احتفل بشر كثيرون يوم الثلاثاء 14 فبراير (شباط) الماضي، في بقاع مختلفة من العالم، بيوم الرومانسية أو «عيد الحب»، الذي تُروى قصص كثيرة عن نشأته، بعضها يحمل طابعاً أسطورياً. لا نسعى هنا إلى استدعائها أو نقدها، بل إلى تأمل جوهر العاطفة المحتفى بها، وما تنطوي عليه من شعور جياش يربط رجلا بامرأة لكنه لا يتوقف عندهما حصراً وإلا أصبح مجرد أنانية ضخمة نسبياً، تمتد لتضم الذات مع المحبوب، فيما يصير الحب، حال صدقه، أقرب إلى كيمياء كونية، ولاصق روحي ينطوي على جل المشاعر السامية، ومن بينها الإيمان الديني نفسه، الذي لا يعدو أن يكون تنويعة على لحن تلك العاطفة الكونية؛ فالإيمان والحب يصدران عن نبع واحد، يتطلبان تطهيراً نفسياً، ويفترضان سمواً روحياً، ولو تباينت ذات المحبوب بين الألوهية المطلقة، والإنسانية العادية. ولذا فالمؤمن الحقيقي أقدر على تمثل مشاعر الحب، إذ يعشق الناس والكون، امتناناً للخالق العظيم. والمحب الصادق أقدر على اكتساب روحانية الإيمان، لأن في الحب سراً قدسياً يشبه نشوة الزهاد والنساك. ولعل هذا يفسر لنا كيف أن المؤمنين حقاً يحبون الناس جميعاً، ولو كانوا على غير دينهم، وأن المؤمنين زيفاً يسعون إلى تدمير غيرهم ولو كانوا على دينهم؟ ولماذا شهدت عقود التأسلم العنيف فقراً حضارياً كاملاً، وذبولاً عاطفياً واضحاً.
تكمن القيمة الكبرى للحب في قدرته على أن يخرجنا من كهف الوحدة وأسر الذات، وأن يدمجنا في الوجود الرحيب، بحيث نتعامل مع الآخرين كذوات حية وليس مجرد موضوعات، بل ويدفعنا إلى التعامل مع الجمادات نفسها على أنها حية؛ فالمحبون كثيراً ما يشعرون وكأن العالم يناجيهم، ويحسون بالرغبة في التواصل مع الأشياء المنتمية إلى عالم المحبوب، التي ربما لمسها بيده أو رمقها بعينيه، ولذا كان الحب دوماً فعلاً أخلاقياً وسلوكاً نبيلاً يقدره حتى أولئك الذين لم يجربوه، لأن ثمة شعورا لديهم بأن في صدور المحبين، يقبع شيء جميل وخير، يستطيع تخليصنا من أسر الكراهية والحقد، وتحريرنا من قسوة العنف والشر، كي لا تصير دنيانا مقتلة كبرى للروح أو مقبرة ضيقة للجسد.
يدعي البعض أن الحب ظاهرة لم تنشأ إلا بفضل الذوق الحديث، رابطاً بين الرومانسية وعصر النهضة، حيث أخذ يتوافر للناس وقت الفراغ مع القدرة ليس فقط على التعبير عن مشاعرهم ولكن أيضاً على تدوينها، لتصبح الظاهرة الرومانسية ابنة للآداب والفنون الإنسانية. غير أن ذلك الفهم ليس إلا وهماً ثقافياً أزكته المركزية الأوروبية، ينبع من خلط واضح بين الوجود الفعلي للظاهرة وملابسات التعبير عنها، فالتعبير الأدبي عن الحب ليس إلا غلافاً خارجياً يفترض تطورا حضاريا تأخر بلوغه. أما الحب نفسه فقديم قِدَم الوجود الإنساني، عبرت عنه جل التراثيات الثقافية ولو بأشكال مختلفة. فمثلا، عبر عنه شعراء الجاهلية العرب في قصائد ومعلقات بعضها كان شفهياً، وبعضها جرى تدوينه فانتقل إلينا مشكلاً جزءاً يعتد به من الظاهرة الرومانسية. وفي التراث الإسلامي ثمة توقير للحب نطالعه لدى أدباء كالجاحظ ومتصوفة كالتوحيدي بل لدى فقهاء كابن حزم، الظاهري، في كتابه الأشهر طوق الحمامة، إذ يصف الحب قائلا: «دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل».
