رغم أن دعوى الالتزام الآيديولوجي، اليساري والإسلامي، لم تعد معلنة بوضوح، فإنها لم تنفض بعد، حيث لا تزال حية تبعث من جديد، مع الثوران والاستقطاب السياسي العربي والأزمات الوطنية والإقليمية.
لا يخفي هذا التحيز أو الالتزام خفض النبرة الآيديولوجية، أو التحول للفكرة المدنية أو الديمقراطية، التي صار كثيرون من الأصوليين يتشحون بوشاحها، كما اتشح بوشاحها قوميون سابقا، رغم أنها كانت دائما قابلة للإزاحة من أفكارهم وممارستهم إلا نادرًا.
أقنعة مستحدثة، وتحولات فكرية، لكنها لا تخفي الولاءات الآيديولوجية لأفكار واتجاهات معينة، تكون إيران أو تركيا أو ربيع الإسلاميين السابق أو الذاكرة الناصرية، كل حسب تطوراته وتاريخه السابق.
لكن الغريب المثير هو توظيف الأضداد الآيديولوجية لبعضها بعضا في استهداف العلاقات والتحالفات الإقليمية في المنطقة، وخصوصا التقارب المصري - السعودي - الخليجي الصاعد في وجه أخطار التدخل أو التمدد الإقليمي المحاذية.
حيث يستهدفون بآليات متشابهة، تعكير الأجواء بين الأشقاء، التي تتأكد كل يوم، وكان آخرها في إعلان القاهرة الأخير في 29 يوليو (تموز) الحالي بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وولي ولي العهد السعودي وزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، الذي تمخض عنه الشروع في إنشاء القوة العربية المشتركة والتكامل الاقتصادي والعسكري الوثيق بين البلدين.
فيما يلي سنرصد نماذج من هذه الخطابات المتحيزة وتوظيفها التأويلي المكشوف للوقائع دون الواقع، وللشوارد دون للنسق، فتنتقي ما شاءت دليلا وتمرر ما أرادت حجة دون انتباه لما يناقضها في باطن خطابها ذاته.
من أمثلة هذا التوظيف أو الاصطياد الآيديولوجي اعتماد بعض الأصوات الخليجية لمواقف شاردة تعبر عن أصحابها قبل أن تعبر عن النظام أو السياسة أو المجتمع والنخبة المصرية بشكل رئيسي.
من ذلك توظيف البعض لمقال الكاتب الأستاذ فهمي هويدي المنشور في 19 يوليو الماضي في صحيفة «الشروق» المصرية بعنوان «حروب أبوظبي»، الذي عبر عن كثير من التحيزات التي تسكن كاتبه، وهو ما يصعب تفسيره دون الرجوع لموقف الإمارات الداعم لمصر في 30 يونيو (حزيران) وما بعدها! ويكفي فيه أن صاحبه كان الوحيد في العالم الذي لا يرى «داعش» والتطرف خطرا تنبغي مكافحته، ولا بد من المبادرة لهذه المكافحة والمواجهة.
وهو ما تمكن قراءته كذلك في البيان الذي أصدره الداعية السعودي عوض القرني بعد أحكام الإعدام المستأنفة، التي لم تكن نهائية في مصر في 15 يونيو سنة 2015 داعيا للجهاد في مصر، وأن «ما يجري فيها حرب لاستئصال الإسلام» هكذا قولا واحدا لا يمكن أن يلتقي مع النظام ولا الخطاب السعودي السائد ولكن يرتبط بدعوة آيديولوجية سابقة قال بها القرضاوي في 27 يوليو سنة 2013، أو ما صدر من بيانات تزامنت معه من الاتجاه نفسه.
في السياق نفسه، حملت بعض الأصوات الخليجية المتحيزة ضد مصر، النظام المصري بعض آراء الأستاذ محمد حسنين هيكل في حواره مع جريدة «السفير» اللبنانية بتاريخ 21 يوليو من العام الحالي، الذي أجراه معه رئيس تحريرها في منتجع بالساحل الشمالي، ذكر فيه إعجابه بما اعتبره انتصارًا إيرانيًا، بالوصول لاتفاق نووي في 14 يوليو الماضي، وأن إيران وتركيا تمثلان المواجهة الحقيقية للسياسة الأميركية في المنطقة، وأن مصر مشغولة ومأزومة، والسعودية وسائر دول الخليج كذلك!
وهو ما حاولت توظيفه أصوات خليجية متعددة وصفت الرجل بأنه مفكر النظام المصري وواضع سياسته، وهكذا تلتقي الأضداد الآيديولوجية في توظيف كل منها الآخر، مستهدفا علاقة واحدة!
كان التحيز واضحا تشي به كلمات هيكل نفسه، فهو لم يخفِ إعجابه بإيران منذ زيارته الأولى لها في عهد مصدق سنة 1951 وزيارة خاتمي له في منزله بالقاهرة، ومعاداته لتجربة السادات ومبارك وانقلابهما على الناصرية! وعدم تعاطفه المستقر والقديم مع السعودية بالخصوص! ولكن هل يجوز سحبها على نظام أكد في حواره أنه «ليست لديه رؤية واضحة عما ستكون عليه مصر مستقبلا».
