«تشات جي بي تي» تقنية «مفيدة» محفوفة بمخاطر «التضليل»

نظام «تشات جي بي تي» قيد الاستخدام (د.ب.أ)
نظام «تشات جي بي تي» قيد الاستخدام (د.ب.أ)
TT

«تشات جي بي تي» تقنية «مفيدة» محفوفة بمخاطر «التضليل»

نظام «تشات جي بي تي» قيد الاستخدام (د.ب.أ)
نظام «تشات جي بي تي» قيد الاستخدام (د.ب.أ)

في الوقت الذي جذب فيه نظام الذكاء الاصطناعي «تشات جي بي تي» اهتمام العالم، لا سيما عشاق التكنولوجيا، لتبدأ محاولات استخدامه في إنتاج محتوى رقمي عالي الجودة، قد يقلل الاعتماد على العنصر البشري مستقبلا. حذر علماء وباحثون من إمكانية أن يسهم روبوت «تشات جي بي تي» في انتشار «الأخبار الزائفة». وبينما يشير خبراء إلى فائدة تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل عام في «تسريع» عملية تدقيق المحتوى؛ إلا أنهم يخشون من أن يكون لنظام «تشات جي بي تي» دور في زيادة نشر «المعلومات الزائفة»، لا سيما مع تقديمها «في قوالب عالية الجودة، ما يجعل من الصعب تدقيقها». وحذروا من إمكانية أن تلعب دوراً في «التلاعب» بالرأي العام، ما يؤدي إلى «تعطيل الديمقراطية».
و«تشات جي بي تي» هي تقنية تم طرحها للاستخدام المجاني في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ولفتت التقنية التي طورتها شركة أبحاث الذكاء الاصطناعي «أوبن إيه آي» الأميركية، انتباه عشاق التكنولوجيا. وهي عبارة عن روبوت أو برنامج ذكاء اصطناعي، يستطيع الإجابة على ما يطرح عليه من أسئلة بشكل تفصيلي ودقيق، ويمكنه كتابة موضوعات صحافية كاملة اعتماداً على ما يقدمه المستخدم من مدخلات.
ووفقاً لتقرير أصدرته جامعة جورج تاون ومرصد ستانفورد للإنترنت و«أوبن إيه آي» في يناير (كانون الثاني) الماضي، فإن «(تشات جي بي تي) سوف يسهل عملية نشر (المعلومات الزائفة) على الإنترنت». وقال التقرير إن «تقنيات الذكاء الاصطناعي تطورت بشكل كبير، ما يسهم في إنتاج محتوى متنوع، لكنها في نفس الوقت قد تحمل آثاراً سلبية، عبر كونها وسيلة قد تساعد في صناعة (البروباغندا)، عبر إنتاج (معلومات زائفة)، للتأثير على الرأي العام».

قدرات متباينة

حقاً، يبدو المحتوى الذي ينتجه روبوت «تشات جي بي تي»، دقيقاً إلى درجة يصفها مراقبون بـ«المخيفة». وفقاً لدراسة نشرت نهاية العام الماضي على موقع المسودات البحثية «بيور أركايف» فإن «تشات جي بي تي» استطاع كتابة ملخصات بحثية «مقنعة بحيث لم يستطع العلماء كشف زيفها»، لا سيما بعد «اجتياز هذه الأبحاث اختبار كشف الانتحال، مسجلة نسبة أصالة 100 في المائة». وأبدت ساندرا واشتر، التي تدرس التكنولوجيا وتنظيم استخدامها في جامعة أوكسفورد البريطانية، «قلقها». وقالت إن «عواقب ذلك ستكون وخيمة على البحث العلمي والمجتمع ككل».
لكن الأمر مختلف على مستوى الصور، حيث تتباين قدرات الذكاء الاصطناعي في هذا المجال. وهذا ما كشفته صورة معدة بالذكاء الاصطناعي، لمشهد غير حقيقي يظهر منقذا يونانيا يحتضن طفلا تركيا. ويقول مدقق المعلومات المصري، حسام الهندي، الذي حقق هذه الصورة، لـ«الشرق الأوسط»، إن «هناك عدة عوامل تثبت أنها غير حقيقية منها أن ملابس الطفل والمنقذ نظيفة، رغم وجودهما في وسط الأنقاض، والأهم أن اليد اليسرى للمنقذ تظهر بها 6 أصابع». رغم ذلك يرى الهندي أن «الذكاء الاصطناعي سوف يتطور وسيتمكن من حل هذه المشكلة».
وأظهر تقرير نشره معهد «بوينتر» الأميركي المتخصص في علوم الإعلام، منتصف فبراير (شباط) الجاري، قدرة «تشات جي بي تي» على إنتاج «محتوى زائف»، منسوب لصحافية غير حقيقية، وصحيفة غير موجودة بالأساس، حيث طلب من «تشات جي بي تي» كتابة تقرير يقول إن «الفنانة بيونسيه تعرضت لعملية مطاردة من قبل جمل بعد حفلتها في دبي، منسوب لصحيفة تدعى (دبي كرونيكل)، وباسم الصحافية سارة أحمد»، وفي ثوانٍ أنهى «تشات جي بي تي» تقريراً كاملاً بعنوان «جمل يطارد بيونسيه بعد حفلها في دبي».

