أحمد الشهاوي: لست بعيداً عن الرواية ولديّ شغف بالسرد والأساطير

الشاعر المصري يقول إن هدفه من «حجاب الساحر» إمتاع نفسه أولاً ومن بعده القرَّاء

أحمد الشهاوي
أحمد الشهاوي
TT

أحمد الشهاوي: لست بعيداً عن الرواية ولديّ شغف بالسرد والأساطير

أحمد الشهاوي
أحمد الشهاوي

«حجاب الساحر» للشاعر أحمد الشهاوي هي النص الروائي الأول له، حيث بدأ الشهاوي مسيرته مع الشعر قبل 35 عاماً حين نشر ديوانه الأول عام 1988. ولا تنفصل أجواء الرواية عن أعماله السابقة، التي تتنوع ما بين الشعر والأدب الصوفي؛ ومنها دواوينه: «أحوال العاشق»، و«الأحاديث»، و«كتاب الموت»، و«قل هي»، و«الوصايا في عشق النساء»، و«لسان النار»، و«لا أراني»، و«ما أنا فيه»، وغيرها. وكان الشهاوي قد حصل على جائزتي «اليونيسكو في الآداب» عام 1995، و«كفافيس الدولية في الشعر» من اليونان عام 1998. في هذا الحوار نتعرف على مبررات التحول نحو الرواية وإلى أي مدى تضيف لتجربته الشعرية.

> بعد سنوات ممتدة من حضورك على ساحة الشعر، فاجأت الجميع بروايتك الأولى «حجاب الساحر»، ما كواليس ومبررات تلك الخطوة الجديدة في مشروعك الإبداعي؟
- لا يوجد مبررٌ ما للكتابة ولا قصدية متعمَّدة تسبق فعل الإبداع، سوى أن يريد المرء أن يكتب، وأن يعبّر بالطريقة التي يستحسنها. المهم أن تكون لديه الرغبة والأدوات التي تدعم وتساند موهبته وتجربته. منذ عام 1990 وأنا أنشرُ وأكتبُ النثر، فلديَّ شغفٌ بـ«أدب التصوف» و«أدب العشق» و«فلسفة الدين»، وقد أنجزتُ فيها تسعة كُتب، غير ما لم يُنشَر بعد.
ولم أكن يوماً بعيداً عن الرواية، ومَن يعرفني شخصياً يدرك شغفي بالسَّرد وولعي بالحكي والسِّحر والأساطير، وقبل عشر سنوات أو أكثر كتبت رواية، لكنَّ ستين صفحة منها أفسدتها مياه «الشغّيلة»، خلال تنظيف بيتي، ولم أفلح في استعادتها، ولم أكُن ساعتها أكتبُ على الكمبيوتر، فقفلتُ منها، وقلت في نفسي: سأعودُ إليها وأنشرها بالطبع، وبدأتُ روايةً أخرى هي «حجاب الساحر» في أجواء ليست بعيدة عن تجاربي ومعارفي وخبراتي، لكنَّني مستمر في كتابة عدد من الروايات ستظهر في السنوات المقبلة.
وربَّما نكون نحن العرب الذين يفصلون بين الفنون والأجناس الأدبية، في حين نجد أغلب روائيي العالم لهم شعرٌ كثير، أو العكس. وكان أسلافُنا يشتغلون في الأدب والكيمياء والفلسفة والطب والفلك، ولم يقل لهم أحدٌ: ما دمتم كيميائيين فلماذا تشتغلون بعلوم الصيدلة والفلك مثلاً.
> بطلة الرواية الأساسية هي «شمس حمدي» التي تتجلى كأسطورة بين نساء الأرض، حتى إنها تتوحد مع ربات مصر القديمة مثل «سخمت» و«إيزيس» وتجمع بين الطابع الحسي والآفاق الروحانية في مزيج فريد. هل يمنح الواقع المعيش مثل هذا النموذج، أم أنه شغف مطاردة المستحيل لدى الشعراء والأدباء؟
- الكاتب عادةً يراود المستحيل ويبحث عن المُطلق والحُلم الذي يبتغيه، لكن الواقع الذي عشتُه في مصر وخارجها ملآن بنماذج غريبة وفريدة، أسطورية ونادرة، وكل امرأة لا تتشابه مع أخرى، ولها قصةٌ مغايرة وحياةٌ مختلفة، لكن النساء يكتُمن ولا يبُحن، إذ كل امرأة - بل كل إنسان - لديه سرٌّ أو أسرارٌ يضمرها ولا يبوح بها لأحد، لكنَّني وجدتُ «شمس حمدي» أو أنشأتُها، وهى نموذج يمكن أن نجدَه بسهولة في أي بلد عربي أو غير عربي؛ لأن النفس الإنسانية ملأى بالغريب والعجيب، والسِّحري، وقد حاولتُ الإمساك به في روايتي «حجاب الساحر».

