«ذا وايل»... جسد حوت وقلب عصفور

برندان فرايزر يقدّم أحد أدوار العمر ولا يتعثّر بوزنه الزائد

الممثل برندان فرايزر بطل فيلم «الحوت»
الممثل برندان فرايزر بطل فيلم «الحوت»
TT

«ذا وايل»... جسد حوت وقلب عصفور

الممثل برندان فرايزر بطل فيلم «الحوت»
الممثل برندان فرايزر بطل فيلم «الحوت»

كحوتٍ عالقٍ في أحشاء حوت، يغرق تشارلي في بدانته الظاهرة وكآبته الباطنة. لا تتخطّى أحداث قصته عتبة بيته المعتم، لكنه مهما حاول التخفّي وراء الظلال، فإنّ بدانته المفرطة تجعله يحتلّ المكان وعين المُشاهد.
في فيلم «ذا وايل» (The Whale)، أي الحوت، ينقل المخرج الأميركي دارن أرونوفسكي إلى الشاشة الكبيرة مسرحية سامويل هانتر. يُخلص للإطار المسرحي فيوحّد المكان، لتدور أحداث الفيلم كلها داخل منزل تشارلي، الذي يؤدي دوره ببراعة استثنائية الممثل الأميركي العائد إلى الضوء بعد غياب، برندان فرايزر، المستحق ترشيحاً إلى جوائز الأوسكار عن دوره الخارق.
إلى الخشبة، تدخل شخصيات عدة ثم تخرج. وحدَه تشارلي ثابتٌ على «كنبته». إن حاول النهوض تَعثّر، وإذا أكل اختنق بالطعام. يلهث ويتعرّق من دون توقّف، يعجز عن القيام بأبسط المهمات اليومية، بسبب وزنه الزائد. لم تتراكم الكيلوغرامات في جسده بلا سبب، ففي ما يشبه الانتقام من الذات ومعاقبتها يلتهم بشراهة مرَضيّة الدجاج المقلي والسكاكر والسندوتشات الدسمة والبيتزا، غير مكترث بضغط دمه المرتفع، ولا بمرض القلب الذي يهدد حياته.

تحت الشحوم المتدلّية، قلبٌ من ذهب
يوم انتحر حبيبه المصاب بالأنوريكسيا (فقدان الشهية العصابي)، انقلبت حياة تشارلي، فصار رهين البيت والطعام غير الصحي. لكن تحت تلك الطبقات الهائلة والمتدلّية من اللحم والشحوم، تخبّئ الشخصية الحزينة قلباً من ذهب ينضح حباً للمحيطين بها؛ من شقيقة الحبيب المتوفّى (ليز)، مروراً بالابنة من زواج سابق (إيللي)، والطليقة الحانقة (ماري)، وليس انتهاءً بالعصفور الذي يزور يومياً نافذته فيجد صحناً من الفاكهة أُعدّ له بعناية. تلك النافذة بمثابة صلة الضوء الوحيدة بين تشارلي والخارج. ومن باب البيت الذي يُفتح لزوّاره المعدودين، يدخل بعض الهواء وزخّات المطر الهاطل من دون توقف.
قرر تشارلي العيش في الخفاء والعزلة، مخبئاً حقيقة حجمه وجرحه عن تلاميذه؛ فأستاذ الكتابة الأدبية يطفئ الكاميرا كلما كانت لديه حصة تعليم عن بُعد. تظهر وجوه طلّابه على جهاز الكومبيوتر ضمن نوافذ مضاءة، أما هو فمجرّد نافذة سوداء تتوسط الشاشة. بصوته الدافئ يسحرهم، وبتحريضه إياهم على الإبداع والصدق. يهجس برواية «موبي ديك» ليس لأن بطلها «حوت» مثله، بل لكثير من التشابه بين حكايته وتفاصيل تلك الرواية.