مساحة رمادية

رامي الطراونة، رئيس وحدة المنصات الرقمية في صحيفة «الاتحاد» الإماراتية، يرى أن صناعة المحتوى المعدل رقمياً باتت «أكثر سهولة ويسراً» مع سرعة تطور أدوات الذكاء الاصطناعي. ويوضح لـ«الشرق الأوسط»، أن «(تشات جي بي تي) استطاع تطوير نصوص ومواضيع متقنة، وأقرب بتماسكها إلى النصوص البشرية»، إضافةً إلى وجود تطبيقات أخرى تتيح استنساخ نبرات الصوت مثل (voice.io)، وإنشاء الصور والتراكيب البصرية مثل (Midjourney)، و(DALL - E)، و(Linsa AI)، ومثلها للفيديو أيضاً.
ويضيف الطراونة أنه بهذه الأدوات أصبحت صناعة الخبر من نص وصوت وصورة، «قابلة للإنشاء والتعديل رقمياً». قد يبدو هذا «جيداً» للوهلة الأولى، لكنه بحسب الطراونة «يجعل كل ما هو معروض محل شك واستفهام، ويزيد المساحة الرمادية بين الحقيقة والزيف، لوجود أدوات قادرة، وبشكل متقن، على تعديل وصناعة أي شيء رقمياً». في نفس الوقت، يشير الطراونة إلى أن «جميع تطبيقات الذكاء الاصطناعي ما زالت في بداياتها، ولم تصل بعد لمرحلة النضوج الكامل، الذي سيجعل نتائجها أكثر إبهاراً وإقناعا في المستقبل».
بالفعل، دفعت هذه التطورات بعض الجهات لتطوير أدوات لكشف منتجات الذكاء الاصطناعي، من نص أو صورة، ما يراه الطراونة «أمراً مبشراً لما له من قدرة على ضبط جماح الذكاء الاصطناعي، وإرساء بعض القواعد التي من شأنها زيادة فوائده وتقليل مضاره».
هذه المخاوف من «تشات جي بي تي» امتدت إلى المؤسسات التعليمية، حيث أعلن معهد الدراسات السياسية في باريس (ساينس بو) في يناير الماضي، حظر استخدام «تشات جي بي تي» على طلابه، مهددا بعقوبات صارمة تصل حد الفصل. وقال المعهد، في رسالة وجهها لطلابه، إن «هذه الأداة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي، (تشات جي بي تي) تثير مخاوف كبيرة لدى الجهات التعليمية والبحثية في مختلف أنحاء العالم بشأن الغش عموماً، والسرقة الأدبية خصوصاً».
ويوازي الاهتمام اللافت بالتقنية وقدراتها، التحذير من خطرها. حيث يشير خبراء التكنولوجيا إلى «قدرة نظام (تشات جي بي تي) على التلاعب بمستخدميها، وربما دفعهم للقيام بأشياء تتعارض ومصالحهم». بحسب تقرير نشره «معهد مودرن وار»، في فبراير الجاري، تحت عنوان «التضليل في عصر (تشات جي بي تي)». وحذر التقرير من تأثير هذه التقنية على أحداث مهمة مثل الانتخابات، ما «يسهم في تعطيل الديمقراطية». إضافةً إلى أن «تشات جي بي تي» يمكن أن «ينشر معلومات (زائفة) بشأن أمور من بينها جائحة (كوفيد - 19)، ما يؤثر سلبا على صحة المواطنين».
جوش غولدستاين، الباحث في مركز جورج تاون للأمن والتكنولوجيا الناشئة، يقول في تقرير نشرته «بي بي سي» أخيراً، إن «أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تحسن من جودة المحتوى، في حملات (التضليل) المنهجية، بشكل يجعله أكثر إقناعا، ما يؤدي إلى صعوبة تمييز صدقه من عدمه، بالنسبة للمواطن العادي».
وهنا يرى مراقبون أن تقنيات الذكاء الاصطناعي وبينها «تشات جي بي تي» مثلها مثل أي أداة جديدة، يمكن أن تكون «مفيدة» في بعض الأحيان. وفي أحيان أخرى قد تكون «ضارة»، بحسب الطريقة التي يتم استخدامها بها. وستثبت التجربة في الفترة المقبلة لأي كفة ستكون الغلبة.
ويبدو التنافس في مجال الذكاء الاصطناعي محتدما بين شركات التكنولوجيا. وأخيرا، كشفت شركة «ميتا»، المالكة لـ«فيسبوك»، عن نسختها الخاصة من الذكاء الاصطناعي، الشبيهة بـ«تشات جي بي تي»، والتي حملت اسم «لاما»، وهو برنامج ذكاء اصطناعي وصفته «ميتا» بأنه «أصغر وأفضل أداءً». وأوضحت «ميتا»، في بيان نقلته وكالة الصحافة الفرنسية، أن «البرنامج صمم لمساعدة الباحثين على تطوير عملهم». ولفتت «ميتا» إلى أن «المشكلات التي أظهرها الذكاء الاصطناعي عبر روبوتات المحادثة، والتي شبهها البعض بالهلوسات، يمكن علاجها بشكل أفضل إذا تمكن الباحثون من تحسين الوصول إلى هذه التكنولوجيا باهظة الثمن». وقالت إن «البحث ما زال محدوداً بسبب ضخامة الموارد المطلوبة لتدريب هذه النماذج وتشغيلها، ما يعوق جهود تحسين قدرات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وتخفيف مشكلاتها، وعلى رأسها إمكانية إنتاج معلومات (مضللة)».
بينما أعلنت شركة «غوغل»، عن عزمها إطلاق نسختها الخاصة من الذكاء الاصطناعي، لا سيما أنها ترى في الشراكة بين «مايكروسفت» و«أوبن إيه آي»، «تهديدا لهيمنتها على عرش محركات البحث»، بعدما أعلنت «مايكروسوفت»، عزمها على «دمج (تشات جي بي تي) في محرك البحث الخاص بها (بينغ)، وكذلك متصفح (إيدج)».


