؤى للدكتور خالد الدخيل وتغريدات لصحافيين وإعلاميين آخرين تحدثوا فيها عن تحولات في الموقف السعودي تجاه مصر، رغم تأكيدات الخطاب الرسمي ووزير الخارجية عادل الجبير، أكثر من مرة أن الروابط السعودية المصرية تزداد توثيقا، وأنها جناحا الأمة العربية اللذان يرفرفان من أجل حماية شعوبها، وأن مصر جزء أساسي من تحالف دعم الشرعية في اليمن، كما كان في 23 و30 يوليو الماضي.
كان رصدنا مبكرا للتحيزات الآيديولوجية لدى الأستاذ هيكل والكثير من الأصوات الآيديولوجية منذ قديم، وسنحاول التمثيل عليها فيما يلي:
صرح الأستاذ هيكل بعد ساعتين من تنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) سنة 2011 قائلا: «شاهدنا حدثًا لا مثيل له في التاريخ المصري.. نضج جيل ونضج شعب وكدنا نفقد الأمل.. كنت أقول: يا ليل الصب متى غده» (برنامج العاشرة مساء - الدقيقة الثانية) وفي 20 فبراير من العام نفسه صرح بقوله عن ضرورة التنحي: «كان على مبارك ألا يعاند التاريخ وأن يتنحى» (من حوار مع «المصري اليوم» في هذا التاريخ) ولكننا وجدناه في 23 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه في حوار مع جريدة «الأهرام» يقول بعد اندلاع الثورة في ليبيا وسوريا (حيث التقارب الآيديولوجي): «لست مستبشرا بربيع مصر ولا بغيرها»، ويقول في وصف الثورات العربية الأخرى: «ليس ربيعا عربيا ولكن خريطة تقسيم دولي للمصالح والموارد على نمط سايكس بيكو»، وهو التحول نفسه الذي أصاب أصواتا أخرى رحبت وهللت للثورة المصرية لكن توقفت عندما اندلعت أخواتها ضد نظام الأسد مثلا! وهو ما يمكننا النمذجة له في تصريحات السيد نبيل بري والسيد حسن نصر الله في الموقف من ثورة مصر ومن الثورة في سوريا فيما بعد، ولكن يحسب لهم على عكس هيكل تأييدهم للثورة ضد نظام القذافي لارتباطه بحادث اختفاء السيد موسى الصدر والعداوة التاريخية بينهما! ففي 13 فبراير سنة 2011 وصف السيد نبيل بري الثورة المصرية بأنها «أرقى ما سمع وقرأ عن ثورات»، لكنه في 21 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه يصف الثورة السورية بأنها «مؤامرة تمهد لسايكس بيكو جديد».
هكذا التحيزات لا تغادر أصحابها وتكشف لا موضوعية الحبس والتحيز الآيديولوجي وولاءاته.
مع ارتباك دولي وإقليمي تجاه الأوضاع في المنطقة، لا يمكن فيه الحسم بشيء، وتبدو كل المسارات محتملة، وجدت التنظيمات والأصوات الآيديولوجية المختلفة فرصها للعودة إعلاميا وخطابيا من جديد، ولكن بشكل مختلف يمكننا تحديد عدد من ملامحه فيما يلي:
تتماهى الخطابات والأصوات الآيديولوجية العائدة والمستعادة في اعتمادها على التخفي خلف الجزئي والتفصيلي، وتجاهلها نقد آيديولوجياتها ومنطلقاتها السابقة، مع عدم إعلانها أو الترويج لها، فهي تتشح بلباس مصلحة النظام الذي تدافع عنه! أو بلباس الديمقراطية والمظلومية والتحديات الجديدة! وهو ما يجد مناخا مناسبا لهذا في تسارع الأحداث والحوادث ومساحات التغريدات في آن، فتوابع الزلازل المستمرة لا تتيح لهم غير اقتطاف ما شاءوا.
حسب هوية الكاتب تكون درجة الوضوح الآيديولوجي، وتعبيره عنها، فيبدو الدعاة الإسلاميون أكثر وضوحا في التعبير عن هذه الانتماءات والولاءات السابقة، ويسوقونها بلغة تعبوية ومظلومية وهوياتية غالبا (مثل السعودي الدكتور عوض القرني والداعية سلمان العودة) من الكتاب المتعاطفين معهم (مثل فهمي هويدي وآخرين)، أو غيرهم الذين يطرحون رؤاهم التحليلية الواقعية من جانب آخر كالموقف والعلاقة بين مصر والسعودية والخليج، على خلفية «عاصفة الحزم» التي انطلقت تلبية لنداء الشرعية اليمنية في 24 مارس (آذار) العام الحالي، أو في الموقف الإيجابي من إيران والعداء لأميركا (الأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ فهمي هويدي نموذجا)، سواء في الإعجاب بإيران الذين يجتمعان فيه، أو في الموقف السلبي الذي يردده الأول تجاه المملكة العربية السعودية، من بقايا الناصرية، أو في موقف الأخير من دولة الإمارات، كما كان في مقاله في 19 يوليو العام الحالي حول مبادراتها التي وصفها حروبًا!
