تحقيق: الجفاف «كابوس» يهدد حاضر العراق ومستقبله... وشمال شرقي سوريا عطشان بين نهرين

بلاد الرافدين الأكثر تأثراً بالتغير المناخي... وانخفاض كبير في منسوب دجلة والفرات

هور الجبايش جنوب العراق بعد أن ضربه الجفاف وغادره السكان (شاترستوك)
هور الجبايش جنوب العراق بعد أن ضربه الجفاف وغادره السكان (شاترستوك)
TT

تحقيق: الجفاف «كابوس» يهدد حاضر العراق ومستقبله... وشمال شرقي سوريا عطشان بين نهرين

هور الجبايش جنوب العراق بعد أن ضربه الجفاف وغادره السكان (شاترستوك)
هور الجبايش جنوب العراق بعد أن ضربه الجفاف وغادره السكان (شاترستوك)

بعد سنوات الخوف الطويلة الناجمة عن الحروب والصراعات السياسية وأعمال العنف والإرهاب التي اختبرها العراقيون والسوريون خلال السنوات الأخيرة، يقف البلدان اليوم على حافة «كابوس جديد» ومخاوف عنوانها: الجفاف والتصحر والتأثر الشديد بالتحولات المناخية التي تضرب كثيراً من الدول. وفيما يأتي العراق في مقدمتها، طبقاً للإحصاءات الأممية والدولية، فإن جارته سوريا ليست بعيدة عن هذا الواقع. وتعمقت خلال فصل الشتاء الحالي مخاوف سكان البلدين، بالنظر للتحولات الكارثية وغير المسبوقة التي طرأت على مناسيب نهري دجلة والفرات في ذروة فصل الشتاء؛ حيث لاحظ معظم سكان المدن الواقعة على النهرين (أغلب المدن العراقية تقع ضفافهما، وشمال شرقي سويا) أن مناسيب النهرين انخفضت بشكل كبير في محافظات جنوب البلاد (ذي قار، والديوانية، وبابل، وميسان) إلى الحد الذي يمكن معه عبورهما سيراً على الأقدام، وهو أمر لم يسبق أن شاهدوه في موسم الأمطار. وما يعزز من مشاعر الخوف، هو أن الأنباء الواردة عن سد الموصل الذي يقع بالقرب من منابع نهر دجلة القادم من الجارة التركية، قد انخفضت مناسيبه إلى نحو 30 في المائة، مقارنة بمثل هذه الأيام من العام الماضي، وكذلك الأمر بالنسبة لمناسيب نهر الفرات الذي يمر عبر الأراضي السورية إلى العراق.
في الموروث الشعبي العراقي، يردد الفلاحون مقولة إن «فلاح الصدور أفضل من ملاك البزايز»، ويقصدون بها أنك إن عملت فلاحاً على أرض تقع في مقدمة النهر، أفضل لك من أن تكون مالكاً للأرض في نهايته، بالنظر لأن المياه غالباً متوفرة في بدايته، ومن السهولة الحصول عليها خلافاً لنهاية النهر. غير أن حالة الجفاف التي تضرب البلاد ربما سيتساوى فيها فلاح المقدمة وملاك النهاية.
قبل سنوات قليلة، كان الحديث عن احتمالية جفاف نهر الفرات وتحول نهر دجلة إلى مجرد ساقية صغيرة في غضون عقدين، ضرباً من الخيال في نظر معظم العراقيين؛ لكن اليوم باتت كل الاحتمالات قائمة. وقد أكدت وزارة الموارد المائية ذلك قبل أيام، في حال «استمرت السياسات التركية بمنع حصة العراق، واستمر تراجع هطول الأمطار».
وكان تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (فاو) وبرنامج الأغذية العالمي، قد قال مطلع العام الماضي، إن «العراق من أكثر دول العالم تأثراً بتغير المناخ، ما يستدعي الحاجة إلى مواجهة تبعات الأزمة».
وذكر التقرير أن «تبعات تغير المناخ ستؤثر على الفئات الأشد فقراً، وسط تضاؤل الحيازات الزراعية للمزارعين».