مقالات ذات صلة

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
إعلام الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية» في الرياض.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
المشرق العربي الهواتف الجوالة مصدر معلومات بعيداً عن الرقابة الرسمية (تعبيرية - أ.ف.ب)

شاشة الجوال مصدر حصول السوريين على أخبار المعارك الجارية؟

شكلت مواقع «السوشيال ميديا» والقنوات الفضائية العربية والأجنبية، مصدراً سريعاً لسكان مناطق نفوذ الحكومة السورية لمعرفة تطورات الأحداث.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
TT

كيف يؤطّر الإعلام المعارك ويتلاعب بسردياتها؟

دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)
دخان يتصاعد خلال عملية عسكرية إسرائيلية على مخيم «نور شمس» للاجئين قرب مدينة طولكرم في الضفة الغربية (إ ب أ)

سواء في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط راهناً، لعب الإعلام دوراً مثيراً للجدل، وسط اتهامات بتأطير مخاتل للصراعات، وصناعة سرديات وهمية.

هذا الدور ليس بجديد على الإعلام، حيث وثَّقته ورصدته دراسات دولية عدة، «فلطالما كانت لوسائل الإعلام علاقة خاصة بالحروب والصراعات، ويرجع ذلك إلى ما تكتسبه تلك الحروب من قيمة إخبارية بسبب آثارها الأمنية على الجمهور»، حسب دراسة نشرتها جامعة كولومبيا الأميركية عام 2000.

الدراسة أوضحت أن «الصراع بمثابة الأدرينالين في وسائل الإعلام. ويتم تدريب الصحافيين على البحث عن الخلافات والعثور على الحرب التي لا تقاوم. وإذا صادفت وكانت الحرب مرتبطة بهم، يزداد الحماس لتغطيتها».

