كيف ينتقل العالم من الشفافية إلى السرية؟... أميركا نموذجاً

تظهر هذه الصورة الواردة في ملف للمحكمة من قبل وزارة العدل الأميركية في 30 أغسطس 2022 وثائق ضبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي في 8 أغسطس لدى الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)
تظهر هذه الصورة الواردة في ملف للمحكمة من قبل وزارة العدل الأميركية في 30 أغسطس 2022 وثائق ضبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي في 8 أغسطس لدى الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)
TT

كيف ينتقل العالم من الشفافية إلى السرية؟... أميركا نموذجاً

تظهر هذه الصورة الواردة في ملف للمحكمة من قبل وزارة العدل الأميركية في 30 أغسطس 2022 وثائق ضبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي في 8 أغسطس لدى الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)
تظهر هذه الصورة الواردة في ملف للمحكمة من قبل وزارة العدل الأميركية في 30 أغسطس 2022 وثائق ضبطها مكتب التحقيقات الفيدرالي في 8 أغسطس لدى الرئيس السابق دونالد ترمب (أ.ب)

قبل الحرب العالمية الثانية، كانت الشفافية تقليداً تفخر به الولايات المتحدة. في جميع الظروف باستثناء أخطرها، كانت السرية والتجسس أمرين غير مقبولَين في الولايات المتحدة. ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، ابتعدت الولايات المتحدة جذرياً عن هذا التقليد، مما سمح لوكالات الاستخبارات والمختبرات السرية بالنمو في الولايات المتحدة دون رادع. يصر المسؤولون الأميركيون على أن السرية فقط هي التي يمكن أن تحافظ على سلامة البلاد، لكن التكاليف الحقيقية لم يتم الاعتراف بها لفترة طويلة.
تقدم وكالة المخابرات المركزية الأميركية محرك بحث إلكترونياً يتيح للمهتمين استخراج 11 مليون وثيقة، تم رفع السرية عنها على مر السنين. لكن هذا لا يمثل سوى جزء من المواد التي رفعت عنها السرية من وكالة المخابرات المركزية، وإذا كنت تريد الوصول غير المقيد إلى محرك البحث، فسيتعين عليك زيارة الأرشيف الوطني بنفسك في كوليدج بارك بولاية ماريلاند.
لكن رغم السرية، هناك بعض التسريبات التي تحدث بين الحين والآخر، والتي قد يتورط بها أحياناً مسؤولون كبار في الإدارة الأميركية. وليس سراً أن السرية الحكومية قد بدأت تتلاشى. ظهرت مؤخراً وثائق سرية في منازل الرئيس بايدن ونائبه السابق مايك بنس، وقبل ذلك تم اكتشاف سجلات بالغة السرية في منزل الرئيس السابق دونالد ترمب الذي، على ما يبدو، أخفى عن عمد السجلات في منزله في فلوريدا، وأبعدها بشكل غير قانوني عن المحفوظات الوطنية.
لكن المشكلة أسوأ من هذه المخالفات الفردية. يقول الكاتب والباحث الأميركي ماثيو كونيلي في كتابه «محرك رفع السرية: ما يكشفه التاريخ عن أهم أسرار أميركا» (بانثيون، فبراير «شباط» 2023)، إن حكومة الولايات المتحدة نفسها مذنبة منذ فترة طويلة بالسلوك نفسه على نطاق محير للعقل، حيث سلبت الشعب الأميركي الحق في معرفة ما تفعله الحكومة الأميركية باسمهم في الماضي غير البعيد.
كيف أجرى الرؤساء الأميركيون السابقون تحالفات مع حكام استبداديين بعكس ما تدعو إليه القيم الأميركية التي تأسست عليها الولايات المتحدة؟ كيف اتخذوا من اغتيال أعداء أميركا أسلوباً من أساليب السياسة الخارجية؟ لماذا خسر «البنتاغون» حربه التي استمرت 20 عاماً في أفغانستان؟ ماذا كان وراء علاقة ترمب الودية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟ وماذا قال بعضهم لبعض وراء الأبواب المغلقة؟ ربما يكتشف أحفادنا ذلك، وربما لا يكتشفون أي شيء من هذه المعلومات التي تم تصنيفها على أنها سرية.
كونيلي، وهو أستاذ التاريخ بجامعة كولومبيا، يتتبع أصول نظام الابتعاد عن الشفافية واعتماد السرية بشكل واسع إلى مشروع مانهاتن، وهو مشروع بحث وتطوير جرى العمل عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية لإنتاج الأسلحة الذرية لأول مرة. ولدت القنبلة الذرية سراً، وساعد الجنرال ليزلي جروفز جونيور، الذي أشرف على برنامج بنائها، في إنشاء نظام التصنيف السري الحالي لإبقائها على هذا النحو. هذا لم يمنع جواسيس السوفيات من سرقة تفاصيل مهمة حول القنبلة قبل أن تستخدمها أميركا في عام 1945. لقد منع هذا التصنيف السري حتى رئيس الولايات المتحدة هاري ترومان من معرفة حجم الترسانة الذرية في بلاده حتى عام أو عامين في رئاسته. ثم، في عام 1947، جاء إنشاء وكالة المخابرات المركزية ودولة الأمن القومي الحديثة. نمت آلية التصنيف ومخزون الأسرار بشكل كبير منذ ذلك الحين. والآن يمنع المسؤولون العسكريون والاستخباراتيون في الولايات المتحدة الشعب الأميركي من معرفة تفاصيل مهمة من تاريخهم الحديث.