يعتمد العراق في تأمين المياه أساساً على نهري دجلة والفرات، وروافدهما التي تنبع جميعها من تركيا وإيران، وتلتقي قرب مدينة البصرة جنوب العراق، لتشكل شط العرب الذي يصب في الخليج العربي؛ لكن المسؤولين في وزارة المواد المائية يؤكدون أن العراق خسر 70 في المائة من حصصه المائية، بسبب السياسات التي يمارسها كل من تركيا وإيران، وإلى حد ما سوريا.
وغالباً ما اشتكى العراق خلال السنوات الماضية من السياسات المائية التي تنتهجها تركيا وإيران حياله؛ خصوصاً بعد قيام أنقرة ببناء سدود كبيرة على منابع النهر، ومنها سد «إليسو»، وتتهم بغداد طهران بحرف مسار أكثر من 30 نهراً عن جريانها وصولاً إلى الأراضي العراقية. وخلال السنتين الأخيرتين، تعرضت مناطق شاسعة من أهوار جنوب البلاد إلى الجفاف والتصحر؛ ما دفع مئات الأسر التي تعيش على الزراعة وتربية الحيوانات هناك إلى النزوح إلى المدن ومناطق أخرى، بعد أن فقدت مزارعها وحيواناتها نتيجة الجفاف.
الجفاف والتصحر في العراق قضية متشعبة الرؤوس، وعلى الرغم من معرفة كثيرين بها، فضلاً عن أصحاب الاختصاص والجهات الرسمية، فإن الدولة، بنظر معظم المختصين، لم تقم منذ سنوات طويلة بما يكفي للتقليل من آثارها وتداعياتها.
- أسباب التصحر
عاملان أساسيان يقفان في مقدمة أبرز أسباب التصحر والجفاف في العراق: الأول يتمثل في قيام دولتي الجوار (تركيا وإيران) بإنشاء سدود على منابع الأنهار داخل أراضيهما وحرف مسارات بعضها، ما أسهم في ضياع النسبة الأكبر من حصة العراق المائية، وهذا من بين أكبر المآخذ التي تسجل على الحكومات العراقية المتتالية التي لم تتمكن من إقناع الدولتين أو إرغامهما على عدم التجاوز على حصص العراق، مع غياب أي اتفاقية جديدة تضمن مشاركة أنقرة وطهران الضرر مثلما يتشاطران الفائدة.
وثاني أبرز أسباب الجفاف والتصحر هو مسألة شحة الأمطار في مواسم الشتاء الأربعة الماضية، وهي شحة غير مسبوقة اضطرت معها السلطات الحكومية إلى استخدام مخزونها المائي في السدود لإيصال المياه لتغطية المواسم الزراعية الآخذة في التراجع، إذ انخفضت الأراضي المزروعة في الموسم الماضي إلى النصف، ويتوقع أن تمر البلاد بموسم مماثل هذا العام، ما يعرض البلاد إلى خطر النقص الغذائي.
سبب آخر أسهم بشكل فاعل في حالة الجفاف والتصحر التي تضرب البلاد، يعود إلى بقاء معظم وسائل الري على الأساليب البدائية والقديمة، ما يتسبب في هدر أكبر قدر من المياه، وهذا أيضاً من بين الانتقادات التي توجه للحكومات المتعاقبة التي أخفقت في بناء منظومات حديثة للري، ولم تسعَ إلى إدخال الطرق التكنولوجية الحديثة في الزراعة. وهناك أيضاً سبب التجاوزات الكبيرة التي يقوم بها كثيرون مع غياب الردع الكافي وقوة القانون، ومن بين تلك التجاوزات قيام الأشخاص النافذين بإنشاء بحيرات واسعة لتربية الأسماك.
وقبل أيام قال وزير الموارد المائية عون ذياب عبد الله، إن «في البلاد أكثر من ألفي بحيرة لتربية الأسماك غير مجازة رسمياً من الدولة، وبعض البحيرات تصل إلى نحو 400 كيلومتر مربع»، وما يترتب على ذلك من حاجتها لمورد مائي كبير على امتداد أيام السنة، وكذلك ما يترتب عليه من حرمان بقية الفلاحين من زراعة مئات الهكتارات.
- المبادرة الكبرى
الانتقادات الكثيرة التي توجَّه للحكومات والسلطات العراقية منذ سنوات نتيجة تقصيرها في إدارة ملف المياه والاهتمام بحالة الجفاف والتصحر التي تجتاح البلاد، دفعت حكومة رئيس الوزراء محمد السوداني إلى تدشين نوع من «الاستجابة المتأخرة» بعد أن قام، السبت، بافتتاح مؤتمر المناخ الأول في محافظة البصرة الجنوبية، وقال فيه إن «الحكومة ماضية في برنامجها الذي أولى معالجة تأثيرات التغيرات المناخية أهمية خاصة، وقد وضعت معالجات عدّة لتخفيف الآثار الاقتصادية والبيئية والاجتماعية التي ترافق التغيّر». وشدد على «أهمية متابعة كل ما يتعلق بتنفيذ الرؤية العراقية للعمل المناخي، وبصورة خاصة مشروعات الطاقة النظيفة والمتجددة، وجهود الحفاظ على حقوق العراق في مياه نهري دجلة والفرات». وأطلق السوداني ما وصفها بـ«مبادرة كبرى لزراعة 5 ملايين شجرة ونخلة في عموم محافظات العراق، يرافقها إطلاق دليل وطني للتشجير الحضري».
