نوارة أحمد فؤاد نجم تواجه والدها «الفاجومي» بأثر رجعي

مواقف إنسانية ومواجهة صريحة تأخرت كثيراً

نوارة أحمد فؤاد نجم تواجه والدها «الفاجومي» بأثر رجعي
TT

نوارة أحمد فؤاد نجم تواجه والدها «الفاجومي» بأثر رجعي

نوارة أحمد فؤاد نجم تواجه والدها «الفاجومي» بأثر رجعي

«عتاب بأثر رجعي ومواجهة صريحة تأخرت كثيراً»؛ هكذا يمكن وصف كتاب «وأنت السبب يا با... الفاجومي وأنا» الصادر أخيراً عن دار «الكرامة» بالقاهرة، للكاتبة نوارة نجم التي تروي مذكراتها مع والدها الشاعر المصري المثير للجدل، أحمد فؤاد نجم (1929- 2013) والشهير بـ«الفاجومي» وهو لقب يشير في قاموس العامية المصرية إلى معاني الاندفاع والجرأة والتهور.
يقع الكتاب في 309 صفحات من الحجم المتوسط، موزعة على 22 فصلاً، ويتضمن كثيراً من المواقف التي تنطوي على عتاب أو لوم توجهه الكاتبة إلى أبيها الذي عاش منشغلاً عنها ومهملاً لها في كثير من الأحيان، نظراً لطبيعة حياته غير المستقرة، وتعرضه للاعتقال نتيجة لمواقفه السياسية وتنقلاته بين كثير من الأماكن، وبيته المفتوح طوال الوقت للأصدقاء والمريدين. لكن المؤلفة تروي مثل هذه المواقف بأسلوب ساخر وروح مرحة مشرّبة بنبرة غضب أحياناً، مع حالة من التسامح والمحبة، فضلاً عن روح الفخر والاعتزاز التي تفيض بها فصول الكتاب طوال الوقت من المؤلفة تجاه والدها، وبلغة سردية رشيقة مكثفة، أشبه ما تكون بلغة الرواية؛ لكن عابها أحياناً الاستغراق الشديد في اللهجة العامية المحلية.
«كان العثور على أبي أمراً شاقاً جداً، فهو مثل الزئبق لا يمكن الوصول إليه إلا بشق الأنفس»، هكذا تستهل المؤلفة مذكرات سنوات الطفولة الأولى؛ حيث تروي كيف كانت والدتها الكاتبة صافي ناز كاظم تحرص على مد جسر التواصل بينها وبين والدها بعد انفصالهما. كانت الأم تتواصل في هذا السياق مع الصديقين الوحيدين اللذين كان يحظيان باحترامها بين بقية رفاق «الفاجومي»، وهما «محمد علي» والمطرب «الشيخ إمام». وإذا نما إلى علمها أن «نجم» ذاهب إلى ندوة أو حفل أو زيارة ما، فإنها تطلب من «محمد علي» أن يأخذ «نوارة» معه لحضور الفعالية، أو تصطحبها هي بنفسها، أو تطلب ذلك من صديقتها المناضلة اليسارية شاهندة مقلد (1938- 2016)، وطالما اصطحبت طفلتها إلى مقر «حزب التجمع»؛ حيث حفلات «الفاجومي» مع «الشيخ إمام».
كانت «صافي» تعالج حماقات «نجم» -على حد تعبير الكتاب- مع «نوارة»، وتطيب جراحها وتخفف آلامها، فمثلاً عندما علمت الأم أن «نجم» ذاهب إلى حفل تأبين الشاعر أمل دنقل، أخذت الابنة لترى أبيها. جلس «نجم» على المنصة وتحدث كثيراً عن أمل دنقل الذي ربطته به علاقة صداقة، لا تخلو من عداء وحب وكراهية وإعجاب ومنافسة، واختتم حديثه قائلاً إنه من «سخافات» الشاعر الراحل أن يموت في يوم عيد ميلاد «الفاجومي»، ثم خرج وغادر المكان تاركاً ابنته، فركضت «نوارة» خلفه لتذكره بأنها جاءت كي تراه، فوعدها أن يعود مرة أخرى إليها، فطلبت منه ألا يكذب عليها ويصارحها إن كان فعلاً لن يعود. هنا أخبرها أنه لن يعود، ووعدها أن يزورها مستقبلاً. ثم قبَّلها وعانقها وذهب، بينما وقفت تتابعه بنظرها حتى أصبح نقطة، ثم عادت حزينة إلى أمها، فأخذت تطيِّب خاطرها وتضاحكها وتسخر من الموقف، لتخفف من وطأته.