بموجب القانون، يتوجب على وزارة الخارجية الأميركية إصدار تقرير كامل ودقيق للسياسة الخارجية الأميركية. هذه السجلات، واسمها «العلاقات الخارجية للولايات المتحدة»، التي نُشرت منذ عام 1861. تلقي الضوء على ما يعتقده القادة الأميركيون وفعلوه حقاً عندما أظهروا قوة الولايات المتحدة حول العالم. ولكن رغم مرور عشرات السنين، لا تزال وكالة المخابرات المركزية الأميركية و«البنتاغون» يحافظان على سرية كبيرة لسلسلة «العلاقات الخارجية للولايات المتحدة»، التي يتم إصدار مجلد واحد منها في السنة. بعض السجلات التي يعود تاريخها إلى عام 1956 لم ترَ النور. لم تبدأ سجلات إدارة ريغان في الظهور إلا مؤخراً. وبالمعدل الذي تسير فيه الأمور، فإن إصدار سجلات السياسة الخارجية الأميركية في القرن العشرين لن يكتمل حتى القرن الثاني والعشرين.
حدد كونيلي أزمة وجودية تتمثل في إخفاء وقمع التاريخ الأميركي. قبل عشر سنوات، سعى كونيلي إلى معالجة هذه الأزمة. أراد هو وزملاؤه من المؤرخين وعلماء الرياضيات وعلماء الكومبيوتر في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك إنشاء أكبر أرشيف في العالم لسجلات الحكومة التي رفعت عنها السرية، وأطلق على المشروع اسم «محرك رفع السرية»، ويسعى إلى توفير قاعدة بيانات واحدة على الإنترنت للوثائق التي تم رفع السرية عنها من جميع أنحاء الحكومة الفيدرالية، بما في ذلك وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية، وأي وكالة أخرى. كان هدفهم كسر مشكلة رفع السرية و«الكشف عما لا تريدنا الحكومة أن نعرفه، ولماذا لا يريدون منا ألا نعرفه». لكن النتائج المنشورة عبارة عن حفنة من الإبر في جبل من القش، وقد يستغرق الأمر سنوات عديدة حتى يبدأ محرك كونيلي في تحقيق تطلعاته. مع ذلك، يمكن القول إنها بداية جيدة. ويقر كونيلي بهذه الحقيقة قائلاً: «لن نجد كل الإجابات، بالطبع، لكن يمكننا الاقتراب بشكل ملموس من الحقيقة».
وهذا يجعل المراسلين والنشطاء القوة المضادة الوحيدة المتسقة ضد مبدأ السرية في الحكومة. على مر السنين، كشفت صحيفتا «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» النقاب عن المراقبة غير القانونية للأميركيين المعارضين في عهد الرئيسين جونسون ونيكسون، وكشفتا تفاصيل مبيعات إدارة ريغان للأسلحة لإيران، والتجسس المحلي داخل الولايات المتحدة الذي تقوم به وكالة الأمن القومي، وكشفتا عن قيام وكالة المخابرات المركزية بتعذيب سجناء في المواقع السوداء، ووثقتا الأكاذيب والفساد الذي تغلغل في إخفاقات «البنتاغون» في أفغانستان.
عام 1971، حصلت صحيفة «نيويورك تايمز» على «أوراق البنتاغون»، التاريخ السري للحرب في فيتنام، من المحلل العسكري المتمرد دانيال إلسبيرغ، الذي سعت وزارة العدل الأميركية إلى سجنه بتهمة التجسس. أظهرت الصحف بوضوح أن الحكومة كانت تكذب على الشعب الأميركي بشأن الحرب لسنوات. عندما رفعت إدارة نيكسون دعوى قضائية ضد صحيفة «نيويورك تايمز» لوقف النشر، قدم محررها في واشنطن، ماكس فرانكل، الذي لم يكن راديكالياً، إفادة خطية إلى المحكمة، جاء فيها أن الحكومة أساءت استخدام سلطتها بشكل روتيني «من خلال فرض السرية دون وجود ما يبرر ذلك أو من خلال الاحتفاظ بها لفترة طويلة بعد أن أصبح التبرير باطلاً... لإخفاء أخطاء الحكم، وحماية سمعة الأفراد، والتستر على خسارة الأموال وهدرها، يتم الاحتفاظ بكل شيء تقريباً في الحكومة سراً لبعض الوقت. وفي مجال السياسة الخارجية، يتم تصنيفها على أنها (سرية) و(حساسة) دون أي مبرر قانوني أو سبب. يمكن لكل مسؤول صغير أن يشهد على هذه الحقيقة».
يوضح كتاب «محرك رفع السرية» أن ثقافة السرية تقوض الديمقراطية التي ترفع الولايات المتحدة رايتها في جميع المحافل، وقد أصبحت السرية الآن ثقافة تدمير أيضاً. يقول كونيلي إن الرئيس ترمب كانت لديه عادة تمزيق الأوراق الرئاسية. تفكر وزارة الخارجية الآن في فعل الشيء نفسه، وعلى نطاق واسع من خلال إطلاق العنان لخوارزميات هندسية تعمل على حذف وثائق السياسة الخارجية تلقائياً. يقول كونيلي إنه إذا حدث هذا، «فسيتم تدمير الغالبية العظمى من السجلات التاريخية المهمة تلقائياً، وسيتلف الكثير مما تبقى. إنها، بالمعنى الحرفي للكلمة، نهاية التاريخ كما نعرفه».

* باحث ومترجم سوري



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم