أسئلة «اليونيسكو» الملهِمة في عالم قد تغيَّر!

كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
TT

أسئلة «اليونيسكو» الملهِمة في عالم قد تغيَّر!

كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)

سؤال واحد على الأقل من أسئلة «اليونيسكو» الاستراتيجية، مرشَّح لأن تجيب عنه «دول الجنوب العالمي» في الأيام القادمة، هو: من نحن؟ لأنه قد يحدد مدى إسهام القوى الناهضة في صياغة نظام عالمي تعددي.
وتعد منظمة «اليونيسكو» أحد روافد الفكر الجوفي المحرك للسياسة العالمية، التي برهنت على صحة مقولة لوي ألتوسير بأن «أغلب المعارك الفكرية هي صراعات سياسية داخل الفكر».

(1)
أسئلة «اليونيسكو» ترتبط عادةً بتحديات سياسية وتحولات تاريخية كبرى تتطلب استجابة فعّالة من المثقفين والمبدعين. وعقب نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 1990، طرحت المنظمة سؤالين محددين على المثقفين في الغرب: مَن نحن؟ وما الذي لا نعرفه؟ في محاولة للتفكير في وجهٍ جديدٍ للقارة الأوروبية القديمة، التي ظلت أراضيها مقسَّمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في الفترة (1945 – 1989).
وامتدت إسهامات المثقفين وتشعبت لتشمل «النظام العالمي الجديد» ما بعد الثنائية القطبية، حيث ارتفعت الآمال إلى عنان السماء طيلة العقد الأخير من القرن العشرين، مع تقارب الخصوم السابقين، وفتح الحدود وظهور مجموعة جديدة من الدول المستقلة على الخريطة.
واستجاب الفيلسوف ريتشارد رورتي لدعوة «اليونيسكو» ونشر مقالاً مهماً في مجلة «ديوجين» العدد (173 – 117)، تحت عنوان: «مَن نحن؟ أو من نكون؟ عالمية أخلاقية وخدع اقتصادية».
ورأى أن السؤال «مَن نحن؟» هو سؤال سياسي بالدرجة الأولى؛ والإجابة عن «مَن؟» هي: محاولة لتشكيل أو إعادة تشكيل «هوية أخلاقية» في المقام الأول، بمعنى:
كيف يجب أن ينظم البشر أنفسهم في مدينة عالمية كبرى، وهذه العالمية تقترح أساساً علمياً أو ميتافيزيقياً لسياسة عولمية؟
وبهذا المعنى فإن السؤال «مَن نحن؟»، يتوجه نحو المستقبل، ليس التماساً لنبوءة، بل استلهام لمشروع أو خطة لهذا المستقبل الذي نحاول أن نبنيه معاً.
علي الجانب الآخر بلور المنظّر الاستراتيجي جوزيف ناي، مفهوم «القوة الناعمة» (1990 – 2004) كنهج غير قسري في العلاقات الخارجية يناسب البيئة التوافقية الجديدة، ورأى أن سلطة الدولة لا تكمن فقط في مواردها العسكرية والاقتصادية، وإنما في قدرتها على تغيير سلوك الدول الأخرى عن طريق الجذب والإقناع.
وهكذا أصبح مفهوم القوة الناعمة من أهم المفاهيم التي تسمح لنا بتصور إمكانات الثقافة من الناحية السياسية والدولية، حيث أسهم –ولا يزال- في تطوير ثلاثة مجالات أساسية، شديدة التشابك والتمايز في آن معاً: الدبلوماسية الثقافية، والعلاقات الثقافية، والتعاون الفكري.