في تشارلي ذي الحجم الهائل المثير للذعر أحياناً، جمال إنساني فائق؛ هو الوالد المحبّ لابنته والمتفهّم لقسوتها وحقدها عليه. وهو الإنسان اللطيف مع الغرباء، كما مع الشاب توماس الذي يطرق بابه بهدف التبشير الديني. في شخصه نبلٌ كبير يرتجي حب الآخرين واهتمامهم لكنه لا يتوسّله. حتى عاملُ توصيل البيتزا يلاقي منه اللطف، مع أنهما يتواصلان حصراً من خلف الباب الموصد.
وحدها ليز، الصديقة والممرضة، تخدم تشارلي وتداويه من دون مقابل ولا مصلحة ظاهرة. تؤدي الدور الممثلة هونغ تشاو، وهي كذلك استحقت ترشيحاً إلى الأوسكار. تلتفّ حول «الحوت» كسترة نجاة، تنقذه من الاختناق ومن النوبات القلبية. تحثّه على تلقّي العلاج لكنه يرفض؛ فهو اختار الانتحار البطيء، كما فعل شقيقها الذي أرغمه والده على الزواج، بينما كان مغرماً بتشارلي. أما الغريب في الأمر؛ فهو أن ليز التي تسترجع عبر تشارلي بعضاً من أخيها، تجلب له بيدها الوجبات السريعة ولا تمنعه من التهامها. تناوله الدواء بيد، وباليد الأخرى تدسّ السم في جسده.
كل الشخصيات التي تسبح في محيط تشارلي ترمي له فُتات الحب، لكنها لا تنجح في إنقاذه من الغرق. تأتيه ابنته «إيللي» بعد سنوات من القطيعة تسبب بها طلاقه لأمها وتفضيله لعلاقته العاطفية مع صديقه. تنهال عليه بعبارات الكُره والأسئلة المذلّة، أما هو فيحاول إرضاءها بكتابة فروضها المدرسية ومنحها كل ما يملك من مال. ورغم تصرّفاتها الغريبة التي تصفها أمها بـ«الشيطانية»، يلين قلب إيللي تدريجياً، بفعل الحب الذي يحترفه والدها.


جزء من فريق عمل فيلم The Whale في مهرجان البندقية (رويترز)
فرايزر العائد... بثقل
مع أن مظهر تشارلي قد يتسبب بالنفور للوهلة الأولى، ومع أنه اختار العزلة والابتعاد عن الناس، فإن ناسَه يصرّون على العودة إليه. وكأن حكايته تقول إن البشر، مهما قسوا، فإنهم لا يستطيعون عدم الاكتراث ولا يتجرّدون بشكل كامل من إنسانيتهم. غير أن الفيلم لا ينجح في الحفاظ على ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين التعاطف الصادق مع تشارلي والشفقة عليه، والنظر إليه بفضول المتفرّج على حوتٍ ضخم يتخبّط في حوض زجاجيّ.
كان يجب أن يبدو وزن تشارلي أكثر من 270 كيلوغراماً. وقد استلزم الأمر عملاً شاقاً على الشكل من قبل فريق الماكياج، بقيادة خبير التجميل والماكياج السينمائي أدريان مورو، صُنع رداء من مادة السيليكون جرى نحته بالوسائط الرقمية والتقنيات ثلاثية الأبعاد. أما قبل التصوير، فكان 5 أشخاص يتفرّغون لإلباس فرايزر، في عملية كانت تستغرق 4 ساعات، بعد أسابيع من التدريب. وقد استحق الفيلم بذلك ترشيحاً ثالثاً إلى الأوسكار عن فئة الماكياج.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by A24 (@a24)

ملتحفاً شخصية تشارلي ووزنه قلباً وقالباً، يعود الممثل برندان فرايزر بثقل إلى الساحة السينمائية الهوليوودية. هو المُبعد منذ سنوات بسبب إصابات خلال التصوير واتهامات بالتحرّش الجنسي جعلت من عودته دليلاً جديداً على أنه ممثل من الطراز الرفيع. وكما حصد تشارلي تعاطف المشاهدين، فإن فرايزر فاز بذهول الجمهور وتصفيق النقّاد، في ما يشبه الصفح عن هفوات الماضي والتعويض عن سنوات الغياب. يبقى أن يتوّج الأداء المبهر الذي خطف من الفيلم تفاصيله الأخرى وبعض هفواته «أوسكار أفضل ممثل في دور رئيسي».