من الجهة الأخرى، وجدت بعض الأصوات المصرية المتحيزة في الإعلام المصري ما كتبه بعض الصحافيين والمغردين السعوديين من أن ثمة تغيرًا في السياسة السعودية والخليجية تجاه مصر مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز العرش في 23 يناير (كانون الثاني) العام الحالي، بل تم تحميل النظام والحكم في السعودية، رؤى للدكتور خالد الدخيل وتغريدات لصحافيين وإعلاميين آخرين تحدثوا فيها عن تحولات في الموقف السعودي تجاه مصر، رغم تأكيدات الخطاب الرسمي ووزير الخارجية عادل الجبير، أكثر من مرة أن الروابط السعودية المصرية تزداد توثيقا، وأنها جناحا الأمة العربية اللذان يرفرفان من أجل حماية شعوبها، وأن مصر جزء أساسي من تحالف دعم الشرعية في اليمن، كما كان في 23 و30 يوليو الماضي.
كان رصدنا مبكرا للتحيزات الآيديولوجية لدى الأستاذ هيكل والكثير من الأصوات الآيديولوجية منذ قديم، وسنحاول التمثيل عليها فيما يلي:
صرح الأستاذ هيكل بعد ساعتين من تنحي مبارك في 11 فبراير (شباط) سنة 2011 قائلا: «شاهدنا حدثًا لا مثيل له في التاريخ المصري.. نضج جيل ونضج شعب وكدنا نفقد الأمل.. كنت أقول: يا ليل الصب متى غده» (برنامج العاشرة مساء - الدقيقة الثانية) وفي 20 فبراير من العام نفسه صرح بقوله عن ضرورة التنحي: «كان على مبارك ألا يعاند التاريخ وأن يتنحى» (من حوار مع «المصري اليوم» في هذا التاريخ) ولكننا وجدناه في 23 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه في حوار مع جريدة «الأهرام» يقول بعد اندلاع الثورة في ليبيا وسوريا (حيث التقارب الآيديولوجي): «لست مستبشرا بربيع مصر ولا بغيرها»، ويقول في وصف الثورات العربية الأخرى: «ليس ربيعا عربيا ولكن خريطة تقسيم دولي للمصالح والموارد على نمط سايكس بيكو»، وهو التحول نفسه الذي أصاب أصواتا أخرى رحبت وهللت للثورة المصرية لكن توقفت عندما اندلعت أخواتها ضد نظام الأسد مثلا! وهو ما يمكننا النمذجة له في تصريحات السيد نبيل بري والسيد حسن نصر الله في الموقف من ثورة مصر ومن الثورة في سوريا فيما بعد، ولكن يحسب لهم على عكس هيكل تأييدهم للثورة ضد نظام القذافي لارتباطه بحادث اختفاء السيد موسى الصدر والعداوة التاريخية بينهما! ففي 13 فبراير سنة 2011 وصف السيد نبيل بري الثورة المصرية بأنها «أرقى ما سمع وقرأ عن ثورات»، لكنه في 21 أكتوبر (تشرين الأول) من العام نفسه يصف الثورة السورية بأنها «مؤامرة تمهد لسايكس بيكو جديد».
هكذا التحيزات لا تغادر أصحابها وتكشف لا موضوعية الحبس والتحيز الآيديولوجي وولاءاته.
مع ارتباك دولي وإقليمي تجاه الأوضاع في المنطقة، لا يمكن فيه الحسم بشيء، وتبدو كل المسارات محتملة، وجدت التنظيمات والأصوات الآيديولوجية المختلفة فرصها للعودة إعلاميا وخطابيا من جديد، ولكن بشكل مختلف يمكننا تحديد عدد من ملامحه فيما يلي:
تتماهى الخطابات والأصوات الآيديولوجية العائدة والمستعادة في اعتمادها على التخفي خلف الجزئي والتفصيلي، وتجاهلها نقد آيديولوجياتها ومنطلقاتها السابقة، مع عدم إعلانها أو الترويج لها، فهي تتشح بلباس مصلحة النظام الذي تدافع عنه! أو بلباس الديمقراطية والمظلومية والتحديات الجديدة! وهو ما يجد مناخا مناسبا لهذا في تسارع الأحداث والحوادث ومساحات التغريدات في آن، فتوابع الزلازل المستمرة لا تتيح لهم غير اقتطاف ما شاءوا.
