أسئلة «اليونيسكو» الملهِمة في عالم قد تغيَّر!

كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
TT

أسئلة «اليونيسكو» الملهِمة في عالم قد تغيَّر!

كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)
كيف يمكن جعل العالم أكثر أمناً؟ (أ.ف.ب)

سؤال واحد على الأقل من أسئلة «اليونيسكو» الاستراتيجية، مرشَّح لأن تجيب عنه «دول الجنوب العالمي» في الأيام القادمة، هو: من نحن؟ لأنه قد يحدد مدى إسهام القوى الناهضة في صياغة نظام عالمي تعددي.
وتعد منظمة «اليونيسكو» أحد روافد الفكر الجوفي المحرك للسياسة العالمية، التي برهنت على صحة مقولة لوي ألتوسير بأن «أغلب المعارك الفكرية هي صراعات سياسية داخل الفكر».

(1)
أسئلة «اليونيسكو» ترتبط عادةً بتحديات سياسية وتحولات تاريخية كبرى تتطلب استجابة فعّالة من المثقفين والمبدعين. وعقب نهاية الحرب الباردة وإعادة توحيد ألمانيا في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 1990، طرحت المنظمة سؤالين محددين على المثقفين في الغرب: مَن نحن؟ وما الذي لا نعرفه؟ في محاولة للتفكير في وجهٍ جديدٍ للقارة الأوروبية القديمة، التي ظلت أراضيها مقسَّمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق في الفترة (1945 – 1989).
وامتدت إسهامات المثقفين وتشعبت لتشمل «النظام العالمي الجديد» ما بعد الثنائية القطبية، حيث ارتفعت الآمال إلى عنان السماء طيلة العقد الأخير من القرن العشرين، مع تقارب الخصوم السابقين، وفتح الحدود وظهور مجموعة جديدة من الدول المستقلة على الخريطة.
واستجاب الفيلسوف ريتشارد رورتي لدعوة «اليونيسكو» ونشر مقالاً مهماً في مجلة «ديوجين» العدد (173 – 117)، تحت عنوان: «مَن نحن؟ أو من نكون؟ عالمية أخلاقية وخدع اقتصادية».
ورأى أن السؤال «مَن نحن؟» هو سؤال سياسي بالدرجة الأولى؛ والإجابة عن «مَن؟» هي: محاولة لتشكيل أو إعادة تشكيل «هوية أخلاقية» في المقام الأول، بمعنى:
كيف يجب أن ينظم البشر أنفسهم في مدينة عالمية كبرى، وهذه العالمية تقترح أساساً علمياً أو ميتافيزيقياً لسياسة عولمية؟
وبهذا المعنى فإن السؤال «مَن نحن؟»، يتوجه نحو المستقبل، ليس التماساً لنبوءة، بل استلهام لمشروع أو خطة لهذا المستقبل الذي نحاول أن نبنيه معاً.
علي الجانب الآخر بلور المنظّر الاستراتيجي جوزيف ناي، مفهوم «القوة الناعمة» (1990 – 2004) كنهج غير قسري في العلاقات الخارجية يناسب البيئة التوافقية الجديدة، ورأى أن سلطة الدولة لا تكمن فقط في مواردها العسكرية والاقتصادية، وإنما في قدرتها على تغيير سلوك الدول الأخرى عن طريق الجذب والإقناع.
وهكذا أصبح مفهوم القوة الناعمة من أهم المفاهيم التي تسمح لنا بتصور إمكانات الثقافة من الناحية السياسية والدولية، حيث أسهم –ولا يزال- في تطوير ثلاثة مجالات أساسية، شديدة التشابك والتمايز في آن معاً: الدبلوماسية الثقافية، والعلاقات الثقافية، والتعاون الفكري.

