عالم رياضيات بين مهندسين... وروائي بين علماء

عبور الجسور الممكنة بين جُزُر المعرفة

كورماك مكارثي (في الاطار)  -    نوربرت فاينر
كورماك مكارثي (في الاطار) - نوربرت فاينر
TT

عالم رياضيات بين مهندسين... وروائي بين علماء

كورماك مكارثي (في الاطار)  -    نوربرت فاينر
كورماك مكارثي (في الاطار) - نوربرت فاينر

قد يتساءل كثيرون – وأنا واحدة منهم -: لماذا لم نعُدْ نشهدُ عقولاً موسوعية جبارة في عالمنا المعاصر كتلك التي نقرأ عن تواريخها في الأدبيات المنشورة؟ لماذا لمْ نعُدْ نشهدُ شخصياتٍ من طراز ليوناردو دافنشي أو لايبنتز أو سواهما ممن يصلحون لأن يكونوا أمثلة معيارية عن إنسان عصر التنوير؟
سيكون الجواب بالتأكيد مراوغاً ومعقّداً لأنه لا بد أن يكون حفراً عنيداً في طبيعة السيكولوجيا البشرية وطبيعة النظم السياسية والاقتصادية والفكرية والفلسفية السائدة في عصر ما؛ لكن ثمّة سؤالاً بسيطاً في شكله، رغم كونه شديد التعقيد في تبعاته، يمكن أن يثير دهشتنا: لماذا نتوقّعُ أن يكون دافنشي المعاصر أو لايبنتز المعاصر شبيهاً بنظيره السابق؟ هذا السؤال يستبطنُ رأياً مفاده وجود شخصيات مماثلة لإنسان عصر النهضة والتنوير؛ لكنّ محاكمة هذه الشخصيات على قياسات نظائر سابقة لها تبدو عملية يشوبها الكثير من الخطل والقصور الفكري. عصرنا هو غير عصر النهضة، والقوانين الحاكمة فيه تختلف نوعياً عن القوانين السائدة في العصور السابقة، وسيكون من الطبيعي أن تختلف مخرجات عصرنا الفكرية عن مخرجات العصور السابقة له.
إذن، ثمة ليوناردو دافنشي ولايبنتز معاصران، وإذا كان موسوعيو المعرفة المعاصرون (الذين يسمّى الواحد منهم Polymath) يختلفون عن سابقيهم بمديات المعرفة وطبيعة اشتغالاتهم – وهو أمرٌ متوقّعٌ بسبب التفجّر المعلوماتي غير المسبوق في عصرنا الحالي – فإنّ الخيط الجامع بين السابقين واللاحقين هو الاشتغال المعرفي متعدّد الجبهات، والشغف الفكري والفلسفي غير المحدود. لكن رغم هذا التوصيف العام، فإنّ فَرقاً جوهرياً يمكن تشخيصه بينهم: كان موسوعيو المعرفة السابقون يمتلكون القدرة على ابتداع معارف جديدة فضلاً عن حيازة مقادير ضخمة من المعرفة الموسوعية في مناشط إنسانية متعدّدة؛ أما الميزة المعاصرة لموسوعيي المعرفة فهي القدرة الفائقة على ربط المعارف فيما بينها وإيجاد مناطق مشتبكة بينها.
يوجد العديد من موسوعيي المعرفة المعاصرين. سأختارُ الحديث في الفقرات التالية عن نموذجين منهم: الأوّل عالم رياضيات، والآخر روائي. الخصيصة المهمّة في حياة كلّ منهما هي أنهما أمضيا شطراً كبيراً من حياتيهما يعملان في عالم قد يبدو مختلفاً عن طبيعة عالميهما المهنيين.
المثال الأوّل هو نوربرت فاينر Norbert Wiener (تُلفظُ فاينر على الطريقة الألمانية)، بروفسور الرياضيات الذي قضى معظم حياته في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT، هذا المعهد الأميركي الضارب في الشهرة والذي يعدُّ مطبخاً لصناعة الأفكار الثورية الجديدة في التقنية والعلم.
قادني بحثي الغوغلي منذ عقد تقريباً إلى مفردة كانت تتردّدُ كثيراً في قراءاتي المختلفة – تلك هي مفردة السايبرنيتيكا Cybernetics مع كلّ الاشتقاقات اللغوية الناجمة عنها: عالم سايبيرنيتيكي، مجتمع سايبيرنيتيكي،،، (قد يفضّلُ البعض مفردة السبرانية التي تبدو ألطف وقعاً على الأذن العربية). أعجبتني المفردة فعزمتُ على الاستزادة من القراءة والبحث فيها، وكان من الطبيعي أن يقودني البحث إلى نوربرت فاينر الذي كتب عام 1948 كتاباً عنوانه «السايبيرنيتيكا: السيطرة والاتصال في الحيوان والآلة»
Cybernetics: Control and Communication in the Animal and the Machine
وسرعان ما صار هذا الكتاب أحد الكلاسيكيات الرفيعة في ميدان العلم والتقنية. قد يبدو الكتاب غارقاً في التقنية والهندسة، وهو ما يشيرُ إليه عنوانه؛ لكن مهلاً! علينا دوماً ألا نحاكم الكتاب (وأي كتاب آخر) من عنوانه. تمهّل واقرأ شيئاً من الكتاب أو في أقلّ تقدير شيئاً من المراجعات المكتوبة عنه. هذا بعضُ أهمية مراجعات الكتب التي تعدُّ فناً عظيم الأهمية.
يوصفُ فاينر بأنه رياضياتي فيلسوف رؤيوي، وكتابه عن السايبيرنيتيكا حافلٌ بالمعادلات الرياضياتية التي لا يعرف أصولها كثيرون؛ لكن من الممكن الاكتفاء بقراءة الأجزاء غير التقنية. هذا ممكن، ولعلّ عنوان الفصل الأول من الكتاب وهو (الزمن النيوتني والزمن البرغسوني) يشي بالثراء الفلسفي للمادة التي يتعامل معها فاينر.
كتب فاينر العديد من الكتب التقنية المتخصصة وكذلك تلك الموجّهة لعامة القرّاء، منها مثلاً كتاب «الاستخدام الإنساني للكائنات البشرية: السايبيرنيتيكا والمجتمع» الذي رأى فيه مَقْدَمَ عصر الروبوتات والأتمتة، وتناول موضوعات خطيرة تنمُّ عن عقل رؤيوي متقدّم.