لكنَّ الأمر لا يتعلق فقط بدور وسائل الإعلام في نقل ما يدور من أحداث على الأرض، بل بترويج وسائل الإعلام لروايات بعضها مضلِّل، مما «قد يؤثر في مجريات الحروب والصراعات ويربك صانع القرار والمقاتلين والجمهور والمراقبين»، حسب خبراء وإعلاميين تحدثوا مع «الشرق الأوسط»، وأشاروا إلى أن «الإعلام في زمن الحروب يتخندق لصالح جهات معينة، ويحاول صناعة رموز والترويج لانتصارات وهمية».

يوشنا إكو

حقاً «تلعب وسائل الإعلام دوراً في الصراعات والحروب»، وفق الباحث الإعلامي الأميركي، رئيس ومؤسس «مركز الإعلام ومبادرات السلام» في نيويورك، يوشنا إكو، الذي قال إن «القلم أقوى من السيف، مما يعني أن السرد حول الحروب يمكن أن يحدد النتيجة».

وأشار إلى أن قوة الإعلام هي الدافع وراء الاستثمار في حرب المعلومات والدعاية»، ضارباً المثل بـ«الغزو الأميركي للعراق الذي استطاعت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش تسويقه للرأي العام الأميركي باستخدام وسائل الإعلام».

وأضاف إكو أن «وسائل الإعلام عادةً ما تُستخدم للتلاعب بسرديات الحروب والصراعات للتأثير في الرأي العام ودفعه لتبني آراء وتوجهات معينة»، مشيراً في هذا الصدد إلى «استخدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وسائل الإعلام لتأطير الحرب ضد أوكرانيا، وتصويرها على أنها عملية عسكرية وليست حرباً».

لكنَّ «الصورة ليست قاتمة تماماً، ففي أحيان أخرى تلعب وسائل الإعلام دوراً مناقضاً»، حسب إكو، الذي يشير هنا إلى دور الإعلام «في تشويه سمعة الحرب الأميركية في فيتنام مما أجبر إدارة الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون على الاعتراف بالخسارة ووقف الحرب».

وبداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، عُقدت الحلقة الدراسية الإعلامية الدولية الثلاثية للأمم المتحدة حول السلام في الشرق الأوسط بجنيف، لبحث التحديات في متابعة «حرب غزة». وأشارت المناقشات إلى «تأطير الإعلام إسرائيل على أنها بطل للرواية، حيث تكون إسرائيل هي الأخيار وفلسطين وحماس الأشرار»، ولفتت المناقشات إلى أزمة مماثلة خلال تغطية الحرب الروسية - الأوكرانية. وقالت: «من شأن العناوين الرئيسية في التغطية الإعلامية أن تترك المرء مرتبكاً بشأن الوضع الحقيقي على الأرض، فلا سياق للأحداث».

ستيفن يونغبلود

وهنا، يشير مدير ومؤسس «مركز صحافة السلام العالمية» وأستاذ الإعلام ودراسات السلام في جامعة بارك، ستيفن يونغبلود، إلى أن «الصحافيين يُدفعون في أوقات الحروب إلى أقصى حدودهم المهنية والأخلاقية». وقال: «في هذه الأوقات، من المفيد أن يتراجع الصحافي قليلاً ويأخذ نفساً عميقاً ويتمعن في كيفية تغطية الأحداث، والعواقب المترتبة على ذلك»، لافتاً في هذا الصدد إلى «صحافة السلام بوصفها وسيلة قيمة للتأمل الذاتي». وأضاف أن «الإعلام يلعب دوراً في تأطير الحروب عبر اعتماد مصطلحات معينة لوصف الأحداث وإغفال أخرى، واستخدام صور وعناوين معينة تخدم في العادة أحد طرفي الصراع».

وتحدث يونغبلود عن «التباين الصارخ في التغطية بين وسائل الإعلام الغربية والروسية بشأن الحرب في أوكرانيا»، وقال إن «هذا التباين وحرص موسكو على نشر سرديتها على الأقل في الداخل هو ما يبرر تأييد نحو 58 في المائة من الروس للحرب».

أما على صعيد «حرب غزة»، فيشير يونغبلود إلى أن «أحد الأسئلة التي كانت مطروحة للنقاش الإعلامي في وقت من الأوقات كانت تتعلق بتسمية الصراع هل هو (حرب إسرائيل وغزة) أم (حرب إسرائيل وحماس)؟». وقال: «أعتقد أن الخيار الأخير أفضل وأكثر دقة».