رغم أنها المرة الثالثة أو الرابعة التي تعلن فيها تركيا نيتها وتوجهها لمنطقة عازلة في الشمال السوري، تحولت لمنطقة آمنة، ثم تركزت لضرب الأكراد والعمال الكردستاني تحديدا، مع تنازل للولايات المتحدة لاستخدام قاعدة أنجرليك التي طالما استخدمتها في السابق، يرى الخطاب المتحيز لتركيا وتحالفها مع الإسلاميين في المنطقة ومعاداة النظام المصري وحراك 30 يونيو، أن هذا حزم في سوريا قادم! دون أن يفسروا لنا تأخره المستمر حتى الآن منذ بداية إطلاق دعوى المنطقة العازلة في مارس سنة 2012.
كذلك خطابهم مع انطلاق «عاصفة الحزم» تلبية لنداء الشرعية في اليمن في 25 مارس العام الحالي، كان ترويجهم لضرورة لاستعادة العلاقة مع «الإخوان» والإسلاميين عموما، وليس فقط الإصلاح في اليمن على حساب العلاقة مع مصر ونظامها بعد 30 يونيو، هكذا حاولت الأصوات الآيديولوجية الخليجية المتحيزة للإخوان وضد هذا النظام بعدها، مع تجاهل للسياقات بين العلاقتين!
وكان من تناقض الأصوات الآيديولوجية الخليجية رفضها دعم الشرعية في ليبيا، أو التدخل العسكري المصري فيها ردا على ذبح تنظيم داعش بدرنة 21 مصريًا، وهو ما تكرر مرات كثيرة بحق أقباط مصريين، بينما يؤيدون وبقوة التدخل في سوريا و«عاصفة الحزم» بقوة!
تكتيكات غير ظاهرة تستهدف في مركزها ودورانها استهداف هذه العلاقة الصاعدة بين مصر والسعودية والخليج، واستبدال تركيا أو جماعات الإسلام السياسي بها، وهذه أمثلة لا حصر، وبينما يغضب هؤلاء حين تكون عملية للتنظيمات الإرهابية في تركيا أو في الخليج، نجد التجاهل لرثاء شهدائها وضحاياها في مصر والتبرير لها بممارسات النظام، لتبقى «داعش» وفق هذا المنطق مدافعة، تطالب بالديمقراطية في مصر، كما يبطن الخطاب الإخواني والخطاب المتحيز له غير المعلن لذلك.
رغم تراجع كثير من الآيديولوجيات وانكسارها، وعودا وتجربة، نظرا وتطبيقا، فإن بقايا حنينها والعجز عن التحرر من أسرها وحبسها، وانتصارية الإصرار الآيديولوجي على ماضيه التليد القريب أو البعيد، تمثل عوائق قوية لهذا التحرر.
هذه النوستالجيا، الحنين الأول، قد يكون ناصريا أو بعثيا أو إخوانيا أو جهاديا! وهنا يلتقي اللاوعي بالوعي، ويتحرك العقل بإرادة العقيدة لا إرادة المعرفة، وبوعي الآيديولوجيا الزائف لا بالوعي المعرفي الموضوعي والمحايد الذي يربط الوقائع بواقعها وكل حالة ماثلة بسياقاتها!
إنها شظايا الآيديولوجية تفور مع الثوران والزلزالية العربية منذ عام 2011 مرورا بمحطاتها التالية، من دعوى الربيع إلى ربيع الإسلاميين عام 2012 إلى انكسارهم عام 2013 وصولا للربيع الداعشي وصدام الجهاديات الطائفية.
المثقف الآيديولوجي، منظما كان أم غير منظم، تنطلق تحليلاته غالبا من تحيزاته التي قد لا يعلنها، فعادت دعوى الالتزام التي انتشرت في خمسينات وستينات القرن الماضي في الأفكار اليسارية والقومية، أو السمع والطاعة والإخلاص في خطاب الإسلاميين، لكن بخطاب تمويهي لا يعلن هذه التحيزات غالبا ولا يعلن هدفه الأصلي منها.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.