وتروي المؤلفة موقفاً آخر يوضح تلك الفكرة قائلة: «ذات مرة اشتقت إلى أبي بشدة، وطلبت من أمي أن أذهب لزيارته، فأخذتني إلى حي الغورية، وبالطبع لم نجده، ووجدنا (الشيخ إمام)، فجلس معي وغنى لي وضاحكني، واعتذر بأن أبي ليس في المكان، وأنه لا يعلم أين هو. عُدت إلى المنزل محبطة على الرغم من كل محاولات الشيخ إمام للتخفيف عني، وظللت أبكي حتى شعرت بأن رأسي يتصدع، فأخذت أصرخ من آلام رأسي، وأصاب الهلع والخوف أمي. استيقظت في اليوم التالي فأخذتني أمي، وربطت رأسي بقماشة بسبب الآلام التي كنت أشعر بها، وذهبت بي إلى الغورية، وسألت صاحب المقهى تحت البيت إن كان أبي موجوداً، فرد بالإيجاب، فطلبت مني أن أصعد إلى بيته وحدي، وأن أنظر إليها من النافذة كي تطمئن. وبالفعل دخلت البيت وعانقت أبي، وقلت له إنني يجب أن أنظر إلى أمي من النافذة لكي تطمئن».
وتنوه نوارة نجم بأنها كانت مصدر إلهام قصيدته الغنائية، في مقدمة تترات مسلسل «حضرة المتهم أبي». حدث ذلك في عام 2005 تقريباً، حين تزامن وصول سيناريو المسلسل مع جلستها معه، وكانت «نوارة» تمر بنوبة اكتئاب حاد: «وكنت أؤنبه لأنه أنجبني، ولأنه يتعامل مع الإنجاب بلا اكتراث، ولأنه تزوج فولدت زوجاته بنات كلهن تعيسات». وبعد انتهاء زيارتها له، استلهم مطلع القصيدة الذي يقول:
«نازل وأنا ماشي... ع الشوك برجليا
وأنت السبب يا با... ياللي خليت بيا
لا فرشت لي بستان... ولا حتى بر أمان
أعيش عليه إنسان... والدنيا في إيديا»
شهد انتقال «الفاجومي» إلى المقطم بداية صداقة من نوع جيد بينه وبين ابنته، فقد سمحت له السلطات بعقد ندوات، وكان يتصل بها خصيصاً كي تذهب معه، وكان ذلك يسعدها. وتكشف المذكرات عن جانب من حياة «نجم» الإبداعية، فعندما يكون في حالة كتابة يصبح سيئ المزاج للغاية، يستيقظ عابساً ولا يرغب في محادثة أحد، وأحياناً يتحدث مع الآلات، وأحياناً يكنس البيت ويغسل الأطباق؛ لكنه في كل الأحوال ضيق الصدر، وأفضل وسيلة للتعامل معه في تلك الحالة هي تجنبه.
وعن إصابة «نجم» المتكررة بجلطة في المخ، تروي «نوارة» أن المرة الأولى التي عرفوا فيها بالأمر كانت في عام 2000 تقريباً. كان أحمد فؤاد نجم يجلس مع أصدقائه ويلعب لعبة «ماينس» التي تعلمتها نوارة كي تتقرب منه، وهي لعبة ورق تشبه «الكونكان». ويروي أصدقاؤه أنه هتف فجأة «الله الله الله»، ثم انكفأ على وجهه، فحمله أصدقاؤه ونزلوا به إلى شقة «أم زينب» التي اتصلت بـ«نوارة» وهي تصرخ طالبة منها المجيء. ظنت «نوارة» أن والدها فارق الحياة وهرعت إليه؛ لكنها حين دخلت وجدته جالساً على السرير مشعلاً سيجارته، ومعه صديقه الطبيب محمود عبد الظاهر. سألت: ماذا حدث؟ فقال الطبيب إنها جلطة خفيفة، فعادت تسأل عما إذا كان يجوز له أن يدخن وهو في هذه الحالة؟! فأجاب الطبيب بقلة حيلة: ليتك تقنعينه بأن يتوقف عن التدخين! وناشدته «نوارة» بحب وحنان أن يتوقف عن التدخين، فأجاب بكل وداعة: «حاضر»... قالها وهو يشعل سيجارة جديدة!