حسب هوية الكاتب تكون درجة الوضوح الآيديولوجي، وتعبيره عنها، فيبدو الدعاة الإسلاميون أكثر وضوحا في التعبير عن هذه الانتماءات والولاءات السابقة، ويسوقونها بلغة تعبوية ومظلومية وهوياتية غالبا (مثل السعودي الدكتور عوض القرني والداعية سلمان العودة) من الكتاب المتعاطفين معهم (مثل فهمي هويدي وآخرين)، أو غيرهم الذين يطرحون رؤاهم التحليلية الواقعية من جانب آخر كالموقف والعلاقة بين مصر والسعودية والخليج، على خلفية «عاصفة الحزم» التي انطلقت تلبية لنداء الشرعية اليمنية في 24 مارس (آذار) العام الحالي، أو في الموقف الإيجابي من إيران والعداء لأميركا (الأستاذ محمد حسنين هيكل والأستاذ فهمي هويدي نموذجا)، سواء في الإعجاب بإيران الذين يجتمعان فيه، أو في الموقف السلبي الذي يردده الأول تجاه المملكة العربية السعودية، من بقايا الناصرية، أو في موقف الأخير من دولة الإمارات، كما كان في مقاله في 19 يوليو العام الحالي حول مبادراتها التي وصفها حروبًا!
رغم أنها المرة الثالثة أو الرابعة التي تعلن فيها تركيا نيتها وتوجهها لمنطقة عازلة في الشمال السوري، تحولت لمنطقة آمنة، ثم تركزت لضرب الأكراد والعمال الكردستاني تحديدا، مع تنازل للولايات المتحدة لاستخدام قاعدة أنجرليك التي طالما استخدمتها في السابق، يرى الخطاب المتحيز لتركيا وتحالفها مع الإسلاميين في المنطقة ومعاداة النظام المصري وحراك 30 يونيو، أن هذا حزم في سوريا قادم! دون أن يفسروا لنا تأخره المستمر حتى الآن منذ بداية إطلاق دعوى المنطقة العازلة في مارس سنة 2012.
كذلك خطابهم مع انطلاق «عاصفة الحزم» تلبية لنداء الشرعية في اليمن في 25 مارس العام الحالي، كان ترويجهم لضرورة لاستعادة العلاقة مع «الإخوان» والإسلاميين عموما، وليس فقط الإصلاح في اليمن على حساب العلاقة مع مصر ونظامها بعد 30 يونيو، هكذا حاولت الأصوات الآيديولوجية الخليجية المتحيزة للإخوان وضد هذا النظام بعدها، مع تجاهل للسياقات بين العلاقتين!
وكان من تناقض الأصوات الآيديولوجية الخليجية رفضها دعم الشرعية في ليبيا، أو التدخل العسكري المصري فيها ردا على ذبح تنظيم داعش بدرنة 21 مصريًا، وهو ما تكرر مرات كثيرة بحق أقباط مصريين، بينما يؤيدون وبقوة التدخل في سوريا و«عاصفة الحزم» بقوة!
تكتيكات غير ظاهرة تستهدف في مركزها ودورانها استهداف هذه العلاقة الصاعدة بين مصر والسعودية والخليج، واستبدال تركيا أو جماعات الإسلام السياسي بها، وهذه أمثلة لا حصر، وبينما يغضب هؤلاء حين تكون عملية للتنظيمات الإرهابية في تركيا أو في الخليج، نجد التجاهل لرثاء شهدائها وضحاياها في مصر والتبرير لها بممارسات النظام، لتبقى «داعش» وفق هذا المنطق مدافعة، تطالب بالديمقراطية في مصر، كما يبطن الخطاب الإخواني والخطاب المتحيز له غير المعلن لذلك.
رغم تراجع كثير من الآيديولوجيات وانكسارها، وعودا وتجربة، نظرا وتطبيقا، فإن بقايا حنينها والعجز عن التحرر من أسرها وحبسها، وانتصارية الإصرار الآيديولوجي على ماضيه التليد القريب أو البعيد، تمثل عوائق قوية لهذا التحرر.
هذه النوستالجيا، الحنين الأول، قد يكون ناصريا أو بعثيا أو إخوانيا أو جهاديا! وهنا يلتقي اللاوعي بالوعي، ويتحرك العقل بإرادة العقيدة لا إرادة المعرفة، وبوعي الآيديولوجيا الزائف لا بالوعي المعرفي الموضوعي والمحايد الذي يربط الوقائع بواقعها وكل حالة ماثلة بسياقاتها!
إنها شظايا الآيديولوجية تفور مع الثوران والزلزالية العربية منذ عام 2011 مرورا بمحطاتها التالية، من دعوى الربيع إلى ربيع الإسلاميين عام 2012 إلى انكسارهم عام 2013 وصولا للربيع الداعشي وصدام الجهاديات الطائفية.
المثقف الآيديولوجي، منظما كان أم غير منظم، تنطلق تحليلاته غالبا من تحيزاته التي قد لا يعلنها، فعادت دعوى الالتزام التي انتشرت في خمسينات وستينات القرن الماضي في الأفكار اليسارية والقومية، أو السمع والطاعة والإخلاص في خطاب الإسلاميين، لكن بخطاب تمويهي لا يعلن هذه التحيزات غالبا ولا يعلن هدفه الأصلي منها.
تراجع الآيديولوجيات وتقدم الآيديولوجيين
المعارك المكشوفة.. في استهداف العلاقات المصرية – السعودية
تراجع الآيديولوجيات وتقدم الآيديولوجيين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة