على مسرح «رونبوان» في باريس، تقدم ليتيسا كاستا عرضاً تلقي فيه الضوء على فصول من حياة كلارا هاسكل، إحدى نوابغ عازفات البيانو في القرن العشرين. المسرحية من نوع الممثل الواحد، تشترك فيها إلى جانب الممثلة عازفة البيانو التركية أسيل بنغي، وعنوانها «تمهيد وهروب». كتب النص البلجيكي سيرج كريبو وأخرجه الفرنسي الجزائري الأصل صافي نبّو. ومن المقرر أن تستمر المسرحية حتى 26 من الشهر الحالي.
كتب تشارلي شابلن، إنه من بين كل أصدقائه، عاصر ثلاثة عباقرة هم العالم آينشتاين، ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، وعازفة البيانو كلارا هاسكل. وفي هذا العرض نتعرف على هذه الأخيرة التي ولدت في بوخارست، رومانيا، عام 1895، وتوفيت في بروكسل، بلجيكا، عام 1960، كانت طفلة نابغة تنقر بإصبعها على الطاولة مستعيدة نغمات الموسيقى الكلاسيكية التي تسمعها. إن النضوج المبكر لعقل الطفل هو مصدر للقلق. هذا ما تخبرنا به ليتيسيا كاستا وهي تقدم للمشاهدين أبرز المواقف في حياة هاسكل، ومنها زلة القدم التي أودت بحياتها وهي في أوج مجدها. كانت تستعد للسفر لتقديم حفل موسيقي ذات مساء من يوم ثلاثاء. ومن ثَمّ تعثرت وسقطت على الأدراج الميكانيكية المتحركة لمحطة قطارات بروكسل.
مشهد من المسرحية (من نشرة المسرح)
وما بين لحظة التعثر ولحظة الانطفاء، تتوالى فصول حياتها في ذاكرتها وهي مستلقية على الأرض. حياة امتدت لستة عقود وشهدت خلالها حربين عالميتين: الحريق الذي التهم منزل الطفولة. عمها الذي أخذها إلى باريس وهي بنت 7 سنوات ومن ثَمّ إلى فيينا. شظف سنوات الحرب. معاناتها من المرض. وأخيراً سعادتها بالأصدقاء وبالموسيقى.
يأتي هذا العرض بمثابة تأدية التحية لفنانة ما كان لها أن تثبت موهبتها الاستثنائية في محيط رجالي. وفي سبيل أن تجد لنفسها مكاناً، تغلبت على الكثير من الأحداث المأساوية، منها إصابتها وهي طفلة بمرض في العظام أدخلها المستشفى وحبسها في ضمادات الجبس. فنانة يهودية مهاجرة تمسكت بالبقاء على قيد الحياة في قارة كانت موبوءة بكراهية اليهود ومطاردتهم. لكنها قاومت وواصلت تمارينها في العزف واختبأت وظهرت وتنقلت بين العواصم دون أن تفقد شجاعتها ولا نقاوة الطفولة. لا يرى المتفرج أي ديكور على خشبة المسرح سوى البيانو. إن لكل مرحلة من حياتها موسيقاها المختلفة وأصداءها في أفكارها المنطوقة على لسان الممثلة. كانت كلارا هاسكل تتمتع بتلك الأذن الموسيقية التي تجيد التقاط الأنغام ويسميها الخبراء «الأذن القصوى». كانت تثور على من يقرأ النوتات، وتؤمن بأن اللحن ينطلق من القلب.
وبفضل موهبتها التي تفتحت، اجتازت عتبة قصر الملكة في فيينا، وبعد ذلك بوابة الكونسرفاتوار في باريس، حيث حازت الجائزة الأولى وتسلمتها من يد عازف البيانو الفرنسي الشهير غابرييل فور. كل ذلك تشرحه المسرحية التي لا تكتفي بسيرة هاسكل وحدها، بل ترسم أجواء أهلها والناس الذين لعبوا دوراً في حياتها: والدتها وشقيقتاها جين وليلي وأساتذتها وغير ذلك من شخصيات تقمصت ليتيسيا كاستا أصواتها ونطقت بألسنتها.
ونظراً للتشابك بين الفصول المكتوبة بحسّ شاعري متدفق، كان على المتفرج أن يترك نفسه لحواسه الخمس تأخذه ما بين جمالية العبارات وروعة المقطوعات الموسيقية. كل عبارة تنتهي بمقطوعة على البيانو.
تتطور الحكاية وفق تقدم كلارا في السن. وتتوالى الفصول التي تبدأ بعبارات: «عمري 7 أعوام»، «عمري 14 عاماً»، «أنا الآن في سن 19». وهكذا تعبر العازفة أحداث عصر مضطرب بالنزاعات والحروب، تنجو من الاعتقال وتعيش سنوات من التخبط، ثم يعود السلام، وتلحق بإيقاع عصرها، وتنتقل بفنها إلى جميع مسارح أوروبا وأميركا.
كانت تعشق ذرات الثلج في الشتاء ولا تتوقف عن مراقبة السماء. وجاء المشهد الأخير وهي مستلقية على الأرض بعد سقوطها، ليؤكد ذلك الهوس، فهي تقول مخاطبة أمها وعيناها تخترقان سقف المحطة: «انظري يا أمي، فأنا آكل السماء».
ولعل من أجمل ما تتركه هذه المسرحية من انطباعات هو ذلك المزج بين الموسيقى وبين الشعر بانسجام عفوي. فالشخصية التي نحن بصددها كانت شاعرة في عزفها، بحيث إن ناقداً بلجيكياً قال إن كلارا هاسكل كانت تعزف بتلقائية تجعلها تتجاهل مهارتها. كانت تبدو وراء الستار عديمة الثقة بقدراتها، قلقة قبل أي حفل من حفلاتها، لكن ما أن تجلس أمام الآلة وتضع أناملها على المفاتيح حتى تتألق وتبدو وكأنها تحلّق خارج القاعة. كأنها عنقاء ذات أنامل من ذهب.