> الخطاب السردي في العمل جاء مشحوناً بطاقة شعرية لافتة، إلى أي حد تدخّل الشاعر بداخلك في «هندسة» النص لغة وروحاً وخيالاً؟
- عندما أخوض تجربةَ الرسم فأنا هنا الذي يرسم، لكنَّني لا أنسى أنني شاعر بالأساس، وكذا في كل كتاباتي، فأنا الشاعر الذي يكتب الرواية، ومن الطبيعي أن تكون لغة السرد عندي تمتحُ من الشعر وتأخذ منه، فقد حافظتُ على طقوس عملي في الكتابة، وهي المُراجعة الدقيقة والحذف (لقد حذفتُ ستة آلاف كلمة من الرواية)، وكنتُ سعيداً بذلك؛ فالكتابة ليست وحياً مُرسلاً، وتحتملُ الحذف والإضافة والمساءلة، لكنَّني كنتُ واعياً لفكرة الفصل بين القصيدة والرواية، وحاولتُ أن أتفادى أخطاء الشعراء عندما يكتبون نصوصاً روائية. لقد سعيتُ، وابتعدت عما لا أحبُّه في الكتابة الروائية، إذ كان هدفي إمتاع نفسي أولاً، ومن بعدي القرَّاء، فلم أكتب روايةً لتكون الأكثر مبيعاً أو أسلِّي الناس، ولكنَّني هدفتُ إلى إمتاع الروح بالأساس.
> ثمة غوص مدهش في عالم السحر بطلاسمه وتمائمه وتعاويذه، فهل كانت مرحلة البحث والتحضير حاسمة في مثل هذه الرواية؟ وهل هي السبب الرئيس في استغراق العمل خمس سنوات كاملة كي يخرج إلى النور، كما يشير التنويه في نهاية النص؟
- استغرقتْ كتابة روايتي «حجاب الساحر» خمس سنوات، لكنَّني نشرتُ، خلال هذه السنوات، أربعة كتب أخرى، وما تأخُّري إلا بسبب الخوف من الإخفاق، فأنا لا أحبُّ الفشل، أنا ابنٌ للدَّأب والسعي والمحاولة والتروّي والمراجعة، وبالأساس أنا بحثتُ داخلي، فقد عشتُ طفولتي وصباي مع السِّحر ومسكُونًا به، وأمره ليس غريباً عليَّ، لكنَّني قرأتُ آلاف الصفحات وأنا أكتب «حجاب الساحر». وبشكلٍ عام، لكي أكتب جُملة واحدة فبالمقابل لا بد أن أقرأ كتاباً، وهي عادتي، قارئ محترفٌ وكاتبٌ هاوٍ، وإن لم تكن الرواية بجانب التشويق والإمتاع في السرد تحقق معرفةً، فهي عندي لا لزومَ لها أو لا تحقق «شروط» الكتابة التي أحبُّها.
> ما السبب في الاستشهاد المتكرر بآيات من القرآن الكريم في الرواية؟
-لا أتعاملُ مع القرآن على أنه كتابٌ مقدَّسٌ سماويٌّ إلهيٌّ فقط، ولكنَّني أراه أيضاً كتابَ إعجاز في اللغة والتصوير الفني، وقد تربيتُ عليه، ودائماً ما أوظّفه وأستلهمه في شعري ونثري، فأنا ابنُ بيت أزهريّ، كما أنه يفيدني لغويّاً؛ لما فيه من البلاغة والبيان والفصاحة. إنه كتاب واضح لي، وأنا أحبُّ الوضوح والإبانة في الكتابة، وفي كل شيء.