كان فاينر أستاذ رياضيات جامعياً. كان يمكنُ أن يلقي محاضراته الجامعية على طلبته ثمّ يتقاعد بعد ثلاثين أو أربعين سنة من التدريس الجامعي؛ لكنه كان أبعد ما يكون عن هذا المثال. عمل فاينر في التدريس الجامعي؛ لكنه كان مدرّساً غير تقليدي، وتروي الكتب التي تناولت سيرته قصصاً وحكايات شديدة الطرافة عن هذه الجزئية من حياته. فضلاً عن التدريس والرياضيات أبدى فاينر رغبة لا تقاومُ في العمل على موضوعات هندسية مثّلت مُعضلات خطيرة، وحقّق فيها نجاحات باهرة.
ثمّة كتابٌ حديث نُشِر أواخر عام 2022، عنوانه «نوربرت فاينر: عالم رياضيات بين مهندسين»
Norbert Wiener: A Mathematician among Engineers
يحكي عن هذه الجزئية من حياة فاينر الزاخرة بالإشكاليات والمعارك الفكرية الناجمة عن عقله الموسوعي وطريقة أبيه المتشددة في تنشئته.
المثال الثاني على موسوعيي المعرفة المعاصرين هو الروائي وكاتب السيناريوهات السينمائية كورماك مكارثي Cormac McCarthy.
لعشرين سنة خلت أو ما يقارب ذلك كان المكان الأكثر احتمالاً لأن تجد فيه كورماك مكارثي Cormac McCarthy - الروائي – الكاتب المسرحي – كاتب السيناريو، الخَجِلُ من الأضواء الإعلامية – هو معهد سانتافي Santa Fe Institute في نيومكسيكو الأميركية. تأسّس ذلك المعهد عام 1984بمشاركة موراي غيلمان Murray Gell - mann، الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1969. وهذا المعهد هو أقربُ لنموذج مركز لصناعة الأفكار Thinktank التي هي في النهاية نتاجُ أفضل العقول الخلاقة في عالمنا المعاصر. وصف غيلمان، الفيزيائي متعدّد المواهب والإمكانات Polymath صديقه مكارثي بأنه أحد تلك العقول الخلاقة؛ وهذا ما دفع مكارثي للانضمام إلى معهد سانتافي.
يصف ريتشارد بي. وودوورد، أحد أصدقاء مكارثي الخُلّص، صديقه في مقالة حديثة كتبها في «الغارديان» بقوله
«حتى أوقات قريبة من يومنا هذا كان يمكن سماعُ الكاتب مكارثي في معهد سانتافي وهو يُحدِثُ جَلَبَة لا ينقطع ضوضاؤها عندما تنقرُ أصابعه على مفاتيح الآلة الكاتبة وهو قابعٌ في مكتبه. ظلّ مكارثي شخصاً لطيفاً دمث المعشر وسط هذه الجمهرة من المجتمع النخبوي، من غير أن تُعهد إليه مهمات محدّدة مطلوب إنجازها بتوقيتات محدّدة. كنتَ ترى مكارثي يغادر مكتبه بانتظام لتناول شاي العصر أو حضور مناقشات أساتذة معهد سانتافي المقيمين فيه أو الأكاديميين الزائرين، وكانت تلك المناقشات تتناول موضوعات شتى من الصنف الذي يرغب فيه مكارثي ويجده مثيراً لتفكيره، مثل: نظرية النظم المعقّدة Complex Systems Theory أو الحوسبة الكمومية Quantum Computing».