وكشف عن «تضرر أكثر من 7 ملايين مواطن، عانت مناطقهم الجفاف، ونزحوا بمئات الألوف لفقدانهم سبل عيشهم المعتمدة على الزراعة والصيد، وأكثر ما يُؤسف له الجفافُ الشديد الذي أصاب أهوارنا الجميلة».
ودعا السوداني «الدول الصديقة ومنظمات الأمم المتحدة كافة لدعم العراق في مواجهة آثار التغيرات المناخية، وكذلك ندعو الدول الأطراف في الاتفاقيات الدولية البيئية، لتعزيز بنود التعاون الدولي في الإدارة المشتركة لأحواض الأنهار العابرة للحدود، والحفاظ على حقوق الدول المتشاطئة».
- القلق الأممي
أما الممثلة الأممية في العراق جينين بلاسخارت، فقالت خلال كلمة في مؤتمر المناخ: «الحقيقة هي أن التحديات البيئية تشكل خطراً محدقاً. وغالباً ما يتم تجاهلها؛ بما أننا منشغلون بإدارة حياتنا اليومية. ولكن تغير المناخ هو في نهاية المطاف أحد أكبر التحديات العالمية التي نواجهها بشكل جماعي. وبالتالي، لا يمكننا تحمل أن يتشتت انتباهنا. إننا بحاجة إلى التركيز، ونحتاج إلى أن نظل يقظين».
وأعربت بلاسخارت عن أسفها لخسارة مساحات واسعة من المسطحات المائية في أهوار الجنوب، وهجرة عدد كبير من سكانها نتيجة الجفاف، ورأت أن «الحال كذلك بالنسبة لمناطق أخرى من البلاد. وصحيح أن جنوب العراق لا يزال المنطقة الأكثر تضرراً؛ لكن الجفاف ألحق أضراراً بالغة بالأنشطة الزراعية في الشمال، سلة الغذاء في العراق». وأضافت أن «ملوحة المياه والتربة والتصحر واختفاء الأراضي الزراعية ليست بأقل من مخاوف بيئية وجودية. وكما قلت، هنا في العراق، أزمة المياه أمر حقيقي». وتابعت: «اسمحوا لي أن أؤكد هنا: إن تغير المناخ وندرة المياه من العوامل التي تضاعف التهديد. وإذا تُركت دون معالجة، فإنها ستزيد من خطر الفقر وانعدام الأمن الغذائي وفقدان التنوع البيولوجي والنزوح والهجرة القسرية، وانعدام الاستقرار، والصراع. ولكي نكون واضحين: إن ذلك يحدث بالفعل. إن العراق معرض للخطر الشديد».
ورأت أن «المجتمعات الريفية والفئات الفقيرة أو المهمشة والأقليات وذوي الاحتياجات الخاصة والنساء والفتيات؛ هؤلاء هم الأشخاص الذين سيعانون أكثر من غيرهم؛ خصوصاً عندما تتداخل نقاط الضعف». وخلصت بلاسخارت إلى التأكيد على أن «التحديات البيئية التي تواجه العراق ليست جميعها محلية. فقد أشرت للتو إلى دول الجوار التي تخفض بصورة فعلية تدفق أنهار العراق. ما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يعني أن العراق لا يمكنه حل هذه التحديات وحده. ولا يمكن لأي دولة أن تفعل ذلك».
- الواقع البيئي
وفي موضوع ذي صلة بمؤتمر المناخ، أكدت مديرية بيئة محافظة البصرة، الاثنين، أن «المؤتمر سينتج برامج ومشروعات تخص الواقع البيئي في المحافظة التي تنتج ثلاثة أرباع النفط في البلاد، وتعاني مشكلات تلوث شديدة».
وقال مدير بيئة البصرة وليد الموسوي، لوكالة الأنباء الرسمية، إن «النهوض بالواقع البيئي للبلاد يحتاج إلى موازنات مالية، وهو ما تم رصده بالإيعاز من رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بالإضافة إلى المساهمات الكبيرة التي قُدمت من المنظمات الأممية ودول الاتحاد الأوروبي وممثلة الأمين العام للأمم المتحدة».
وأضاف أن «هذه المساهمات ستغير من الواقع البيئي في العراق، وقد يتم نصب محطات عملاقة لمعالجة مياه الصرف الصحي ومياه الشرب، وكذلك معالجة التربة من الألغام التقنية لوزارة النفط». وتابع الموسوي بأن «المشروعات ستكون على 3 مراحل (سريعة - متوسطة - طويلة الأمد)، وستظهر نتائج ملموسة لها بشكل سريع إذا تم العمل بجدية»، مؤكداً أن «المؤتمر سيكون بادرة خير لتغيير حقيقي بواقع البيئة في العراق».