(2)
أقرب تعريف للثقافة يسلط الضوء على أسئلة «اليونيسكو» من الداخل، جاء في كتاب وارد جودنف المعنون «الثقافة، اللغة، والمجتمع»، يقول: «الثقافة ليست ظاهرة مادية؛ إذ هي ليست جملة أشياء أو بشر أو سلوك أو عواطف، وإنما هي كل ذلك. إنها صور الأشياء التي في عقول البشر، وهي أنماطهم في إدراك الأشياء وعلاقاتها، وتأويلاتهم لهذه الأشياء».
ميزة هذا التعريف أنه: يشمل دور المعتقدات والتمثيلات الذهنية الجماعية في السياسة، بالإضافة إلى تحليل الممارسات والأشياء والمنتجات التي تجسدها الثقافة، من فنون شعبية وإنتاج أدبي وفني وفكري، ومسابقات الإبداع والجمال والرياضة إلى السلع الرمزية، إضافةً إلى الصور الذهنية التي تكوّنها الدول بعضها عن بعض، وتأثير «المشاعر» في السياسة.
علاوة على ذلك، يسمح أيضاً بالتمييز بين المجالات الأساسية الثلاثة للقوة الناعمة، كما هو متعارف عليها اليوم: «التعاون الفكري» الذي يختلف عن الدبلوماسية الثقافية والعلاقات الثقافية في كونه ذا طبيعة «حيادية» خاصة، رغم أنه لا يتعارض مع المجالين الآخرين.
في المقابل نجد أن الخلط يحدث غالباً بين «الدبلوماسية الثقافية» و«العلاقات الثقافية» نظراً للتشابه اللغوي بينهما، لكن بتحليل الأهداف نجد أنه في عام 2018 حدد «المجلس الثقافي البريطاني» ومعهد «جوته» الألماني «العلاقات الثقافية» بأنها: التفاعلات المتبادلة العابرة للحدود الوطنية بين ثقافتين أو أكثر، وتهدف إلى زيادة التواصل والتفاهم وتعزيز الحوار، وهي تنمو بشكل طبيعي دون تدخل مباشر من الحكومات.
أما «الدبلوماسية الثقافية» فهي تهتم بـ«المصلحة الذاتية»، حيث تسعى الدولة إلى توجيه الثقافة لتعزيز مصالحها الوطنية في المقام الأول.
وعلى ذلك، فإن المجالين يختلفان في الأهداف: التفاهم المتبادل مقابل المصلحة الذاتية، وإن كانت «الدبلوماسية الثقافية» هي الأداة الأقوى للقوة الناعمة، لأنها ترتبط مباشرةً بتعزيز ثقافة الدولة وتثمين دورها في الخارج من خلال تصدير الثقافة.

(3)
الاختلاف بين أسئلة «اليونيسكو» أمس وما سيكون، يتمثل في ثلاثة اتجاهات أيضاً: الأول، أن القرن الحادي والعشرين أصبح عصر التفاعلات الدبلوماسية، ووسائل التواصل الاجتماعي القادرة على نقل المعلومات والأفكار عبر العالم في ثوانٍ أو أقل، حيث يمتلك الأفراد والجماعات (وليست الدول وحدها) القدرة على التأثير في الرأي العام وتغييره.
والاتجاه الثاني، تغيُّر مفهوم الجغرافيا – السياسية (أفقياً) مع صعود قوى الجنوب العالمي، التي ستصبح بحلول عام 2050 أكثر تأثيراً على الساحة العالمية (سياسياً واقتصاديًا، وثقافياً أيضاً). ورغم أن هذا الصعود لن يُلغي دور الغرب، فإنه سيزاحم بالضرورة أي قوة أخرى.
والاتجاه الثالث، أننا أمام أول حدث عالمي كبير بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، يضرب مفهوم القوة الناعمة في الصميم، وهو الحرب الروسية - الأوكرانية التي لا نعلم متى أو في أي اتجاه ستنتهي، ناهيك بتداعياتها السلبية على العلاقات الدولية! فالمسكوت عنه في هذه الحرب: أنها صراع على «الهيمنة الثقافية» أيضاً!
لقد أصبح مفهوم «القوة الناعمة» في السياسة الدولية أمام «اختبار صعب» وتحديات غير مسبوقة منذ العام 2022، لكن في كل تحدٍّ جديد «فرصة جديدة» أمامنا -أو هكذا علينا أن نكون- خصوصاً أن قضايا القوة الناعمة ما زالت من اختصاص خلايا التفكير الغربي، ولم نُولِها الأهمية المناسبة التي تستكشف مفترق الطرق بين التعاون الفكري والدبلوماسية الثقافية والعلاقات الثقافية، ناهيك بكيفية توظيفها.
صحيح أن لدينا تجربتين رائدتين –على الأقل- في عالمنا العربي، الأولى مع الدكتور بطرس غالي في مصر والأخرى مع الدكتور غازي القصيبي في السعودية، وهما أول من مارس بمهارة فكرة «الباب الدوّار» أي أن يتنقل المثقف والباحث الأكاديمي باستمرار ما بين دوائر صنع القرار والمناصب السياسية وبين مراكز الأبحاث وخلايا التفكير طيلة الوقت، مثلما يحدث في الولايات المتحدة والدول المتقدمة. لكن يبدو أننا سنواجَه على المدى المنظور بالسؤال نفسه الذي طرحته منظمة «اليونيسكو» سابقاً: مَن نحن؟ ما يتطلب أن الاستعداد للإجابة عنه (في إطار دول الجنوب العالمي)، وهو مشروع ثقافي ضخم أكثر من كونه مجرد سؤال عابر.
التحدي القادم الذي سيواجهنا يتمثل في هذا القدر من التنوع والتعدد الهائل والاختلاف الثقافي والديني (واللا ديني) والعِرقي والإثني لدول الجنوب العالمي، والذي قد يكون «ميزة كبرى» وسبباً قوياً للثراء والتضامن الإنساني والتقدم، يطرح نموذجاً عالمياً مبدعاً يستوعب كل ما هو آخَر (في اختلافه)؛ من الصين حتى البرازيل والمكسيك مروراً بالدول العربية والإسلامية والأفريقية، أو العكس قد يجهض –قبل أن يبدأ- كل محاولة لبناء جسور التواصل والتضامن في نصف الكرة الجنوبي، وعندئذ نكون أمام معضلة تصادم ثقافي كبرى، لم نحسب حسابها مبكراً.