المواد القرائية التي تتطلبُ عنتاً وجهداً ومثابرة حازمة هي المواد التي لطالما فضّل مكارثي قراءتها من أزمان بعيدة. الكتب المحفوظة في رفوف مكتبه في معهد سانتافي لا تحوي – كما قد يتوقّع معظمنا – روايات فائزة بجوائز البوكر؛ بل تضمُّ بدلاً منها مخطوطات لكتب أصدقائه العلماء، ومنهم: ليزا راندال Lisa Randall، الفيزيائية النظرية في هارفرد، ولورنس كراوس Lawrence Krauss، المشتغل بالكوسمولوجيا (علم نشأة الكون وتطوّره) في جامعة ولاية أريزونا.
أبهج مكارثي نفسه على مدى العشرين سنة الماضية بأن «يكون قريباً من بعض أكثر البشر ذكاءً على هذا الكوكب» في معهد سانتافي. عام 2009، وكبادرة تنمّ عن دعم مكارثي لرسالة المعهد وشعوره بالامتنان لأصدقائه في هذا المعهد لقبولهم مكوثه الطويل فيه، تبرّع مكارثي للمعهد بالقيمة الكاملة لآلته الكاتبة اليدوية التي بيعت في مزاد كريستي بمبلغ 254.500 دولاراً.
لا يتعب مكارثي أبداً – وهو الحكّاء الذي لا يملّ من مطاردة الحكايات - من متابعة المناشط العقلية التي تمارسها العقول العظيمة في عالمنا، وبخاصة فيزيائيو القرن العشرين على شاكلة روبرت أوبنهايمر Robert Oppenheimer وريتشارد فاينمان Richard Feynman، والاثنان من الفيزيائيين الذين عملوا في مشروع لوس آلاموس لتطوير القنبلة الذرية.
السنوات التي قضاها مكارثي مقيماً في معهد سانتافي ألهمته الكثير من التأملات بشأن المسارات التي كان من المحتمل أن تتخذها حياته لاحقاً. وصف مكارثي تجربته في معهد سانتافي بقوله «كان ثمة الكثير من الأمور التي أستطيع فعلها. توفّر لي فهم جيّد لما كان يدور في أروقة المعهد من نقاشات فكرية وتقنية ذات مستوى عالٍ؛ لكن دعني أصدق القول بأنني لا أجد نفسي عالماً. لا أفكّر كما يفعل العلماء. كان يمكن أن أصبح فيزيائياً؛ لكن ليس فيزيائياً ذا شهرة عالمية. كلّ ما أردته هو أن أفعل أي شيء بطريقة جيدة بغضّ النظر عمّا يكون ذلك الشيء».
يمكن لنا أن نتعلّم الكثير من أمثال تجربة العيش في مناطق معرفية مشتبكة بدلاً من الانكفاء في زاوية بعيدة. ليس الأمر يسيراً بالتأكيد أو نزهة ذهنية ناعمة؛ لكنّ الشغف العقلي المدعوم بإرادة قوية يمكنُ أن يوفّر لنا القدرة على اجتياز الموانع الوهمية التي تفصلُ بين جزر المعرفة المتناثرة.
فلنجرّب أن نعبر الجسور الممكنة بين تلك الجزر ونتطلّع لعالم فريد من الممكنات المخبوءة الساحرة، وهذا بعضُ ما يفعله موسوعيو المعرفة المعاصرون.