(2)
أقرب تعريف للثقافة يسلط الضوء على أسئلة «اليونيسكو» من الداخل، جاء في كتاب وارد جودنف المعنون «الثقافة، اللغة، والمجتمع»، يقول: «الثقافة ليست ظاهرة مادية؛ إذ هي ليست جملة أشياء أو بشر أو سلوك أو عواطف، وإنما هي كل ذلك. إنها صور الأشياء التي في عقول البشر، وهي أنماطهم في إدراك الأشياء وعلاقاتها، وتأويلاتهم لهذه الأشياء».
ميزة هذا التعريف أنه: يشمل دور المعتقدات والتمثيلات الذهنية الجماعية في السياسة، بالإضافة إلى تحليل الممارسات والأشياء والمنتجات التي تجسدها الثقافة، من فنون شعبية وإنتاج أدبي وفني وفكري، ومسابقات الإبداع والجمال والرياضة إلى السلع الرمزية، إضافةً إلى الصور الذهنية التي تكوّنها الدول بعضها عن بعض، وتأثير «المشاعر» في السياسة.
علاوة على ذلك، يسمح أيضاً بالتمييز بين المجالات الأساسية الثلاثة للقوة الناعمة، كما هو متعارف عليها اليوم: «التعاون الفكري» الذي يختلف عن الدبلوماسية الثقافية والعلاقات الثقافية في كونه ذا طبيعة «حيادية» خاصة، رغم أنه لا يتعارض مع المجالين الآخرين.
في المقابل نجد أن الخلط يحدث غالباً بين «الدبلوماسية الثقافية» و«العلاقات الثقافية» نظراً للتشابه اللغوي بينهما، لكن بتحليل الأهداف نجد أنه في عام 2018 حدد «المجلس الثقافي البريطاني» ومعهد «جوته» الألماني «العلاقات الثقافية» بأنها: التفاعلات المتبادلة العابرة للحدود الوطنية بين ثقافتين أو أكثر، وتهدف إلى زيادة التواصل والتفاهم وتعزيز الحوار، وهي تنمو بشكل طبيعي دون تدخل مباشر من الحكومات.
أما «الدبلوماسية الثقافية» فهي تهتم بـ«المصلحة الذاتية»، حيث تسعى الدولة إلى توجيه الثقافة لتعزيز مصالحها الوطنية في المقام الأول.
وعلى ذلك، فإن المجالين يختلفان في الأهداف: التفاهم المتبادل مقابل المصلحة الذاتية، وإن كانت «الدبلوماسية الثقافية» هي الأداة الأقوى للقوة الناعمة، لأنها ترتبط مباشرةً بتعزيز ثقافة الدولة وتثمين دورها في الخارج من خلال تصدير الثقافة.

(3)
الاختلاف بين أسئلة «اليونيسكو» أمس وما سيكون، يتمثل في ثلاثة اتجاهات أيضاً: الأول، أن القرن الحادي والعشرين أصبح عصر التفاعلات الدبلوماسية، ووسائل التواصل الاجتماعي القادرة على نقل المعلومات والأفكار عبر العالم في ثوانٍ أو أقل، حيث يمتلك الأفراد والجماعات (وليست الدول وحدها) القدرة على التأثير في الرأي العام وتغييره.
والاتجاه الثاني، تغيُّر مفهوم الجغرافيا – السياسية (أفقياً) مع صعود قوى الجنوب العالمي، التي ستصبح بحلول عام 2050 أكثر تأثيراً على الساحة العالمية (سياسياً واقتصاديًا، وثقافياً أيضاً). ورغم أن هذا الصعود لن يُلغي دور الغرب، فإنه سيزاحم بالضرورة أي قوة أخرى.
والاتجاه الثالث، أننا أمام أول حدث عالمي كبير بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، يضرب مفهوم القوة الناعمة في الصميم، وهو الحرب الروسية - الأوكرانية التي لا نعلم متى أو في أي اتجاه ستنتهي، ناهيك بتداعياتها السلبية على العلاقات الدولية! فالمسكوت عنه في هذه الحرب: أنها صراع على «الهيمنة الثقافية» أيضاً!
لقد أصبح مفهوم «القوة الناعمة» في السياسة الدولية أمام «اختبار صعب» وتحديات غير مسبوقة منذ العام 2022، لكن في كل تحدٍّ جديد «فرصة جديدة» أمامنا -أو هكذا علينا أن نكون- خصوصاً أن قضايا القوة الناعمة ما زالت من اختصاص خلايا التفكير الغربي، ولم نُولِها الأهمية المناسبة التي تستكشف مفترق الطرق بين التعاون الفكري والدبلوماسية الثقافية والعلاقات الثقافية، ناهيك بكيفية توظيفها.
صحيح أن لدينا تجربتين رائدتين –على الأقل- في عالمنا العربي، الأولى مع الدكتور بطرس غالي في مصر والأخرى مع الدكتور غازي القصيبي في السعودية، وهما أول من مارس بمهارة فكرة «الباب الدوّار» أي أن يتنقل المثقف والباحث الأكاديمي باستمرار ما بين دوائر صنع القرار والمناصب السياسية وبين مراكز الأبحاث وخلايا التفكير طيلة الوقت، مثلما يحدث في الولايات المتحدة والدول المتقدمة. لكن يبدو أننا سنواجَه على المدى المنظور بالسؤال نفسه الذي طرحته منظمة «اليونيسكو» سابقاً: مَن نحن؟ ما يتطلب أن الاستعداد للإجابة عنه (في إطار دول الجنوب العالمي)، وهو مشروع ثقافي ضخم أكثر من كونه مجرد سؤال عابر.
التحدي القادم الذي سيواجهنا يتمثل في هذا القدر من التنوع والتعدد الهائل والاختلاف الثقافي والديني (واللا ديني) والعِرقي والإثني لدول الجنوب العالمي، والذي قد يكون «ميزة كبرى» وسبباً قوياً للثراء والتضامن الإنساني والتقدم، يطرح نموذجاً عالمياً مبدعاً يستوعب كل ما هو آخَر (في اختلافه)؛ من الصين حتى البرازيل والمكسيك مروراً بالدول العربية والإسلامية والأفريقية، أو العكس قد يجهض –قبل أن يبدأ- كل محاولة لبناء جسور التواصل والتضامن في نصف الكرة الجنوبي، وعندئذ نكون أمام معضلة تصادم ثقافي كبرى، لم نحسب حسابها مبكراً.