مقالات ذات صلة

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

كتب «انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد.

ندى حطيط
كتب «سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ

منى أبو النصر (القاهرة)
كتب حكاياتٌ وعِبر عن «الذئب الحكيم»

حكاياتٌ وعِبر عن «الذئب الحكيم»

انطلاقاً من تلك المكانة المتميزة، التي تحظى بها الذئاب، في الوجدان الجمعي الإنساني بعامة، والعربي بخاصة، يقدم الكاتب والشاعر السوري محمد الحمصي مجموعة من القصص

«الشرق الأوسط» (عمّان)
ثقافة وفنون «الليل»... عالم موازٍ من الأفكار المدهشة عبر الثقافات

«الليل»... عالم موازٍ من الأفكار المدهشة عبر الثقافات

عن دار «العربي» بالقاهرة صدر كتاب «الليل...عالم موازٍ»، ترجمة محمد رمضان، والذي يتناول فيها الباحث الألماني بيرند برونر بأسلوب أدبي ولغة تشبه التأملات الفلسفية

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
ثقافة وفنون هاريت والتر

بطلات شكسبير يتحدثن عن أنفسهن

إذا ذكر اسم شاعر الإنجليزية الأكبر وليم شكسبير (1564 - 1616) ترد على الذهن لأول وهلة أسماء أبطاله من أمثال هاملت وماكبث وعطيل ولير ويوليوس قيصر.

د. ماهر شفيق فريد

بجسدٍ معطّل وعقلٍ لمّاح... غسان جبرا يُنجز كتاباً يروي رحلته مع الضمور العضلي

أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
TT

بجسدٍ معطّل وعقلٍ لمّاح... غسان جبرا يُنجز كتاباً يروي رحلته مع الضمور العضلي

أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)
أصدر غسان جبرا كتاباً عن رحلته الجسدية والروحية مع الضمور العضلي (الشرق الأوسط)

«علمياً وطبياً، لا يجب أن أكون على قيد الحياة. لكن لأنني أحب الحياة فأنا على قيدها، وهذا أعظم إنجازاتي». إنها حكمة غسان جبرا الذي بدأ جسده بالتلاشي قبل أن يبلغ الـ10 من عمره. اليوم، على مشارف الـ40، ما زال الشاب السوري اللبناني يبتسم للحياة من على كرسيّه الكهربائي النقّال المحصّن بأجهزة التنفّس.

الضمور العضلي الذي يعانيه منذ الطفولة لم يهزم ابتسامته ولا فكرَه. فثاني أعظم الإنجازات في رصيده حتى اليوم، كتابٌ نشره قبل أشهر بعنوان «كلمة على ورق». سيرةُ حياةٍ غير اعتيادية رواها جبرا دامجاً ما بين أحداث مفصلية طبعت مشواره، ومعانٍ روحية وإنسانية استقاها من تلك الرحلة المحفوفة بالآلام والآمال.

«كلمة على ورق» تجربة حياة استثنائية يرويها غسان جبرا (الشرق الأوسط)

في بيته الثاني، جمعيّة «أنت أخي» اللبنانية، حيث يقيم ويتلقّى الحب والرعاية والعلاج، عمل جبرا على كتابه خلال 5 سنوات. وبما أنه لا يستطيع تحريك سوى عينَيه وشفتَيه، أملى ذكرياته وخواطره وأفكاره على معاونين ومتطوعين سكبوها على الورق، ثم أعادوا صياغتها.

«أجمل أيام حياتي كان اليوم الذي تلقّيت فيه النسخة الأولى من الكتاب، واكتملت الفرحة خلال حفل التوقيع في معرض بيروت للكتاب»، يخبر جبرا «الشرق الأوسط». في الحفل الذي حضره رفاق غسان وأقرباؤه وزملاؤه في الجمعية وشخصيات إعلامية وثقافية، شعر وكأن الإنجاز ليس فردياً بل لكل فردٍ من عائلة «أنت أخي».

من حفل توقيع كتاب غسان جبرا في معرض بيروت العربي والدولي (جمعية أنت أخي)

طفلاً، بدأت ملامح الضمور العضلي تظهر على غسان. كان يسقط أرضاً ويفقد تدريجياً قدرته على المشي. ومع مرور السنوات وتعطّل العضلات واحدةً تلو أخرى، انتقل إلى مؤسسة «سيسوبيل» التي تعنى بالأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، ومنها لاحقاً إلى «أنت أخي»، حيث تبدّلت الاحتياجات مع تفاقم الإعاقة.