مقالات ذات صلة

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

ثقافة وفنون «فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

«فلسفة هيوم»... زيارة جديدة لأحد أهم مفكري القرن الثامن عشر

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «فلسفة هيوم: بين الشك والاعتقاد» الذي ألفه الباحث والأكاديمي المصري د. محمد فتحي الشنيطي عام 1956

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد
TT

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

فرويد
فرويد

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء. واسم العالم الإيطالي غاليليو؟ سرعة سقوط الأجسام واكتشاف أقمار كوكب المشترى وذلك باستخدام تلسكوب بدائي. واسم العالم الإنجليزي إسحق نيوتن؟ قانون الحركة. واسم عالم التاريخ الطبيعي الإنجليزي تشارلز دارون؟ نظرية التطور وأصل الأنواع عن طريق الانتخاب الطبيعي. واسم عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد؟ نظرية التحليل النفسي ودراسة اللاشعور. نحن إذن نعرف هؤلاء الرجال من خلال اكتشافاتهم أو اختراعاتهم العلمية. ولكن كيف كانوا في حياتهم الشخصية؟ ما الجوانب البشرية، بكل قوتها وضعفها، في شخصياتهم؟ أسئلة يجيب عنها كتاب صادر في 2024 عن دار نشر «بلومز برى كونتنام» في لندن عنوانه الكامل: «رسائل من أجل العصور: علماء عظماء. رسائل شخصية من أعظم العقول في العلم».

Letters for the Ages: Great Scientists. Personal Letters from the Greatest Minds in Science.

غلاف الكتاب

أشرف على تحرير الكتاب جيمز دريك James Drake، ويقع في 275 صفحة ويمتد من «الثورة الكوبرنطيقية» إلى نظرية «الانفجار الكبير» التي تحاول تفسير أصل الكون. أي من عالم الفلك البولندي نيقولا كوبرنيكوس في القرن السادس عشر، وقد أحدث ثورة علمية بإثباته أن الشمس تقع في مركز النظام الشمسي وأن الأرض وسائر الكواكب تدور حولها، وصولاً إلى عالم الطبيعة الإنجليزي ستيفن هوكنغ في القرن العشرين ونظرياته عن الدقائق الأولى من عمر الكون والانفجار الكبير والثقوب السوداء.

الكتاب مقسم إلى عشرة فصول تحمل هذه العناوين: الإلهام، النظرية، التجريب، المنافسة، الاختراق، الابتكار، خارج المعمل، العلم والدولة، العلم والمجتمع، على مائدة التشريح.

تسجل هذه الرسائل الصداقات والمنافسات التي حفلت بها حياة هؤلاء العلماء، دراما النجاح والإخفاق، ومضات الإلهام والشك، وكيف حققوا منجزاتهم العلمية: اللقاحات الطبية ضد الأوبئة والأمراض، اختراع التليفون، محركات السيارات والقطارات والطائرات، الأشعة السينية التي تخترق البدن، إلخ... وتكشف الرسائل عن سعي هؤلاء العلماء إلى فهم ظواهر الكون ورغبتهم المحرقة في المعرفة والاكتشاف والابتكار وما لاقوه في غمرة عملهم من صعوبات وإخفاقات وإحباطات، ولحظة الانتصار التي تعوض كل معاناة، ومعنى البحث عن الحقيقة.

مدام كيوري

إنهم رجال غيروا العالم أو بالأحرى غيروا فكرتنا عنه، إذ أحلوا الحقائق محل الأوهام وشقوا الطريق إلى مزيد من الاقتحامات الفكرية والوجدانية.

هذه رسالة من غاليليو إلى كبلر الفلكي الألماني (مؤرخة في 19 أغسطس 1610) وفيها يشكو غاليليو من تجاهل الناس – بمن فيهم العلماء - لنظرياته على الرغم من الأدلة التي قدمها على صحتها: «في بيزا وفلورنسا وبولونيا والبندقية وبادوا رأى كثيرون الكواكب ولكن الجميع يلزم الصمت حول المسألة ولا يستطيع أن يحزم أمره لأن العدد الأكبر لا يعترف بأن المشترى أو المريخ أو القمر كواكب. وأظن يا عزيزي كبلر أننا سنضحك من الغباء غير العادي للجموع. حقاً كما أن الثعابين تغمض أعينها فإن هؤلاء الرجال يغمضون أعينهم عن نور الحقيقة».