مقالات ذات صلة

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

يوميات الشرق معابد الأقصر تحتضن آثار الحضارة القديمة (مكتبة الإسكندرية)

«تسجيلي» مصري يوثّق تاريخ الأقصر «أقوى عواصم العالم القديم»

لم تكن قوة الأقصر ماديةً فحسب، إنما امتدّت إلى أهلها الذين تميّزوا بشخصيتهم المستقلّة ومهاراتهم العسكرية الفريدة، فقد لعبوا دوراً محورياً في توحيد البلاد.

محمد الكفراوي (القاهرة )
يوميات الشرق مشهد من الفيلم السعودي «ثقوب» (القاهرة السينمائي)

المخرج السعودي عبد المحسن الضبعان: تُرعبني فكرة «العنف المكبوت»

تدور الأحداث حول «راكان» الذي خرج إلى العالم بعد فترة قضاها في السجن على خلفية تورّطه في قضية مرتبطة بالتطرُّف الديني، ليحاول بدء حياة جديدة.

أحمد عدلي (القاهرة )
سينما  مندوب الليل (آسيا وورلد فيلم فيستيڤال)

«مندوب الليل» لعلي الكلثمي يفوز في لوس أنجليس

في حين ينشغل الوسط السينمائي بـ«مهرجان القاهرة» وما قدّمه وما نتج عنه من جوائز أو أثمر عنه من نتائج وملاحظات خرج مهرجان «آسيا وورلد فيلم فيستيڤال» بمفاجأة رائعة

محمد رُضا‬ (القاهرة)
سينما دياماند بوعبّود وبلال حموي في «أرزة» (مهرجان أفلام آسيا الدولي)

شاشة الناقد: فيلمان من لبنان

أرزة هي دياماند بو عبّود. امرأة تصنع الفطائر في بيتها حيث تعيش مع ابنها كينان (بلال الحموي) وشقيقتها (بَيتي توتَل). تعمل أرزة بجهد لتأمين نفقات الحياة.

محمد رُضا (لندن)
يوميات الشرق الفنان المصري أحمد زكي قدم أدواراً متنوعة (أرشيفية)

مصر تقترب من عرض مقتنيات أحمد زكي

أعلن وزير الثقافة المصري الدكتور أحمد فؤاد هنو عن عرض مقتنيات الفنان المصري الراحل أحمد زكي، ضمن سيناريو العرض الخاص بمركز ثروت ‏عكاشة لتوثيق التراث.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
TT

تجميد الجثث أملاً في إحيائها مستقبلاً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي

إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)
إميل كيندزورا أحد مؤسسي شركة «توموروو بايوستيتس» (على اليمين) داخل مركز تخزين الجثث في سويسرا (أ.ف.ب)

قررت بيكا زيغلر البالغة 24 عاماً، تجميد جثتها في برّاد بعد وفاتها عن طريق مختبر في برلين، على أمل محدود بإعادة إحيائها مستقبلاً.

وقّعت هذه المرأة الأميركية التي تعيش وتعمل في العاصمة الألمانية، عقداً مع شركة «توموروو بايوستيتس» الناشئة المتخصصة في حفظ الموتى في درجات حرارة منخفضة جداً لإعادة إحيائهم في حال توصّل التقدم العلمي إلى ذلك يوماً ما.

وعندما تتوفى زيغلر، سيضع فريق من الأطباء جثتها في حوض من النيتروجين السائل عند حرارة 196 درجة مئوية تحت الصفر، ثم ينقلون الكبسولة إلى مركز في سويسرا.

وتقول زيغلر، وهي مديرة لقسم المنتجات في إحدى شركات التكنولوجيا في كاليفورنيا، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «بشكل عام، أحب الحياة ولدي فضول لمعرفة كيف سيبدو عالمنا في المستقبل».

ولم يعد علم حفظ الجسم بالتبريد الذي ظهر في ستينات القرن العشرين، مقتصراً على أصحاب الملايين أو الخيال العلمي كما ظهر في فيلم «ذي إمباير سترايكس باك» الذي تم فيه تجميد هان سولو، وفيلم «هايبرنيتس» حين يعود رجل تحرر من الجليد القطبي، إلى الحياة.