في تلك الآونة، أصبح غسان جبرا أسير الكرسيّ إلا أن أجنحةً بدأت تنبت له. «سقطت كل الأقنعة في المؤسسة. تجرّدت من كل شيء وصرتُ أنا. أصبحت قادراً على أن أتكلّم أكثر عن طفولتي وما عدت أخجل من أصولي السورية ولا من فقري. تحررتُ من نفسي»، يروي الشاب في كتابه. وقد حصل ذلك بفضل التنشئة الحياتية والروحية التي بدأ يتلقّاها.

اختبر غسان جبرا ولادة جديدة في جمعية «أنت أخي» (صور الجمعية)

«تعلّمتُ من خلال التنشئة ألّا أركّز على ما فقدت، بل على ما أملك. وأكبر طاقة موجودة لديّ ولدى كل إنسان، هي طاقة الحب التي لا يستطيع أي شيء أن يمسّ بها، ولا حتى الإعاقة». قد يصعب على كثيرين التصديق أنّ هكذا كلام صادرٌ عن شابٍ لم يعرف من الحياة سوى الألم الجسدي، والبقاء رهينة كرسيّ نقّال طيلة العمر. بين نفَسٍ وآخر يسحبه من أنبوب الأوكسيجين المعلّق بكرسيّه، يقول جبرا: «عندما أدركت ما هي رسالتي على هذه الأرض، تمسكت بالحياة وأردت أن أساعد غيري على المستوى الروحي».

يقضي الضمور العضليّ على كل عضلة في الجسد، بما في ذلك الرئتَان والقلب. أما المصابون به فينخفض متوسط العمر لديهم وغالباً ما يفارقون الحياة في سن الشباب، على غرار ما حصل مع شقيق غسان. كان وقعُ رحيل أخيه (غريب) ثقيلاً عليه، ثم جاء التحدّي الأصعب الذي أدخله في دوّامة من الكآبة والإحباط؛ «حين ما عاد باستطاعتي مضغ الطعام وصار عليّ تناوله مطحوناً، لم أتقبّل الأمر»، يخبر جبرا. إلا أنّ قصة حبٍ جمعته برفيقة له في المؤسسة كانت حبل الخلاص الذي أخرجه من الدوّامة، إذ استطاعت الفتاة إقناعه بأسلوب الأكل الجديد.

مع أحد رفاقه في حفل التوقيع الكتاب (جمعية أنت أخي)

اليوم، لا يملك غسان جبرا سوى صوته المتقطّع للتعبير عمّا يكتنز عقله وروحه. له أيضاً عينان تصّران على الابتسام. أما باقي أعضاء جسده فمعطّل. لا يستطيع أن يقوم بأي شيءٍ بمفرده، لا الأكل ولا الاستحمام ولا التقاطَ غرضٍ ما، وهو يمضي معظم يومه مستلقياً على السرير. لذلك، فإنّ مرافقاً يلازمه ليل نهار، وقد تحوّل هذا الارتباط الوثيق والحيوي بالمرافقين إلى درس حياة بالنسبة إليه، إذ طوّر من خلاله علاقته بالآخرين.

إلا أن أكثر ما حفر في غسان وصنع منه إنساناً جديداً يحلّق بفِكره وروحه فوق جماد الكرسيّ والعضل الذابل، التنشئة الروحية والإنسانية التي تلقّاها في «أنت أخي». تستند التنشئة إلى مبادئ وحقائق وجودية على غرار: «الله يحبني كيفما كنت». يقول غسان إن هكذا حقائق تحولت إلى حصانة في حياته بوجه الصعوبات. وهو صار حالياً جزءاً أساسياً من برنامج التنشئة هذا، بما أنه أحد أهم الشهود على ثمارها.

«لديّ حصة ثابتة في برنامج التنشئة حيث أنقل خبراتي الحياتية والروحية إلى أشخاص أصحّاء ومن ذوي الاحتياجات الخاصة كذلك»، يوضح جبرا.