(4)
في نهاية كتاب هنري كيسنجر عن الصين، أورد شذرة ذهبية للفيلسوف إيمانويل كانط مقتبَسة من مقاله «السلام الدائم»، مفادها: «إن السلام الدائم سيأتي في نهاية المطاف إلى العالم بإحدى طريقتين: بصيرة الإنسان الثاقبة، أو الصراعات والكوارث التي لم تترك للبشرية خياراً آخر». فما الذي يمكن أن نسهم به نحو نظام عالمي أفضل؟
هذه بعض الأفكار التي تقبل التعديل والتطوير والحذف:
أولاً- أن تتبنى دول الجنوب فكرة «العالمية «من منظور عالمي»! خصوصاً أنه في ظل «نظام عالمي تعددي» لن تتمحور دول العالم حول الغرب (فحسب)، ناهيك بأن الغرب لم يعد هو الفاعل الوحيد المخوّل بتشكيل المعايير التي يتم من خلالها «ضبط» النظام العالمي.
ثانياً- تقديم دول الجنوب رؤية أكثر توازناً لتوزيع القوة العالمية، وأن تبرهن عبر هوياتها وثقافاتها وإبداعاتها المتعددة، على أن التحديث والتغريب ليسا مترادفين بالضرورة.
ثالثاً- تطوير فهم خاص «للقوة الناعمة» التي تَستخدم الإقناع في السياسة الخارجية، والتي تعتمد جاذبيتها على ثقافة الدولة ومبادئها السياسية (على سبيل المثال يشير الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر –الذي أتم عامه الـ98- في مذكراته «إلى تميز حكام المملكة العربية السعودية –دون غيرهم- بالأمانة في وعودهم والصدق في علاقاتهم الدولية، فما يقولونه في الغرف المغلقة هو هو ما يصرحون به في العلن).
رابعاً- تحويل القوة الخشنة إلى قوة ناعمة كلما أمكن ذلك، عبر الدبلوماسية الثقافية، والشرعية الدولية معاً، ذلك أن «جعْلَ الناس يفهمون أفكارك هو أمان أكبر بكثير من غواصة أخرى»، كما يقول ويليام فولبرايت، مؤسس برنامج التبادل الدولي.
خامساً- إذا كانت القوة الناعمة هي واحدة من أكثر الأدوات فاعلية، رغم الانتكاسة التي تعرضت لها منذ العام 2022، فإن توافق دول الجنوب العالمي -منذ الآن فصاعداً- على صيغة: «العمل مع آخرين وليس على حساب الآخرين» سيجعل العالم أكثر أمناً وسلاماً، عملاً بنصيحة كانط.
* باحث مصري



ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