توفّر شركات في الولايات المتحدة هذه الخدمة أصلاً، ويُقدّر عدد الأشخاص الذي وُضعت جثثهم في التبريد الأبدي بـ500 فرد.

50 يورو شهرياً

تأسست «توموروو بايوستيتس» عام 2020 في برلين، وهي الشركة الأولى من نوعها في أوروبا.

وفي حديث إلى «وكالة الصحافة الفرنسية»، يقول إميل كيندزورا، أحد مؤسسي الشركة، إن أحد أهدافها «هو خفض التكاليف حتى يصبح تبريد الجثة في متناول الجميع».

إميل كيندزورا أحد مؤسسي «توموروو بايوستيتس» يقف داخل إحدى سيارات الإسعاف التابعة للشركة خارج مقرها في برلين (أ.ف.ب)

ولقاء مبلغ شهري قدره 50 يورو (نحو 52.70 دولار) تتقاضاه من زبائنها طيلة حياتهم، تتعهد الشركة الناشئة بتجميد جثثهم بعد وفاتهم.

يضاف إلى الـ50 يورو مبلغ مقطوع قدره 200 ألف يورو (نحو 211 ألف دولار) يُدفع بعد الوفاة - 75 ألف يورو (نحو 79 ألف دولار) لقاء تجميد الدماغ وحده - ويمكن أن يغطيه نظام تأمين على الحياة.

ويقول كيندزورا (38 سنة) المتحدر من مدينة دارمشتات في غرب ألمانيا، إنه درس الطب وتخصص في الأبحاث المتعلقة بالسرطان، قبل أن يتخلى عن هذا الاختصاص بسبب التقدم البطيء في المجال.

وتشير «توموروو بايوستيتس» إلى أنّ نحو 700 زبون متعاقد معها. وتقول إنها نفذت عمليات تبريد لأربعة أشخاص بحلول نهاية عام 2023.

ويلفت كيندزورا إلى أنّ غالبية زبائنه يتراوح عمرهم بين 30 و40 سنة، ويعملون في قطاع التكنولوجيا، والذكور أكثر من الإناث.

عندما يموت أحد الزبائن، تتعهد «توموروو بايوستيتس» بإرسال سيارة إسعاف مجهزة خصيصاً لتبريد المتوفى باستخدام الثلج والماء. يتم بعد ذلك حقن الجسم بمادة «حفظ بالتبريد» ونقله إلى المنشأة المخصصة في سويسرا.

دماغ أرنب

في عام 2016، نجح فريق من العلماء في حفظ دماغ أرنب بحال مثالية بفضل عملية تبريد. وفي مايو (أيار) من هذا العام، استخدم باحثون صينيون من جامعة فودان تقنية جديدة لتجميد أنسجة المخ البشري، تبين أنها تعمل بكامل طاقتها بعد 18 شهراً من التخزين المبرد.

لكنّ هولغر رينش، الباحث في معهد «آي إل كاي» في دريسدن (شرق ألمانيا)، يرى أنّ الآمال في إعادة شخص متجمد إلى الحياة في المستقبل القريب ضئيلة جداً.

ويقول لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «نشكّ في ذلك. أنصح شخصياً بعدم اللجوء إلى مثل هذا الإجراء».

ويتابع: «في الممارسة الطبية، إنّ الحدّ الأقصى لبنية الأنسجة التي يمكن حفظها بالتبريد هو بحجم وسمك ظفر الإبهام، والوضع لم يتغير منذ سبعينات القرن العشرين».

ويقرّ كيندزورا بعدم وجود ضمانات، ويقول: «لا نعرف ما إذا كان ذلك ممكناً أم لا. أعتقد أن هناك فرصة جيدة، لكن هل أنا متأكد؟ قطعاً لا».

بغض النظر عما يمكن أن يحدث في المستقبل، تقول زيغلر إنها متأكدة من أنها لن تندم على قرارها. وتضيف: «قد يبدو الأمر غريباً، لكن من ناحية أخرى، البديل هو أن يضعوك داخل تابوت وتأكلك الديدان».