يهوى غسان جبرا لعبة طاولة الزهر ويحلم بتأسيس مقهى (جمعية أنت أخي)

لديه إيمانٌ راسخ يعبّر عنه في يومياته وفي الكتاب، بأن الحياة حمّلته رسالة يؤدّيها. «فهمت أن رسالتي هي أن أشهد أن الحياة جميلة وتستحق أن نعيشها بالرغم من صعوباتها وتعقيداتها. عندما يرى الآخر أنني سعيد في حياتي، يساعده ذلك على أن يستمر في حياته، كما أفعل أنا». يتابع: «لديّ هدف وحلم أحققه، وهو أن أعكس الفرح والسلام لكل من يراني. علّمتني التنشئة الوجودية أن أعرف دوري ورسالتي في الحياة».

ما زالت الأحلام كثيرة في بال غسان. «أولاً أريد أن أدخل كتاب غينيس كأول شخص يعيش أكبر عدد من السنوات وهو في الحالة هذه». حلمٌ آخر يراوده، بما أنه عاشقٌ للعبة طاولة الزهر أو النرد، فهو يرغب في تأسيس مقهى تراثي يلعب فيه الروّاد النرد، ويتبادلون الأحاديث الإنسانية، ويستمعون إلى تجربته الاستثنائية التي حرمته تحريك الحجارة إلا أنها رمت له زهرَ البصيرة والارتقاء الروحي.


«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

دومينيك مويسي
دومينيك مويسي
TT

«انتصار العواطف»: الجغرافيا السياسية بين المشاعر والمصالح

دومينيك مويسي
دومينيك مويسي

بعد خمسة عشر عاماً من طرحه نظرية «صراع العواطف» في كتابه المؤثر «الجغرافيا السياسية للعواطف»، يعود المفكر الفرنسي البارز دومينيك مويسي ليطلق حكماً قاطعاً في عمله الجديد «انتصار العواطف: الجغرافيا السياسية في عصر الاستياء والغضب والخوف». وإذا كان الأول تشخيصاً وتحذيراً، فالأخير يبدو كشهادة استسلام حزينة؛ فالعواطف لم تعد مجرد عامل مؤثر، بل لقد «انتصرت»، والعالم اليوم أقرب بكثير إلى «سيناريو أسوأ الحالات» الذي كان قد تخيله سابقاً.

يأتي «انتصار العواطف» في لحظة فارقة، تتزامن مع عودة الحرب إلى أوروبا، وتصاعد التوتر بين الولايات المتحدة والصين، وتشظي السياسات الداخلية في الديمقراطيات الغربية. يقدم مويسي، الذي يصف نفسه بأنه «واقعي قادر على المثالية»، إطاراً جديداً لفهم هذا العالم المضطرب، متجاوزاً التحليلات التقليدية القائمة على المصالح والقوة العسكرية، ليغوص في محيط المشاعر الجمعية التي، من وجهة نظره، باتت المحرك الرئيسي للأحداث.

ينطلق من فرضية أن الخريطة العاطفية للعالم قد تغيرت وأصبحت أكثر قتامة وتعقيداً. ففي عام 2009، كان «الأمل» قد ملأ آسيا الصاعدة، فيما استحكم «الإذلال» في العالم العربي الإسلامي، وانتشر «الخوف» في الغرب. أما اليوم، فقد تضاعفت هذه المشاعر وتداخلت، وولدت مشاعر أكثر بدائية مثل «الغضب والاستياء، إن لم يكن الحنق والكراهية».

لمواكبة هذا التحول، يقترح النظر إلى العالم بوصفه نظاماً عالمياً ثلاثي الأقطاب، لا يقوم على الجغرافيا الصرفة، بل على حالة عاطفية مشتركة: غرب عالميّ -يضم أميركا الشمالية وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية- تهيمن عليه مشاعر الخوف ويبحث عن طرائق للتكيّف، وشرق عالمي –الصين وروسيا ومعهما دول مارقة في المفهوم الغربي مثل كوريا الشمالية وإيران- تسيطر عليه مشاعر الإذلال والغضب، وجنوب عالمي -يضم القوى الصاعدة مثل الهند والبرازيل ودول أفريقيا- تتصارع فيه مشاعر الأمل والاستياء.

الغرب لم يعد مركز العالم كما كان عليه الحال لقرون. إنه خائف ويتوجس من تراجع نفوذه، وتحديات الهجرة وتغير المناخ، ولكنه مرعوب أكثر من تفككه الداخلي بسبب الاستقطاب السياسي وصعود الشعبوية.

أما الشرق فأُمم تستخدم شعور الإذلال التاريخي سلاحاً لتبرير سياساتها العدوانية -وفق المؤلف دائماً- داخلياً وخارجياً، فيما الجنوب يشعر بالتفاؤل إزاء مستقبله الاقتصادي والديمغرافي، لكنه في الوقت ذاته مستاء بشدة من الغرب بسبب الإرث الاستعماري وازدواجية المعايير التي يراها في النظام الدولي الحالي.