آينشتاين

وفي مطلع القرن العشرين أجرت ميري كوري – بالاشتراك مع زوجها جوليو كوري - أبحاثاً مهمة عن عنصر الراديوم. وقد كتب لها آينشتاين في 1911 يشد من عزمها ويعلن وقوفه بجانبها في وجه حملات ظالمة كانت قد تعرضت لها: «السيدة كوري التي أكن لها تقديراً عالياً... إنني مدفوع إلى أن أخبرك بمدى إعجابي بعقلك ونشاطك وأمانتك، وأعد نفسي محظوظاً إذ تعرفت على شخصك في بروكسل».

وفي أثناء الحرب العالمية الثانية كتب عالم الطبيعة الدنماركي نيلز بور إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل (22 مايو 1944) عن التقدم الذي أحرزه بور وزملاؤه في صنع السلاح النووي: «الحق إن ما كان يمكن أن يعد منذ سنوات قليلة ماضية حلماً مغرقاً في الخيال قد غدا الآن يتحقق في معامل كبرى ومصانع إنتاج ضخمة بنيت سراً في أكثر بقاع الولايات المتحدة عزلة».

يونغ

وتبين الرسائل أن هؤلاء العلماء – على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم - كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة. فعالم الرياضيات الإنجليزي إسحق نيوتن، مثلاً، دخل في خصومة مريرة مع معاصره الفيلسوف الألماني لايبنتز حول: أيهما الأسبق إلى وضع قواعد حساب التفاضل والتكامل؟ وظل كل منهما حتى نهاية حياته يأبى أن يعترف للآخر بالسبق في هذا المجال.

وسيغموند فرويد دخل في مساجلة مع كارل غوستاف يونغ تلميذه السابق الذي اختلف معه فيما بعد وانشق على تعاليمه. وآذنت الرسائل المتبادلة بين هذين العالمين بقطع كل صلة شخصية بينهما. كتب يونغ إلى فرويد في 18 ديسمبر (كانوا الأول) 1912: «عزيزي البروفيسور فرويد: أود أن أوضح أن أسلوبك في معاملة تلاميذك كما لو كانوا مرضى خطأ. فأنت على هذا النحو تنتج إما أبناء أرقاء أو جراء (كلاباً صغيرة) وقحة. ليتك تتخلص من عقدك وتكف عن لعب دور الأب لأبنائك. وبدلاً من أن تبحث باستمرار عن نقاط ضعفهم، ليتك على سبيل التغيير تمعن النظر في نقاط ضعفك أنت».

تبين الرسائل أن هؤلاء العلماء ـــ على كل عظمتهم في ميادين تخصصهم ــ كانوا بشراً يخضعون لما يخضع له سائر البشر من عواطف الحب والكراهية والغيرة

وقد رد عليه فرويد من فيينا بخطاب مؤرخ في 3 يناير (كانوا الثاني) 1913 قال فيه: «عزيزي الدكتور: إن زعمك أنني أعامل أتباعي كما لو كانوا مرضى زعم غير صادق على نحو جليّ. وأنا أقترح أن ننهي أي صلات شخصية بيننا كلية. ولن أخسر شيئاً بذلك».

ما الذي تقوله لنا هذه الرسائل بصرف النظر عن الخصومات الشخصية العارضة؟ إنها تقول إن العلم جهد جماعي وبناء يرتفع حجراً فوق حجر فآينشتاين لم يهدم نيوتن وإنما مضى باكتشافاته شوطاً أبعد في مجالات المكان والزمان والجاذبية.

إن العلم ثقافة كونية عابرة للحدود والقوميات والأديان، والعلماء بحاجة دائمة إلى صحبة فكرية والحوار مع الأقران وإلى زمالة عقلية وتبادل للآراء والنظريات والاحتمالات. والعالم الحق يعترف بفضل من سبقوه. فنيوتن الذي رأيناه يخاصم لايبنتز يقر في سياق آخر بدينه لأسلافه إذ يقول في رسالة إلى روبرت هوك – عالم إنجليزي آخر – نحو عام 1675: «إذا كنت قد أبصرت أبعد مما أبصره غيري فذلك لأنني كنت أقف على أكتاف عمالقة» (يعني العلماء الذين سبقوه). وفى موضع آخر يقول – وهو العبقري الذي وضع قوانين الحركة والجاذبية - ما معناه: «لست أكثر من طفل جالس أمام محيط المعرفة الواسع يلهو ببضع حصى ملونة رماها الموج على الشاطئ».