أنسي الحاج عاش تجربة القصيدة بالجسد والروح... والصمت

قصائد ممسرحة ومشروع فيلم وثائقي في ذكراه

أنسي الحاج عاش تجربة القصيدة بالجسد والروح... والصمت
TT

أنسي الحاج عاش تجربة القصيدة بالجسد والروح... والصمت

أنسي الحاج عاش تجربة القصيدة بالجسد والروح... والصمت

كان الواقفون بجانب جدران «مسرح ليلى تركي» بالمكتبة الشرقية التابعة للجامعة اليسوعية في بيروت، لا تقل أعدادهم كثيراً عن الجالسين على مقاعد امتلأت للاحتفال بصدور مجموعة أنسي الحاج الشعرية الكاملة (دار المتوسط) في الذكرى التاسعة لغيابه. لساعة، عبَق المكان بشعر المُحتفَى به، ممسرَحاً بأصوات الممثلين: رفعت طربيه، جوليا قصار، علي مطر. فرِد نصر يعزف على الكمان، ورانيا غصن الحاج تغنّي من قصائده.
تراقب لينا أبيض، مخرجة الأمسية، الممثلين وهم يقرأون الأشعار بشغف. كان ذلك بعد افتتاح الشاعر عبده وازن للأمسية التي اختير لها عنوان «قولوا هذا موعدي»، من قصيدة «ماذا صنعتَ بالذهب، ماذا فعلتَ بالوردة».
ونُظمت هذه الأمسية بدعوة من «مهرجان بيروت للأفلام الفنية»، ومؤسسته أليس مغبغب، الطامحة إلى إنتاج فيلم وثائقي عن الحاج، تُشكل الأمسية بعضاً من أحداثه.
استعاد وازن أنسي الحاج الذي «يفتحُ الباب ويدخل، ثم يخرج من غير أن يزعج أحداً»، وسمّاه «شاعر الليل الرقيق، مثل غيمة الفجر التي كانت تُعلمه أنّ العتمة مضت، وفي مستطاعه الآن أن ينام»، كذلك توقّف عند مكانته «شاعراً وناثراً، صوتاً متمرداً ومحتجاً وصارخاً؛ شاعراً مطعوناً بحربة وطن كان يحلم به، فخانه مثلما خان كل اللبنانيين الأنقياء».
ويتابع وازن كلمته: «كان أنسي في السابعة والسبعين عندما أغمض عينيه (...). لم نشعر مرة، نحن أصدقاءه، أنه بلغ هذا العمر. فكلما مضت به الأعوام يزداد تألقاً ونضارة. ظلّ عصب الكتابة مشدوداً لديه كالوتر حتى آخر فصول العمر».
ويمرّ على دواوينه وقصائده وخواتمه، وعلى «أحلام الكائن الذي حدّق إلى السماء بنظرة حارقة بينما قدماه على الأرض». إنه الشاعر الذي كان غيابه -بكلام وازن- هو أيضاً «غيابٌ عن خيبات، في مطلعها خيبة وطن لم يستطع أن يصبح وطناً ولا أهله مواطنين».
يتحسّر الشاعر على غياب أنسي، وقد بدا بدوره «إحدى قصائده الأليمة التي كتبها بحبر الاحتضار والأرق والمواجهة الميتافيزيقية». فيصبح وجوده على الأرض «عمراً قصيراً في حياة شاعر بحجمه، توّاق دائماً إلى الحياة كما أرادها: حياة الحالمين الكبار والطامحين أن يروا المعجزة ولو طال انتظارها».
ويستذكر «الأيام الأخيرة التي خامر فيها لحظات الاحتضار الطويل والأليم»، ليذكُره وهو يسأل حين ينهض، متى يمكنه أن يكتب؟ يُكمل وازن: «هذا الشاعر الذي وجد في الكتابة قدراً كان يستحيل عليه أن يعيش بعيداً عنها، حتى خلال صمته أعواماً غداة اندلاع الحرب الأهلية (اللبنانية)، جعل أنسي من هذا الصمت أجمل نص يمكن أن يُكتب».
ويصف المحاضر ولادة ديوان «لن»، كـ«صرخة مدوّية في ليل العالم، تحمل في قرارتها أصداء القصيدة الجديدة؛ قصيدة المستقبل والمواجهة الساخرة». ويتوقف على مقدّمة الديوان واصفاً إياها بـ«أول بيان لقصيدة النثر العربية، وهو بيان كتبه شاعرنا بدم الشعر، بعدما عاش تجربة القصيدة بالجسد والروح».
كذلك، يتناول مقالاته في زاويته «كلمات كلمات كلمات» على صفحات «ملحق النهار» الذي أسسه عام 1964؛ حين كان في الرابعة والعشرين من عمره، ومارس فيه «أقصى أحوال الحرية في الكتابة» إلى أن وقعت الحرب الأهلية: «فكان أنسي الحاج واحداً من أوائل ضحاياها، ولم تكن الصدمة عابرة وبسيطة؛ بل أصابت الشاعر في عمق وجدانه الشخصي، فارتقى أمام هول الكارثة... وصمت؛ لكن صمتَ الفارس الجريح، قبل أن ينهض من عزلته ويكتب».
شهادة عبده وازن، تبعتها وقفة مع شعر الحاج بصوته ومرور صوره على شاشة كبيرة. تناديه الشاعرة الابنة: «تعالَ! أدعوك إلى حفل يليق بولائم شعرك (...) أعدك لن تكون ماضياً، أنت حاضرُ الأيام الآتية»، وتقرأ من قصائده بالفرنسية والعربية.
تقول ندى الحاج لـ«الشرق الأوسط» إنّ «الزمن يختفي» حين يتعلق بالأب الشاعر المُغادر؛ لكنه الأبدي البقاء بحضورٍ عصي على الخفوت. تستمد تأثيره من «إرثه الفكري والإنساني، لا الشعري فحسب، وحاجتي إلى أن تقرأه كل الأجيال». إنّ أنسي الحاج ليس ملكها: «يصدف أنني ابنته وشاعرة مخلصة للإرث؛ لكنه للكل». تعيد قراءة شعره، تقيّمه، تغربله وتراجعه: «بعيون أنسي وفكره، والثقة التي منحني إياها... الثقل الإيجابي المُلقى عليَّ، مسؤولية»، يهوّنها «حضوره الروحي معي وتواصلي معه».
خلال الأمسية، تأمّلت وجوه ضيوفها، فأسعدها أنهم من أجيال مختلفة، منهم الشباب وأصدقاء الشاعر. أرادت لينا أبيض أن يخرج الحضور وعلى ألسنتهم شعر أنسي، فعَلَتْ أصوات تردّد قصيدته. تختلط بسمة ندى الحاج بتنهيدة، وهي تعلن انتصار «الهزة الشعرية» على ارتدادات اهتزاز الأرض: «الناس لم يغادروا، وهذا رائع».