ولعل قوته الأساس تكمن في لغة وأسلوب الصياغة الشخصي الجذاب. فهو لا يتردد في مشاركة المتلقي حكاياته وتجاربه، من نقاش حاد في سنغافورة حول «القيم الآسيوية» إلى إدراكه المفاجئ بعد غزو أوكرانيا أن أصوله ليست «يهودية روسية» بل «يهودية أوكرانية». هذه اللمسات الشخصية تجعل مُنتجه مقالاً طويلاً وممتعاً أكثر منه دراسة أكاديمية جافة، وتمنح أفكاره وزناً إنسانياً يتجاوز مجرد التحليل الجيوسياسي.

كما ينجح ببراعة، في تشخيص أزمة الغرب الداخلية، خصوصاً الانقسام العميق في الولايات المتحدة. تحليله للعلاقة بين هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، واقتحام الكابيتول في 6 يناير (كانون الأول) 2021.

كما يقدم رؤية ثاقبة لكيفية تحول التهديد الخارجي إلى وقود للاستقطاب الداخلي، ووصفه إسرائيل بأنها «طليعة ما يعرّض النموذج الديمقراطي الغربي للخطر» هو كذلك ملاحظة جريئة وقوية من كاتب يهودي.

لكنَّ هذا الأسلوب الشخصي قد يُرى أيضاً بعين التقييم الأكاديمي على أنه مصدر ضعف، إذ يبدو أحياناً تجميعاً لردود فعل مؤلفه العاطفية الداخلية في شكل مكتوب. فالتحليل يعتمد بشكل كبير على انطباعاته ومشاعره، مع غياب شبه تام للأدلة المنهجية أو البيانات المسحية التي تدعم تعميماته الواسعة المطلقة.

يتزامن الكتاب مع عودة شبح الحرب الباردة وتصاعد التوتر بين أميركا والصين وتشظي السياسات الداخلية في الديمقراطيات الغربية

وهنا تحديداً تبرز إشكالية التعميم كأكبر عيب في طروحاته. فهل يمكن حقاً اختزال مشاعر مليارات البشر فيما يسمى «الجنوب العالمي» في كلمتي «الأمل والاستياء»؟ وهل كل دول «الشرق العالمي» غاضبة بنفس الدرجة ولنفس الأسباب؟ إن هذا التبسيط المفرط يخاطر بتحويل كتل بشرية وحضارات معقدة إلى مجرد رسوم كاريكاتورية عاطفية، وهو ما يُضعف من القوة التحليلية للإطار الذي يقترحه، رغم أهميته كمكوّن -على مستوى ما- من مكونات الصورة الكليّة.

العيب الآخر هو المركزية الغربية الواضحة. على الرغم من اعترافه بتراجع هيمنة الغرب، فإن مويسي يظل أسيراً لسردياته. يصف زيلينسكي -الرئيس الأوكراني- بأنه «شبيه تشرشل»، ويرى الحرب في أوكرانيا صراعاً أخلاقياً واضحاً بين ثنائية شديدة التبسيط بين خير وشر، بينما يتعامل مع استياء الجنوب العالمي من الاستعمار على أنها عاطفة طفولية يجب تجاوزها. هذا التحيز، غير المقصود على الأرجح، يجعل من الصعب في مكان أن يكون جسراً حقيقياً لفهم وجهات نظر الآخرين، بل يكرس «الطلاق العاطفي» الذي يسعى لوصفه.

في الخلاصة، «انتصار العواطف» نتاج مهم ومستفز فكرياً، ينجح في التقاط روح العصر المضطرب الذي نعيشه، إذ يبدو أن الهويات والانفعالات تتفوق على النقاشات العقلانية. إنه نافذة ممتازة على عقلية النخبة الليبرالية الأوروبية وهي تحاول فهم عالم يخرج عن سيطرتها، ويتفلت من هيمنتها التاريخية.

ومع ذلك، لا ينبغي قراءته على أنه دليل موضوعي لفهم الجغرافيا السياسية. فضعفه المنهجي وتحيزاته الكامنة يجعلان منه أداة تحليلية محدودة القيمة. ربما يكون الإرث الأكبر له أنه هو نفسه دليل على الظاهرة التي يصفها؛ فهو عمل انتصرت فيه السردية العاطفية للمؤلف على التحليل المنهجي الصارم. «انتصار العواطف» لا غنى عنه لقراءة وفهم نوازع القلق الغربي المعاصر، ولكنه قاصر عن تقديم فهم عميق ومتوازن لبقية العالم.