(4)
في نهاية كتاب هنري كيسنجر عن الصين، أورد شذرة ذهبية للفيلسوف إيمانويل كانط مقتبَسة من مقاله «السلام الدائم»، مفادها: «إن السلام الدائم سيأتي في نهاية المطاف إلى العالم بإحدى طريقتين: بصيرة الإنسان الثاقبة، أو الصراعات والكوارث التي لم تترك للبشرية خياراً آخر». فما الذي يمكن أن نسهم به نحو نظام عالمي أفضل؟
هذه بعض الأفكار التي تقبل التعديل والتطوير والحذف:
أولاً- أن تتبنى دول الجنوب فكرة «العالمية «من منظور عالمي»! خصوصاً أنه في ظل «نظام عالمي تعددي» لن تتمحور دول العالم حول الغرب (فحسب)، ناهيك بأن الغرب لم يعد هو الفاعل الوحيد المخوّل بتشكيل المعايير التي يتم من خلالها «ضبط» النظام العالمي.
ثانياً- تقديم دول الجنوب رؤية أكثر توازناً لتوزيع القوة العالمية، وأن تبرهن عبر هوياتها وثقافاتها وإبداعاتها المتعددة، على أن التحديث والتغريب ليسا مترادفين بالضرورة.
ثالثاً- تطوير فهم خاص «للقوة الناعمة» التي تَستخدم الإقناع في السياسة الخارجية، والتي تعتمد جاذبيتها على ثقافة الدولة ومبادئها السياسية (على سبيل المثال يشير الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر –الذي أتم عامه الـ98- في مذكراته «إلى تميز حكام المملكة العربية السعودية –دون غيرهم- بالأمانة في وعودهم والصدق في علاقاتهم الدولية، فما يقولونه في الغرف المغلقة هو هو ما يصرحون به في العلن).
رابعاً- تحويل القوة الخشنة إلى قوة ناعمة كلما أمكن ذلك، عبر الدبلوماسية الثقافية، والشرعية الدولية معاً، ذلك أن «جعْلَ الناس يفهمون أفكارك هو أمان أكبر بكثير من غواصة أخرى»، كما يقول ويليام فولبرايت، مؤسس برنامج التبادل الدولي.
خامساً- إذا كانت القوة الناعمة هي واحدة من أكثر الأدوات فاعلية، رغم الانتكاسة التي تعرضت لها منذ العام 2022، فإن توافق دول الجنوب العالمي -منذ الآن فصاعداً- على صيغة: «العمل مع آخرين وليس على حساب الآخرين» سيجعل العالم أكثر أمناً وسلاماً، عملاً بنصيحة كانط.
* باحث مصري



مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
TT

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)

أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.

وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.

أزمات ومعارك

أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».

ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.

وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.

وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.

ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.

حشد من الأتراك يحتفلون وسط إسطنبول فوق دبابة هجرها ضباط من الجيش بعد محاولة انقلاب فاشلة في 16 يوليو 2016 (غيتي)

مواجهة أخيرة

كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.

ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.

صعود اقتصادي وتقلبات سياسية

استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.

ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.

وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... ربع قرن عاصف بالتحولات (غيتي)

بين الكرد والقوميين

جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.

الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.

وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.

وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.

وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».

وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.

إردوغان (يمين) ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في ديار بكر جنوب تركيا نوفمبر 2013 (غيتي)

ألغاز السياسة الخارجية

ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.

وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.

واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.

وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند سبتمبر 2022 (أ.ف.ب)

هواجس المستقبل

الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».

يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.

كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.