مقالات ذات صلة

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

يوميات الشرق ذاكرة إسطنبول المعاصرة ورواية أورهان باموك الشهيرة في متحف واحد في إسطنبول (الشرق الأوسط)

«متحف البراءة»... جولة في ذاكرة إسطنبول حسب توقيت أورهان باموك

لعلّه المتحف الوحيد الذي تُعرض فيه عيدان كبريت، وبطاقات يانصيب، وأعقاب سجائر... لكن، على غرابتها وبساطتها، تروي تفاصيل "متحف البراءة" إحدى أجمل حكايات إسطنبول.

كريستين حبيب (إسطنبول)
كتب فرويد

كبار العلماء في رسائلهم الشخصية

ما أول شيء يتبادر إلى ذهنك إذا ذكر اسم عالم الطبيعة والرياضيات الألماني ألبرت آينشتاين؟ نظرية النسبية، بلا شك، ومعادلته التي كانت أساساً لصنع القنبلة الذرية

د. ماهر شفيق فريد
كتب ناثان هيل

«الرفاهية»... تشريح للمجتمع الأميركي في زمن الرقميات

فلنفرض أن روميو وجولييت تزوَّجا، بعد مرور عشرين سنة سنكتشف أن روميو ليس أباً مثالياً لأبنائه، وأن جولييت تشعر بالملل في حياتها وفي عملها.

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

ترجمة عربية لـ«دليل الإنسايية»

صدر حديثاً عن دار نوفل - هاشيت أنطوان كتاب «دليل الإنسايية» للكاتبة والمخرجة الآيسلندية رند غنستاينردوتر، وذلك ضمن سلسلة «إشراقات».

«الشرق الأوسط» (بيروت)
ثقافة وفنون «شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

«شجرة الصفصاف»... مقاربة لعلاقة الشرق والغرب

عن دار «بيت الياسمين» للنشر بالقاهرة، صدرتْ المجموعة القصصية «شجرة الصفصاف» للكاتب محمد المليجي، التي تتناول عدداً من الموضوعات المتنوعة مثل علاقة الأب بأبنائه

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».