ويعود جزء من السرديات التي تروجها وسائل الإعلام في زمن الحروب إلى ما تفرضه السلطات عليها من قيود. وهو ما رصدته مؤسسة «مراسلون بلا حدود»، في تقرير نشرته أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أشارت فيه إلى «ممارسة إسرائيل تعتيماً إعلامياً على قطاع غزة، عبر استهداف الصحافيين وتدمير غرف الأخبار، وقطع الإنترنت والكهرباء، وحظر الصحافة الأجنبية».

خالد القضاة

الصحافي وعضو مجلس نقابة الصحافيين الأردنيين، خالد القضاة، يرى أن «الدول والمنظمات التي تسعى لفرض الإرادة بقوة السلاح، عادةً ما تبدأ حروبها بالإعلام». وأوضح أن «الإعلام يُستخدم لتبرير الخطوات المقبلة عبر تقديم سرديات إما مشوَّهة وإما مجتزَأة لمنح الشرعية للحرب».

وقال: «في كثير من الأحيان تُستخدم وسائل الإعلام للتلاعب بالحقائق والشخوص وشيطنة الطرف الآخر وإبعاده عن حاضنته الشعبية»، وأشار إلى أن ذلك «يكون من خلال تبني سرديات معينة والعبث بالمصطلحات باستخدام كلمة عنف بدلاً من مقاومة، وأرض متنازع عليها بدلاً من محتلة».

وأضاف القضاة أن «تأطير الأحداث يجري أيضاً من خلال إسباغ سمات من قبيل: إرهابي، وعدو الإنسانية، على أحد طرفَي الصراع، ووسم الآخر بـ: الإصلاحي، والمدافع عن الحرية، كل ذلك يترافق مع استخدام صور وعناوين معينة تُسهم في مزيد من التأطير»، موضحاً أن «هذا التلاعب والعبث بسرديات الحروب والصراعات من شأنه إرباك الجمهور والرأي العام وربما التأثير في قرارات المعارك ونتائجها».

ولفت إلى أنه «قياساً على الحرب في غزة، يبدو واضحاً أن هذا التأطير لتغليب السردية الإسرائيلية على نظيرتها في الإعلام الغربي». في الوقت نفسه أشار القضاة إلى «إقدام الإعلام على صناعة رموز والحديث عن انتصارات وهمية وزائفة في بعض الأحيان لخدمة سردية طرف معين، وبث روح الهزيمة في الطرف الآخر».

منازل ومبانٍ مدمَّرة في مخيم المغازي للاجئين خلال العملية العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة (إ.ب.أ)

كان «مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية» قد أشار في تقرير نشره في ديسمبر (كانون الأول) 2023، إلى أن «اللغة التحريضية لتغطية وسائل الإعلام الأميركية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي تؤثر في تصور المجتمعات المختلفة بعضها لبعض ويمكن أن تكون سبباً لأعمال الكراهية». وأضاف: «هناك تحيز في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي بهدف إثارة رد فعل عاطفي، بدلاً من تقديم رؤية حقيقية للأحداث».

حسن عماد مكاوي

عميد كلية الإعلام الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور حسن عماد مكاوي، يرى أن «توظيف الدول وأجهزة الاستخبارات لوسائل الإعلام أمر طبيعي ومتعارف عليه، لا سيما في زمن الحروب والصراعات». وقال إن «أحد أدوار الإعلام هو نقل المعلومات التي تؤثر في اتجاهات الجماهير لخدمة أهداف الأمن القومي والسياسة العليا». وأضاف أن «وسائل الإعلام تلعب هذا الدور بأشكال مختلفة في كل دول العالم، بغضّ النظر عن ملكيتها، وانضمت إليها حديثاً وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يجري توظيف شخصيات تبدو مستقلة للعب نفس الدور ونقل رسائل الدولة أو الحكومة».

وأشار مكاوي إلى أن «هذه العملية لا تخلو من ترويج الشائعات ونشر أخبار مضللة، والتركيز على أمور وصرف النظر عن أخرى وفق أهداف محددة مخططة بالأساس». وضرب مثلاً بـ«حرب غزة» التي «تشهد تعتيماً إعلامياً من جانب إسرائيل لنقل رسائل رسمية فقط تستهدف تأطير الأحداث في سياق معين».