السِّحر عند العرب هو «كلّ أمر يخفى سببُه، ويُتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التمويه والخداع، وكل ما لطف مأخذه ودقّ، وإخراج الباطل في صورة الحق، واستخدام القوى الخارقة بواسطة الأرواح»، وتاريخ السحر قديم بقدم الإنسان على هـذه الأرض. وعموماً السحر ثابت بنصّ القرآن والسنة؛ ولذا كثر استشهادي في «حجاب الساحر» بآيات من القرآن الكريم.
> هل يُعدّ خوضك تجربة الكتابة الروائية اعترافاً غير مباشر منك بصحة مقولة الدكتور جابر عصفور بأننا نعيش «زمن الرواية» التي صارت «ديوان العرب» الحديث؟
- الشعر يحتاج إلى قارئ مدرَّب على القراءة وخاص في تلقِّيه، وعلى درجة من المعرفة بالآداب والفنون؛ لأنه لم يتلقّ تعليماً حقيقياً يؤهله لتلقّي الشِّعر، والشعر بطبيعته نخبويٌّ منذ الجاهلية إلى الآن، والشعر موجود ما دام هناك كونٌ وبشرٌ يحيون فيه؛ لأنه من دُون الشعر نصبح إزاء موت الروح، وقتل القلب، والاستغناء عن الموسيقى والأغنية، بينما الرواية تحظى بقرَّاء أكثر، ومن ثم توزيع أكثر، وهُنا يفضِّل الناشرُ العربيُّ أو الأجنبي الرواية على الشعر؛ لأن نشرَ الشعر الآن صار مُغامرةً ماليةً له. أذكرُ أن كُتباً شعرية لي طبع منها في «مكتبة الأسرة» خمسةٌ وعشرون ألف نسخة، ونفدت جميعها في أقل من شهر، وكان أقل عدد يُطبع لكتبي هو ثلاثة آلاف نسخة، الآن صارت الطبعة ألف نسخة فقط.
لو أتيح لديوان الشعر توزيعٌ جيدٌ وسعرٌ زهيد، سينتشر بشكلٍ مُرضٍ، ولنا في مشروع «مكتبة الأسرة» مثالٌ وقدوة.
ولا يوجد جنسٌ أدبيٌّ يسود على جنس آخر؛ لأن السيادة للجودة والتفرُّد في أيّ فنّ، والصحيح أن نقول إننا ينبغي أن نكون في زمن الفن والأدب الجيدين على مستوى الموسيقى واللوحة والمنحوتة والقصيدة والرواية والفيلم والمسرحية والقصة القصيرة.
> تنوع إنتاجك ما بين الشعر وأدب العشق وفلسفة الأديان والأدب الصوفي، ما الذي يربط بين هذه المجالات من وحي تجربتك؟ وما أقربها إليك؟
- أنا شاعرٌ مشغولٌ بالتصوُّف وأعتبرُه أهم روافدي، كما أنَّني ابنٌ لأدب العشق، وأحبُّ الكتابة فيه وعنه وحوله؛ وبشكل عام أحبُّ أن أكتب عما أعرفُ ولي فيه تجاربُ وخبراتٌ، ولا أحبُّ أن أكتب من الوضع جالساً في بيتي، لا بد من أن تكون النارُ في أيدينا وأرواحنا ونحن نكتب.
ومن ثم أسعد بكثرة روافدي ومراجعي ومصادري في الكتابة، فهي تتيح لي التنوع، وأحاول في كل كتاب أن آتي بجديد، وأنا مع تداخل النصوص والأنواع والأجناس، فلا يوجد جنسٌ أدبيٌّ لا يستفيد من آخر، المهم كيف نكتب ونحقق أنفسَنا في متن النص، ويظلُّ الشعر نصِّي الأوَّل والأساسي، وكل ما أكتب هو لخدمة الشاعر فيَّ؛ بمعنى أن الشاعر موجود ومتحقِّق في كل ما كتبتُ في غير الشعر.



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

* أكاديمي وناقد من العراق.