طفرات الحضارة المعاصرة... بين العلم والتكنولوجيا والفكر

روبوت للتوزيع يسير في أحد شوارع طوكيو 13 يناير الماضي (أ.ف.ب)
روبوت للتوزيع يسير في أحد شوارع طوكيو 13 يناير الماضي (أ.ف.ب)
TT

طفرات الحضارة المعاصرة... بين العلم والتكنولوجيا والفكر

روبوت للتوزيع يسير في أحد شوارع طوكيو 13 يناير الماضي (أ.ف.ب)
روبوت للتوزيع يسير في أحد شوارع طوكيو 13 يناير الماضي (أ.ف.ب)

كيف ينشأ العالم التكنولوجي، بتقنياته المبهرة، من أساسيات العلم النظرية؟ كيف يؤدي التطور التقني بدوره إلى طفرات معرفية تدفع العلم الأساسي قدماً؟ وكيف يؤثر ذلك في فكر وتصورات الإنسان؟ اتصال حلقات تلك السلسلة، بعناصرها المؤسسة للعالم المعاصر، ليس دائماً واضحاً في عالمنا العربي، مما يؤزم محاولات التواصل مع الحضارة المعاصرة.
العالم الحديث نشأ من ثورة علمية اندلعت نتيجة تكهنات واكتشافات فلكية، لخصها نيوتن في قوانين عامة ربطت تجوال الكواكب في السماء بحركة الأجسام حولنا (مثل سقوط التفاحة الأسطورية من الشجرة). هذا الربط بين طبيعة الكون كليّاً وبين حياتنا اليومية كان مذهلاً، ليس لكونه غريباً عن فكر الإنسان عامة، فالميثولوجيا التقليدية طالما عرضت أطروحات مماثلة عبر العصور، لكن نظراً لدقة المنهج الجديد، الملخص في معادلات رياضية يمكن اختبار تكهناتها وتنبؤاتها. عندما تكهنت نظرية نيوتن مثلاً بضرورة وجود كوكب مجهول في المجموعة الشمسية، نظراً لتأثيره المرصود على حركة الكواكب المعروفة، بحث لو فيريه عن هذا الكوكب (نبتون) ووجده في المكان نفسه بالضبط، الذي حددته النظرية. في الوقت نفسه، استخدم آخرون النظرية نفسها لحساب كيفية تصويب قذائف المدفعية بدقة نحو العدو.
هذا الربط الدقيق بين الكوني واليومي، كانت له تداعيات فكرية وثقافية واسعة النطاق أسست للعالم الحديث (كما شرحت في مقال 20 - 06 - 2022 على هذه الصفحة). لكن ما الذي جعل من حركة الكواكب بالذات أساساً للثورة العلمية؟ بالإضافة لكونه ساكناً لسماوات مجهولة، فإن نمط تجوال الكواكب فيه شيء جذب انتباه العقل المتأمل منذ الأزل؛ لأنه يجسد ظاهرة التكرار الدوري التي تجعل من السهل نسبياً التنبؤ بالمستقبل. فالعلم الحديث عبارة عن محاولة لتنظيم الكون بتلخيص أنماطه في قوانين رياضية تشرح تتبع الأحداث، والتكرار البسيط المجسد في توالي الليل والنهار ومواسم الصيف والشتاء يشكل بداية سهلة، يمكن من خلالها بدء خوض مشوار التنبؤ الرياضي بواسطة أرقام متكررة دورياً. فبساطة التكرار الدوري التي تتسم بها حركة الكواكب، الذي يجعلها مثل بندول الساعة، تجعل من السهل مثلاً التنبؤ بأن يوم 21 من يونيو (حزيران) سيكون أطول يوم في السنة في النصف الشمالي من الأرض، وتجعل من السهل كذلك التنبؤ بتاريخ وساعة رؤية الكسوف الشمسي أو القمري لمدة قرون طويلة في المستقبل.