The Triumph of Emotions: Geopolitics in an Age of Resentment, Anger and Fear

By Dominique Moïsi, Polity Press 2025


«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة
TT

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

«سقوط جنتلمان» مواجهة الحياة على الحافة

تطرح رواية «سقوط جنتلمان» للكاتب الأميركي هربرت كلايد لويس سؤالاً عن اختبار الإنسان حين يُنتزع فجأةً من سياقه، فيجد نفسه وجهاً لوجهٍ مع الفراغ المُطلق أمام حيرته وتساؤلاته.

تنطلق الرواية من لحظة غريبة مُكثّفة بالتأمل، ماذا لو سقط أحدهم في البحر؟ ما الذي يمكن أن تهبه غريزة البقاء لصاحبها في تلك اللحظة، ومن سننتظر حين نصبح وحدنا أمام اتساع الأفق وعجز الجسد؟ وبذلك، يقدّم لويس في روايته القصيرة تجربة وجودية مكثفة، تتخذ من الغرق مجازاً للوعي الإنساني وهو يُجرَّد من يقينه.

بطل الرواية «هنري بريستون ستانديش» الذي يبلغ الخامسة والثلاثين من عمره، يعيش في نيويورك حياة نموذجية بمعيار الاستقرار الاجتماعي والمادي، ويقدّمه السرد بوصفه رجلاً دقيقاً، مهذّباً، لا يفعل شيئاً خارج المألوف، كما لو كان مخلوقاً من النظام ذاته الذي يحكم عالمه «كان هو أكثر الرجال إثارةً للضجر بسبب تطرفه في الالتزام»، ولكن حياة الرجل المثالية يتسلّل إليها فراغ داخلي غامض، فيقرر السفر وحيداً لصفاء الذهن، وتتفهم زوجته أوليفيا رغبته في الابتعاد.

على متن السفينة «أرابيلا» المتّجهة من هونولولو إلى بنما يبدأ ستانديش رحلته الجديدة، التي تجمعه بمسافرين عابرين، وهو الأمر الذي أثار حماسته في بداية الرحلة: «منذ البداية قضى ستانديش وقتاً رائعاً، ومن دون أن يبدو غامضاً على نحو غير مبرر استطاع أن يحصر الأسئلة المتعلقة بحياته الخاصة في الحد الأدنى، وقضى وقته في التطفّل ببراعة على حياة زملائه في السفينة».

يكتشف ستانديش مهارة جديدة في نفسه وهي ملاحظة الغرباء، وبين طقوس الطعام المحدّدة وحرصه على ارتداء ملابسه الرسمية، يظل حريصاً على التهذيب واللياقة في كل تصرفاته على متن السفينة. رجل يعيش كأنه نموذج للنظام ذاته، لا يُخلّ بإيقاع العالم حوله، لكنه في ذات صباح ينزلق بسبب بقعة دهنٍ على سطح السفينة، فيسقط في المحيط الهادي ليبدو حتى في سقوطه الدرامي «جنتلمان» لا يستطيع إثارة جلبة للفت الانتباه إليه.

مرآة البحر

ينتاب ستانديش في البداية شعور بالإحراج أكثر من شعوره بالخوف؛ فرجال طبقته، كما يقول الراوي العليم، لا يسقطون من السفن في عرض البحر، فيبدو انفعاله بهذا السقوط متراوحاً ما بين إحراجه، وشعوره بهول الموقف فتخرج صرخاته «مُتزنة» لا يسمعها أحد، فيما تمضي السفينة مبتعدةً ببطءٍ حتى تختفي، فيبقى وحده وسط المحيط، نقطة بشرية ضئيلة في مواجهة الأبدية الزرقاء.

يكثّف لويس الصورة الرمزية للبطل من خلال علاقته بحركة السفينة بعد سقوطه منها؛ فقد كانت السفينة بالنسبة له «ديناصوراً» ضخماً يتحرك بعيداً، وكانت «الشمس» تنظر إليه كأنه «سمكة»، فبدا وكأنه «الشائبة الوحيدة في هذا البحر» حسب تعبير الراوي، وهي جملةٌ تضعه في مواجهةٍ وجودية مع نقاء الطبيعة التي لا تعبأ بوجوده، وتكشف في الوقت نفسه أن مثاليته المفرطة لم تحمه من السقوط.