أما البعض الآخر فيقلل من الشعور بالحب، واصفاً إياه بالأنانية المقنعة، فالمحب الذي يتألم لفراق محبوبه إنما يتألم لنفسه التي فقدت امتدادها، والعاشق الذي يحرص على وصال معشوقه إنما يعكس رغبة في تملك جسده. غير أن هذا التصور يبدو متشائماً جداً، لأن حب الذات حقيقة تتخلل كل العلاقات من دون أن تنفيها، فحتى علاقة الأمومة، أسمى العلاقات الكونية وأكثرها أصالة، يرى البعض فيها مجرد تعبير عن الذات الأنثوية، تمارسها المرأة خشية أن توصف بالنقص. وبقدر ما نحتج على وصم مفهوم الأمومة بالنفعية ولو كانت بعض نماذجه كذلك، نحتج على تشويه ظاهرة الحب لأن بعض المحبين أنانيون، لا تعدو قصصهم أن تكون حكايات صغيرة وتافهة؛ فثمة عشاق حقيقيون، حكاياتهم أكبر وأعمق، يجعلهم الحب أكثر قوة ولو غاب عنهم رفقاء أرواحهم، إذ يشعرون في وحدتهم بامتداد ودفء لا يجدونهما وسط الزحام، حيث الأجساد الكثيفة تحيطهم وتضغط عليهم دون قدرة على النفاذ إلى داخلهم. ولهذا يجب أن نعذر المحبين الذين يغلقون دنياهم على ذكرى الراحلين، فالذكريات الجميلة، ولو كانت بعيدة، تحيط المحب بأطياف دافئة، تعانقه على الدوام وتحول دون شعوره بالوحشة، فالغربة تنبع من مصادر روحية عابرة للمكان والزمان.
يشعر العاشقون وكأنهم يسيرون فوق السحاب، وهو ما يفسره العلم الحديث بوجود كيمياء خاصة للحب تبدأ تفاعلها بالتقاء العيون وتلامس الأيدي وتسري إلى الدماغ على نحو يبعث النشوة في روح وجسد الإنسان. كما يربطون بين الحب والأمل، قائلين مع القديس بولس «المحبة تؤمن بكل شيء وترجو كل شيء»، ومع الكاتب الفرنسي ستندال: «الحب نصف الحياة، بل النصف الأجمل فيها». غير أن الحب لا يعني أن يرفل المحب في سعادة أبدية وأمل دائم بل ربما صار الحب نفسه باباً للألم، عندما ينقضي باختفاء المحبوب أو يذبل بصده، فعندها يشعر المحب وكأنه لم يعد شيئاً في هذا العالم بعد أن كان كل شيء فيه. لكن الألم المتولد عن الحب يبقى خيراً من افتقاده، فالحب، كالإيمان، ضرورة بشرية لملامسة قلب الوجود الدافق. وإذا كان وقوع المؤمن في المعصية لا ينفي أهمية الإيمان، فإن شعور المحب بالألم لا يقلل من جدوى الحب. في الإيمان تنهض التوبة بتجديد العهد مع الله، وفي الحب يقوم النسيان بمد الجسور مع الكون، وهنا نقترب من قول الفيلسوف الوجودي كيركيغورد: «اليأس مرض من تلك الأمراض التي يجب أن نعرفها، لأن يقظة الروح لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال اليأس». لا يقصد كيركيغورد هنا اليأس كمصير محتوم أو غاية مرجوة لذاتها، بل كعرض جانبي لأمل شاهق ضائع، فالروح اليقظى ولو كانت متألمة، أفضل كثيراً للإنسان من روح خاملة يحيطها العبث ويحاصرها الخواء، فالألم قد يزيل الفرح، غير أنه لا يقتل المعنى الضروري للحياة.
يتبدى المحب رقيقاً هادئاً، ولكنه ينطوي جوهرياً على قوة مضاعفة وصلابة واضحة، تتغذى على ذات المحبوب، وتنمو بامتداده، ولذا فإن الحب يصنع المعجزات حقاً، لو أحسنا فهم المعجزة باعتبارها إرادة الإنسان نفسه عندما تبلغ ذروتها، فالحب عامل تفجير للإرادة، يكشف للإنسان حدود قدراته التي كان يجهلها. وفي المقابل، يدفعه إلى الرضا عن حظوظه وأقداره لأن امتلاءه الداخلي وسموه الوجداني يقللان من حاجته إلى الأشياء الخارجية كالمال والسلطان، فيبدو غنياً جداً وقوياً جداً دون ثروة أو سلطة، لأن مركز إلهامه ينبع من داخله وقوة حضوره تتركز في ذاته، وليس فيما يحيط بها، ولذا يبقى تأثير هذا المحيط عليه ضئيلاً، إذ لا يمكن للآخرين أن ينتزعوا منه شيئا عزيزاً عليه، فيما هم لا يرون هذا الشيء ولا يمكن أن يلمسوه، ومن ثم يتألق وجوده في العالم.
* باحث مصري