ليست كل الظواهر الطبيعية بهذه البساطة. تغير الطقس مثلاً لا يخضع للنمط الدوري نفسه؛ لذلك يمكن التنبؤ فقط بأن درجة الحرارة يوم 21 من يونيو غالباً ما ستكون أعلى من مثيلتها يوم 21 ديسمبر (كانون الأول)، لكن لا يمكن بصفة عامة التنبؤ بدرجات الحرارة نفسها بدقة إلا لمدة بضعة أيام. ذلك رغم أن حالة الجو تخضع، كما تخضع حركة الكواكب، لقوانين رياضية صارمة، محددة وحتمية من حيث المبدأ. لكن طبيعة حلول المعادلات، لاستخراج أرقام منها تشير إلى حالة الطقس، تحتاج إلى تعريف حالته الحالية بدقة متناهية (أي معرفة دقيقة بكميات مثل درجة الحرارة والضغط الجوي وسرعات الرياح وكثافة الهواء في كل مكان على الأرض، في اللحظة الحالية)، وهذا ليس متاحاً بالطبع.
عملياً، تختفي قدرتنا على التنبؤ بمستقبل الجو بعد بضعة أيام؛ لأن تغيراته تأتي باستمرار بمستجدات نعجز عن مواكبتها بمعرفتنا المحدودة، على عكس حركة بندول الساعة التي تكرر نفسها ولا تأتي بجديد. أما حالة الكواكب فهي تشبه البندول لأزمان طويلة جداً، فزمن فقدان المعرفة عنها يقدر بملايين السنين، مما يمكننا من التنبؤ بسهولة ودقة بتعاقب الليل والنهار وحركة الأرض حول الشمس على مدى طويل. أما في حالة الطقس فيمكن التنبؤ بهذا المستقبل فقط إحصائياً - مثل التنبؤ بمعدلات درجات الحرارة في شهر معين في بلد معين - وحتى ذلك يكون صعباً في ظل وجود تغيرات مناخية مثل التي تشهدها الأرض مؤخراً.
وجود الفوضى والعشوائية في نظام طبيعي مثل المناخ، هو الذي يمكننا فقط من التنبؤ بالاحتمالات. تماماً كما، في سياق أبسط، يمكننا التنبؤ فقط بأن قرعة العملة المعدنية ستسفر عن «ملك أو كتابة»، باحتمالية نصف لكل منهما، لكن لا يمكن معرفة إذا كنا سنحصل على نتيجة ملك أو كتابة في تجربة معينة. هذا الجانب الفوضوي العشوائي للعالم الطبيعي هو الذي في أساس ما يسمى القانون الثاني للديناميكا الحرارية، والذي يقر بأن (في غياب المؤثرات الخارجية) الحرارة تنتقل من جسم ساخن إلى آخر بارد، رغم أن قوانين نيوتن (والنسبية وميكانيكا الكم كذلك) تقبل دائماً أن يحدث العكس؛ فإذا تابعت فيلماً لحركة بندول الساعة، لن تتمكن من معرفة إذا كان الفيلم معروضاً في الزمن الطبيعي أو كان معكوساً إلى الوراء، فالحركة في الاتجاهين مقبولة. لكن العشوائية الفعلية التي تجعل الكثير من الأنظمة لا تعمل كالساعة، تعني أن احتمالية تفاعل جزيئات المادة بطريقة تجعل الحرارة تذهب من الأسقع للأسخن غير مرجحة بشكل يجعل رصدها شبه مستحيل عملياً.
علم الديناميكا الحرارية لم يبدأ من تكهنات عن مكاننا في الكون، بل نشأ في إطار عملي بحت، تعلق بعمل محركات البخار التي ظهرت مع الثورة الصناعية في أعقاب الثورة العلمية. لكن سريعاً ما اتضح أن قوانين عمل موتورات القطارات لها تداعيات واسعة النطاق، تتطرق لمفاهيم أساسية لدى الإنسان مثل إحساسه بالزمن. فالقانون الثاني للديناميكا الحرارية هو الوحيد الذي نعرفه عن العالم الطبيعي الذي يصاحبه «سهم زمني»، يشير إلى أن الزمن يتحرك فقط نحو المستقبل كما يؤكد إحساسنا الداخلي.
هذا القانون النابع عن تطورات تكنولوجية، له تداعيات فلسفية؛ ليس فقط على تصورنا لمكاننا في الكون، إنما على تصوراتنا عن مصير الكون نفسه. هكذا اعتقد علماء عظام من بدايات القرن العشرين، مثل السيرين آرثر إدينجتون وجيمس جينز، أن هذا القانون معناه أن الكون «يموت» مثل موتور البخار (أو الإنسان) الذي يستنفد وقوده. وتكهن كذلك إدينجتون بأن هذه الحقيقة هي التي تربط قوانين الفيزياء بإحساس الإنسان الداخلي بالزمن، الممثل مثلاً في مفهوم الـ«مدة» لدى الفيلسوف هنري يرجسون، الذي اعتقد أن طبيعة الدهر مختلفة جذرياً عن طبيعة المكان. فلاحظ إدينجتون أن قوانين الفيزياء ليس فيها ما يحدد اتجاه التغير في المكان، لتناظر القيود التي يفرضها «السهم» النابع من القانون الثاني على الزمن.