يتداخل الصوت السردي في الرواية مع أزيز غرفة محركات السفينة، وهياج البحر وسكونه، في تناغم خفي بين البحر كآلةٍ ضخمةٍ وبين نبض ستانديش الداخلي، فهو «الجنتلمان» الذي يحرص على ارتداء ملابسه الرسمية حتى في رحلة استجمام على متن سفينة في البحر، ويقدّس طقوس الإفطار في موعدها، ويصرّ على ضبط إيقاع جسده حتى في مواجهة الفناء.

يتوازن السرد بين صورتين متناقضتين؛ صورة الرجل الغارق في المثالية والنظام، وصورة الجسد الملقى في اللامكان في قلب المحيط، وبينهما يتأمل ستانديش ماضيه، وعلاقته بأسرته وأطفاله وحياته المهنية، ويستكشف على حافة الحياة معنى المغامرة والرعب والغياب، فـ«الرجل المنهجي» يكتشف أنه سقط من السفينة، ومن الإطار الاجتماعي الذي كان يظنه مُقدساً، وفي لحظات وعيه الأخيرة يتحوّل البحر إلى مرآة ضخمة يرى فيها هشاشته، وهو يُجاهد طافياً على سطحه.

ومع تصاعد شعوره بالاختناق يبدأ ستانديش في التحرر التدريجي من طبقات «الجنتلة» التي كبّلته، فيلقي بملابسه، كمن يتخفف من رموز طبقته القديمة في سبيل الطفو والبقاء، وتصبح معركته مع الماء استعارةً لرحلة نحو جوهر الإنسان العاري من الزيف والمظاهر، وفي إحدى اللحظات الحاسمة يصف الراوي إحساسه قائلاً: «شعر ستانديش بنفسه يختنق، وأدرك على نحوٍ مأساوي أنه يموت مختنقاً، لكن بطريقةٍ ما لم يرغب في فعل أيّ شيء حيال ذلك، لم يعد يهتم بالمزيد من المقاومة. كانت المعركة خاسرةً، فما الفائدة؟».

أثر الغياب

تتعمق تأملات البطل أكثر في أثر غيابه عن العالم من بعده، فيتخيل كيف ستبدو تبعات غيابه على مجتمعه وزوجته وأطفاله، وسط حيرته وإحباطه من عدم انتباه الركّاب «الغرباء» شركائه في السفينة لاختفائه وإنقاذه، متأملاً في غُبن كيف ستستمر الحياة ببساطة من بعده، كما لو أن وجوده لم يترك فراغاً. تُثقل ستانديش هذه الفكرة القاسية بوعيٍ جديد، وكأنه يطفو خارج صورته القديمة ليُعاين العالم بصفاء ما قبل الحياة.

تبدو الرواية القصيرة «سقوط جنتلمان» نص عن إنسان يقترب من رؤية الحياة بوضوح من يقف على حافتها، ويدرك أيضاً أن الحياة لا تُختبر إلا حين نفقد نظامها الرتيب. وفي هذا السياق يمكن القول إن جوهر العمل يدور حول عزلة الفرد في مواجهة العالم الذي يبدو كآلةٍ ضخمةٍ تقذف أفراده بلا عاطفة، ويتجلى البحر هنا كقوة وجودية تُعرّي الإنسان من طبقته وثقافته ومكانته، لتعيده إلى جوهره الأول... كائن صغير في مواجهة الأبد. ولكن تجربة «الجنتلمان» في الوصول لتلك الرؤى لا تُنتزع من الخارج، بقدر ما تُروى من داخل وعي رجلٍ يتفكك ببطء، فيصبح حادثاً عرضياً أقرب إلى اختبار فلسفي للإنسان الحديث الذي يفقد قدرته على المواظبة في حفظ النظام الراسخ من حوله، ويجد نفسه مضطراً لأن يواجه عالمه الداخلي الأوسع، بحس لا يخلو من شجن واستبصار: «أخيراً، تساءل ستانديش، من دون سبب وجيه، عن الفرق المدهش في هذا المحيط بين الفجر والشفق».

صدرت الترجمة العربية لرواية «سقوط جنتلمان» أخيراً بتوقيع المترجمة المصرية إيناس التركي عن دار «الكرمة» بالقاهرة.