وكشف عن أن «الوضع البيئي الحالي في العراق يعد متراجعاً على جميع الصعد، والبلاد تعاني بيئة هواء ملوثة، وشح مياه، ونوعية مياه ملوثة، بالإضافة إلى تربة ملوثة بأشكال عديدة من أنواع الملوثات، من بينها الألغام والانسكابات النفطية». ولفت الموسوي إلى أن «هناك انتهاكات بيئية من قبل القطاعين العام والخاص، وأن القطاع العام يسهم في تلوث البيئة بنسبة 90 في المائة». ومع تراجع الأمطار وارتفاع درجات الحرارة وازدياد التصحر، يعدّ العراق من الدول الخمس الأكثر عرضة للآثار السلبية للتغير المناخي في العالم، وفق الأمم المتحدة. ويعدّ ملف المياه أساسياً وشائكاً بالنسبة للبلد شبه الصحراوي الذي يبلغ عدد سكانه نحو 42 مليوناً. وسُجل في فبراير (شباط) تراجع في منسوب نهري دجلة والفرات في جنوب البلاد؛ خصوصاً بسبب قلة الإيرادات الواصلة من الجارة تركيا، وفق السلطات، وزيادة الاستهلاك المائي بما يتخطى المساحات المقررة من السلطات.
واتهمت بغداد مراراً جارتيها تركيا وإيران بالتسبب في خفض كميات المياه الواصلة إلى أراضيها، لا سيما بسبب بنائهما سدوداً على النهرين. وفي ديسمبر (كانون الأول) دعا البنك الدولي العراق، إلى اعتماد نموذج تنمية «أكثر اخضراراً ومراعاة للبيئة»؛ لمواجهة التحدي المناخي، وإلى «تحديث نظام الري» و«إعادة تأهيل السدود».
وكان خبير الأرصاد الجوية صادق عطية قد تحدث عن واقع غير مطمئن لوضع المياه في البلاد. وقال عطية في تدوينة عبر «فيسبوك» مطلع مارس الجاري: «حافظوا على ما هو متوفر من المياه، فموسم الصيف اللاهب والجاف قادم... إن شحة مياه نهري دجلة والفرات وجفاف أغلب روافدهما تنذر بموسم صيف هو الأشد جفافاً حسب المعطيات الحالية». وأضاف أن «ما تبقى من موسم الأمطار لن يكون كافياً ليغني المنسوب في النهرين أو في بحيرات الخزن والسدود».
- أجفّ شتاء يصيب «السلة الغذائية»
يراقب مزارعو وأبناء مناطق شمال شرقي سوريا السماء هذه الأيام التي تبدو خالية من الغيوم، علّها تجلب الخير لإنقاذ محاصيلهم العطشى ومواشيهم الجائعة. ويلقي الجفاف بظلاله هذا العام للسنة الثالثة على التوالي، مع انحسار المساحات الخضراء الصالحة للزراعة جراء انعدام سقوط الأمطار الكافية منذ أكثر من شهر. ويقول خبراء ومزارعون، إن «أجفّ» شتاء منذ بضعة عقود تشهده هذه المناطق الواقعة بين نهري الفرات ودجلة التي تعرف باسم «سلة سوريا الغذائية»، ترافق مع النقص الحاد في المصادر المائية وتراجع منسوب نهر الفرات، بعد استخدام تركيا هذا السلاح ضد «الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سوريا».
وبدرجات متشابهة، أصاب الجفاف مساحات شاسعة من الأراضي مع دخول المنطقة فصل الربيع، غير أن الأراضي المهددة بالجفاف تقدر بنحو ثلثي الأراضي الصالحة للزراعة. وقال المسؤول في الإدارة الذاتية، سلمان بارودو، الرئيس السابق لهيئة الاقتصاد لإقليم الجزيرة، في تصريح حصري لـ«الشرق الأوسط» من مدينة القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة: «إذا نظرنا إلى المائة سنة الفائتة، فلن نجد 3 أعوام متتالية من الجفاف تصيب سوريا عموماً ومناطق شمال شرقي البلاد خصوصاً».
وتبلغ نسبة المساحات المزروعة هذا العام من مادتي القمح والشعير على مستوى شمال شرقي سوريا، نحو 2.983.000 هكتار، منها 300.000 هكتار قمح مروية على الآبار الجوفية؛ لكن هذا الجفاف أضر بالفعل مساحات كبيرة من محاصيل الحبوب، حسب المزارع سكفان خليل (54 سنة) المتحدر من مدينة القامشلي، والذي يمتلك قطعة أرض زراعية تبلغ نحو 100 هكتار.
وقال في حديثه إن إنتاج محاصيل الحبوب آخذ في الانخفاض بسبب هذا الجفاف: «نعاني تأثراً كبيراً في تراجع مواسم القمح والشعير الذي انعكس سلباً على حياة كثير من المزارعين. حقيقةً سيضطر المزارعون خلال السنوات المقبلة إلى تقليص المساحات المزروعة أو تركها نهائياً».