أما حقيقة أن يرجسون كان قد أثَّر كثيراً كذلك في الثقافة العامة، بما في ذلك على مارسيل بروست في بحثه الملحمي عن «الزمن المفقود»، فتشير إلى اكتمال السلسلة التي تربط بين نتائج العلم الأساسي وتداعياته التكنولوجية، وتأثير الأخيرة بدورها على تقدم العلم الأساسي وتصوراته، وما ينبثق عن كل ذلك من تداعيات على فكر حضارة الإنسان في العالم المعاصر.
هذه هي السلسلة التي أعتقد أننا نفتقد الكثير من حلقاتها الواصلة. كمثال، كم من بين قراء هذا المقال يربط بين عمل جهاز الحاسب أو الهاتف أو التابلت، الذي قد يقرأ عليه النص وبين التداعيات الفكرية والحضارية الواسعة النطاق النابعة عن ميكانيكا الكم، التي في أساس هذه الأجهزة؟ أو يدرك أن ميكانيكا الكم، بتداعياتها التصورية الثورية، أتت أصلاً نتيجة تطورات عملية جداً في تكنولوجيا تحليل الضوء إلى ترددات وألوان، مثلما يحدث في ظاهرة قوس قزح، في سبيل إدراج بصمات للعناصر الكيميائية؟
في هذا السياق يمكن التساؤل: من أين سيأتي الاكتشاف العلمي الكبير القادم، الذي سيقلب نظرتنا للعالم الطبيعي، ومن ثم تصوراتنا وأنماط حياتنا، رأساً على عقب؟ أعتقد أنه من المرجح أن يأتي من اتجاه لن يتصوره من لا يدرك أهمية تواصل حلقات السلسلة المذكورة؛ لأني أعتقد أنه سيأتي «فلكياً»، كما حدث في بدايات الثورة العلمية ذاتها.
لدينا حالياً نموذج ناجح لتطور الكون ونشأة الأشياء خلاله؛ لكن الأغلبية الساحقة من المادة والطاقة فيه ما زالت في صورة غير معلومة، وتصاحب ذلك معضلات في تفاصيل خواص المجرات. الوضع يشبه حال «إراتوستينس»، مدير مكتبة الإسكندرية القديمة، حين نجح في حساب مدار الأرض، بمقارنة أطوال ظلال الأعمدة في الإسكندرية وأسوان، رغم أنه لم يعرف شيئاً عن أميركا وأستراليا أو المحيطات الشاسعة التي تحيطهما. في سياق العلم المعاصر لدينا كذلك «أعمدة كونية»، نرصدها ونقدر أطوالها بواسطة أجهزة مثل تلسكوب جيمس ويب، الذي أطلقته وكالة «ناسا» الصيف الماضي، وآخر ملقب بـ«يوكليد» (تذكيراً بعبقري آخر عمل في الإسكندرية قديماً، وهو إقليدس)، الذي من المقرر أن تطلقه وكالة الفضاء الأوروبية نحو نهاية هذا العام، لينضم لأسطول هائل من المراصد الكونية العاملة والمزمعة.
أي شرح ملائم لأهمية ما ستأتي به النتائج المرتقبة خلال العقد القادم يحتاج لعدة مقالات. الخلاصة أنها ستسد فجوات مهمة في فهمنا لما ظل مفقوداً في الكون رغم البحث الدؤوب. ومن ثم ربما تشير إلى أننا لم نجده حتى الآن لأن طبيعته أغرب بكثير مما تصورنا. وهكذا ربما تأتي بقوانين ومفاهيم جديدة، ذات تداعيات عميقة قد تقلب عالمنا الفكري، ومن ثم واقعنا الفعلي، رأساً على عقب. كما حدث من قبل.

* مدير مركز الفيزياء النظرية بالجامعة البريطانية في مصر



السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.