وحذرَ المسؤول الكردي سلمان بارودو من تدهور القطاع الزراعي والاقتصادي والحيواني، حال عدم هطول الأمطار في الأيام العشرة المقبلة؛ ونقل قائلاً: «ستدخل المنطقة مرحلة الخطر؛ لأن المحاصيل البعلية هي الأكبر من ناحية الخطورة، لاعتمادها على الأمطار الشتوية. بالتالي سيهدد الجفاف أكثر من مليوني هكتار، وستخرج كاملة عن خطة الإنتاج»، حسب قوله. وحسب سكان المنطقة، فإن هذا الجفاف هو الأسوأ منذ عقود، والذي سيؤدي إلى تدمير المجتمعات الزراعية والثروة الحيوانية التي تعتمد عليها المناطق الشمالية الشرقية من سوريا. ويزرع معظم سكان محافظة الحسكة أراضيهم بعلاً تروى على الأمطار الموسمية؛ لكن هذا العام كانت شحيحة، وستؤثر سلباً على دورة الإنتاج في القطاع الزراعي، وعلى الثروة الحيوانية.
ويقول دلسوز (37 عاماً) وهو فلاح من ريف مدينة القامشلي الشرقي، ويعمل في قطعة أرض تقدر بنحو 20 هكتاراً، إنه حتى إذا هطلت الأمطار خلال شهر مارس (آذار) الحالي، وكامل شهر أبريل (نيسان) القادم: «فإن ذلك لن ينقذ محاصيل الحبوب البعلية؛ لأنها تعتمد بشكل رئيسي على استمرار الهطولات، فتأخير سقوط المطر أذبل محاصيل الحبوب من الشعير والقمح وحتى العدس، وستتحول علفاً للماشية».
ويقول مزارعون وخبراء إن المواسم الزراعية بالأعوام الماضية مرّت بمرحلة جفافٍ مشابهة، وقد أظهر مؤشر معدلات المطر لهذا العام أن المنطقة لم تشهد نقصاً في مياه الأمطار على هذا النحو منذ عام 1970 على الأقل، لتكون أسوأ سنة سجلت مستويات متدنية من سقوط الأمطار على الإطلاق، وهذه الكارثة ستنعكس سلباً على آلاف من العمال الذين يكسبون عيشهم من خلال العمل في المحاصيل الزراعية الموسمية، إضافة إلى سائقي الجرارات والحصادات الزراعية، على أمل أن تكون المساحات المروية على الآبار البحرية «طوق النجاة» لهذا لقطاع الزراعي بالمنطقة.
ويقول المزارع عبدو حمزة الذي يمتلك قطعة أرض زراعية في قريته تنورية، الواقعة بالجهة الشرقية من القامشلي، إن هذا العام كما الأعوام الماضية: «يذكرنا بسنوات الجفاف التي شهدتها سوريا والمنطقة قبل سنوات. آنذاك كان هناك قحط وجفاف، واليوم يتكرر السيناريو والحالة تماماً»، وعكف هذا المزارع كغيره من أبناء المنطقة عن زراعة أرضه التي تبلغ نحو 500 دونم (تعادل نحو 50 هكتاراً)، ويعزو السبب إلى تأخر هطول الأمطار، ليزيد: «العام الماضي خسرنا كثيراً في الموسم، كحال جميع أبناء المنطقة؛ لكن هذا العام تكاليف الزراعة ارتفعت 300 في المائة، وبالفعل الجفاف والقحط جلب خسارة أكبر بكثير من سابقاتها هذا العام».
ويعتمد إنتاج القمح في سوريا على مياه نهر الفرات والآبار الجوفية بنسبة 30 في المائة من إجمالي الإنتاج السنوي، وتتهم الإدارة الذاتية تركيا بعرقلة تدفق منسوب نهر الفرات الذي يغطي القسم الأكبر من أراضي مدينتي الرقة ودير الزور، شمال شرقي هذا البلد المنقسم الذي يشهد حروباً داخلية، إذ تستخدمه أنقرة كسلاح للضغط عليها، واتهمت دمشق أيضاً تركيا بحجز مياه نهر الفرات، وعدم الالتزام بالاتفاقية الموقعة في سنة 1987. ولمنع مزيد من الكوارث الاقتصادية والتصدي لآثار الجفاف، أكد سلمان بارودو أن الإدارة الذاتية قامت بتوجيه الفلاحين والمزارعين من أجل مواجهة حالة الجفاف: «بالاعتماد على نظم وطرق الري الحديثة، وترشيد استعمال واستهلاك المياه، بدلاً من إغراق الأراضي الزراعية بالمياه بشكل دوري للحفاظ على المياه الجوفية».
ويتوقع مسؤولو الإدارة ومزارعون أن مزيداً من دورات الجفاف ستصيب المنطقة، مصحوبة بتأخير الهطولات المطرية في فصل الشتاء، وهو ما سيلحق ضرراً كبيراً بالمحاصيل الزراعية ومنعها من النمو بشكل كامل. واتفق بارودو وجميع أصحاب الأراضي المشاركين في هذا التقرير على أن دورات التغير المناخي ستؤدي في الأعوام المقبلة إلى معدلات أمطار أقل؛ ودورات جفاف أكثر تكراراً.

غداً: الأردن يخشى على أمنه المائي ولبنان قلق من شح الأمطار


مقالات ذات صلة

الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

المشرق العربي الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

الأمم المتحدة تحث دول جوار العراق على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث

حثت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لدى العراق، جينين هينيس بلاسخارت، أمس (الخميس)، دول العالم، لا سيما تلك المجاورة للعراق، على مساعدته في حل مشكلة نقص المياه ومخاطر الجفاف والتلوث التي يواجهها. وخلال كلمة لها على هامش فعاليات «منتدى العراق» المنعقد في العاصمة العراقية بغداد، قالت بلاسخارت: «ينبغي إيجاد حل جذري لما تعانيه البيئة من تغيرات مناخية». وأضافت أنه «يتعين على الدول مساعدة العراق في إيجاد حل لتأمين حصته المائية ومعالجة النقص الحاصل في إيراداته»، مؤكدة على «ضرورة حفظ الأمن المائي للبلاد».

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي بارزاني: ملتزمون قرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل

بارزاني: ملتزمون قرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل

أكد رئيس إقليم كردستان العراق نيجرفان بارزاني، أمس الخميس، أن الإقليم ملتزم بقرار عدم وجود علاقات بين العراق وإسرائيل، مشيراً إلى أن العلاقات مع الحكومة المركزية في بغداد، في أفضل حالاتها، إلا أنه «يجب على بغداد حل مشكلة رواتب موظفي إقليم كردستان». وأوضح، في تصريحات بمنتدى «العراق من أجل الاستقرار والازدهار»، أمس الخميس، أن الاتفاق النفطي بين أربيل وبغداد «اتفاق جيد، ومطمئنون بأنه لا توجد عوائق سياسية في تنفيذ هذا الاتفاق، وهناك فريق فني موحد من الحكومة العراقية والإقليم لتنفيذ هذا الاتفاق».

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي رئيس الوزراء العراقي: علاقاتنا مع الدول العربية بلغت أفضل حالاتها

رئيس الوزراء العراقي: علاقاتنا مع الدول العربية بلغت أفضل حالاتها

أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني أن علاقات بلاده مع الدول العربية الشقيقة «وصلت إلى أفضل حالاتها من خلال الاحترام المتبادل واحترام سيادة الدولة العراقية»، مؤكداً أن «دور العراق اليوم أصبح رياديا في المنطقة». وشدد السوداني على ضرورة أن يكون للعراق «هوية صناعية» بمشاركة القطاع الخاص، وكذلك دعا الشركات النفطية إلى الإسراع في تنفيذ عقودها الموقعة. كلام السوداني جاء خلال نشاطين منفصلين له أمس (الأربعاء) الأول تمثل بلقائه ممثلي عدد من الشركات النفطية العاملة في العراق، والثاني في كلمة ألقاها خلال انطلاق فعالية مؤتمر الاستثمار المعدني والبتروكيماوي والأسمدة والإسمنت في بغداد.

حمزة مصطفى (بغداد)
المشرق العربي السوداني يؤكد استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»

السوداني يؤكد استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»

أكد رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني استعداد العراق لـ«مساندة شركائه الاقتصاديين»، داعياً الشركات النفطية الموقّعة على جولة التراخيص الخامسة مع العراق إلى «الإسراع في تنفيذ العقود الخاصة بها». جاء ذلك خلال لقاء السوداني، (الثلاثاء)، عدداً من ممثلي الشركات النفطية العالمية، واستعرض معهم مجمل التقدم الحاصل في قطاع الاستثمارات النفطية، وتطوّر الشراكة بين العراق والشركات العالمية الكبرى في هذا المجال. ووفق بيان صادر عن مكتب رئيس الوزراء، وجه السوداني الجهات المختصة بـ«تسهيل متطلبات عمل ملاكات الشركات، لناحية منح سمات الدخول، وتسريع التخليص الجمركي والتحاسب الضريبي»، مشدّداً على «ضرورة مراعا

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي مباحثات عراقية ـ إيطالية في مجال التعاون العسكري المشترك

مباحثات عراقية ـ إيطالية في مجال التعاون العسكري المشترك

بحث رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني مع وزير الدفاع الإيطالي غويدو كروسيتو العلاقات بين بغداد وروما في الميادين العسكرية والسياسية. وقال بيان للمكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي بعد استقباله الوزير الإيطالي، أمس، إن السوداني «أشاد بدور إيطاليا في مجال مكافحة الإرهاب، والقضاء على عصابات (داعش)، من خلال التحالف الدولي، ودورها في تدريب القوات الأمنية العراقية ضمن بعثة حلف شمال الأطلسي (الناتو)». وأشار السوداني إلى «العلاقة المتميزة بين العراق وإيطاليا من خلال التعاون الثنائي في مجالات متعددة، مؤكداً رغبة العراق للعمل ضمن هذه المسارات، بما يخدم المصالح المشتركة، وأمن المنطقة والعالم». وبي

حمزة مصطفى (بغداد)

أطفال لبنان عرضة للقتل والصدمات النفسية

طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)
طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)
TT

أطفال لبنان عرضة للقتل والصدمات النفسية

طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)
طفل يراقب ماذا يحصل حوله بينما تحاول عناصر أمنية طرد النازحين من فندق قديم بمنطقة الحمرا في بيروت (رويترز)

أصبح خبر مقتل أطفال في لبنان بشكل يومي في غارات تنفذها إسرائيل بحجة أنها تستهدف عناصر ومقرات وأماكن وجود «حزب الله»، خبراً عادياً يمر مرور الكرام، حتى بعد تحذير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) من أن أكثر من ثلاثة أطفال يقتلون يومياً، ومن أن أكثر من 200 طفل قُتلوا في لبنان، في غضون شهرين نتيجة الحرب المستمرة منذ شهر سبتمبر (أيلول) الماضي.

وتتعاطى إسرائيل مع مقتل الأطفال والمدنيين على أنه «خسائر جانبية»، فتراها في حال حصلت على معلومات عن وجود شخصية معينة من «حزب الله»، في مبنى معين، تُقدم على نسف المبنى كله، غير آبهة بالمدنيين والأطفال الموجودين فيه.

اضطرابات نفسية

وفي مواقف أدلى بها مؤخراً، استهجن المتحدث باسم «اليونيسف»، جيمس إلدر، من أنه «رغم مقتل أكثر من 200 طفل في لبنان في أقل من شهرين، فإن اتجاهاً مقلقاً يبرز ويظهر أنه يجري التعامل دون مبالاة مع هذه الوفيات من جانب هؤلاء القادرين على وقف هذا العنف».

وبحسب المنظمة الدولية فإن «مئات الآلاف من الأطفال أصبحوا بلا مأوى في لبنان، كما أن علامات الاضطراب النفسي أصبحت مقلقة وواضحة بشكل متزايد».

وتشير الدكتورة باسكال مراد، اختصاصية علم النفس والاجتماع، إلى أن «مغادرة مئات الآلاف من الأطفال منازلهم، وتهجير وتشريد قسم كبير منهم؛ يجعلهم يفتقدون للأمان. كما أن فقدانهم أفراداً من عائلاتهم أمام أعينهم، ومعايشتهم الخطر والدمار والقتل اليومي؛ يترك لا شك تداعيات نفسية كبيرة عليهم يفترض الالتفات لمعالجتها بأقرب وقت».

رجل يخلي طفله من مكان قريب من موقع استهداف إسرائيلي لمنطقة رأس النبع في بيروت (رويترز)

وتشدد باسكال مراد في تصريح لـ«الشرق الأوسط» على أن «من أبرز التحديات عند الأطفال راهناً هي تعليمهم كيفية إدارة انفعالاتهم الصعبة، مثل الخوف والقلق والغضب. فهذه الإدارة إذا لم تتحقق، فسيعاني الأطفال في المستقبل من مشاكل نفسية إذا لم تعالج الصدمات التي يعايشونها»، لافتة إلى أنه «لا يجب أن ننسى أيضاً الآثار الصحية للحرب على الأطفال، خصوصاً التلوث الناتج عن التفجيرات والأسلحة المستعملة، إضافة إلى أنهم سيكونون أكثر عرضة للأمراض والفيروسات في مراكز الإيواء».

ويعاني آلاف النازحين الموجودون في مراكز الإيواء، والعدد الأكبر منهم من الأطفال، من البرد وغياب مستلزمات التدفئة مع حلول فصل الشتاء، كما يفتقرون للملابس الملائمة بعد هربهم من منازلهم من دون التمكن من جمع أغراضهم.

التعليم بطعم الحرب

كما أنه رغم الخطة التي وضعتها وزارة التربية بدعم من «اليونيسف» لإعادة نحو 387 ألف طفل في لبنان تدريجياً إلى 326 مدرسة رسمية، لم يتم استخدامها لإيواء النازحين ابتداء من مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، فإن العام الدراسي لا يسير بشكل طبيعي عند كل طلاب لبنان، بحيث يدرس قسم كبير منهم على وقع الغارات وخرق الطيران الإسرائيلي لجدار الصوت في كل المحافظات كما يجري التدريس على وقع هدير الطائرات المسيرة التي تملأ الأجواء اللبنانية.

وتقول إحدى معلمات صفوف الروضة في مدرسة تقع بمنطقة الحازمية المتاخمة للضاحية الجنوبية لبيروت، التي تتعرض لقصف دائم: «نقول للأطفال إن دوي الانفجارات هو صوت رعد نتيجة حلول فصل الشتاء، ونعمد لوضع أغانٍ تهدئ من روعهم. القسم الأكبر منهم اعتاد الوضع، في حين بعضهم الآخر يجهش بالبكاء كل مرة».

وتشير المعلمة الأربعينية في تصريح لـ«الشرق الأوسط»: «المشكلة الأكبر نواجهها مع الأهالي الذين يتهافتون عند كل غارة لسحب أبنائهم من الصفوف، ما يجعل الوضع التعليمي غير طبيعي على الإطلاق».

وتشدد الناشطة السياسية والدكتورة في علم النفس بالجامعة اللبنانية في بيروت، منى فياض، على أنه «أياً كانت الظروف، لا يمكن وقف التعليم ويفترض على وزارة التربية أن تؤمن التعليم للجميع حتى ولو في خيم».

وعدّت في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «بعض التلاميذ الذين لا يستطيعون التوجه إلى المدرسة نتيجة الحرب لا شك سيتأثرون نفسياً إذا رأوا تلاميذ آخرين يداومون بشكل يومي، لكن هذه التأثيرات محصورة بأعمار كبيرة معينة بحيث سيشعر هؤلاء بعقدة نقص وإهمال، وانعدام العناية، لكن الخطورة الحقيقية هي على مستقبل الأجيال، ففي العالم العربي نحو 75 مليون أمّي نتيجة الحروب واللجوء، وكل حرب جديدة ترفع الأعداد مئات الآلاف. من هنا الخطورة على مستقبل العالم العربي ومستقبل لبنان الذي كانت لديه نسبة كبيرة من المتعلمين منتشرة في كل أنحاء العالم بمستويات وخبرات ممتازة».

أطفال فروا من القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان يحضرون ورشة رسم داخل أحد مراكز الإيواء في بيروت (أ.ف.ب)

وتتحدث منى فياض عن «خشية حقيقية من أن يؤدي التسرب المدرسي إلى الانحراف»، مشددة على وجوب القيام بـ«حملات على المؤثرين للضغط والتصدي لسيناريو مثل هذا، وتأمين التعليم للجميع أياً كانت الظروف القائمة».