الوجه غير الروائي لنجيب محفوظ

عن الدار «المصرية - اللبنانية» بالقاهرة صدرت «حوليات نجيب محفوظ» في ثلاثة مجلدات هي: «الدين والفلسفة والثقافة» و«العرب والعلم والتقدم» و«السياسة والمجتمع والشباب». وتعود أهمية هذا الإصدار إلى أنها المرة التي تصدر فيها مقالات وكتابات أديب نوبل غير الروائية كاملة في عمل واحد لتكشف الوجه الفكري الصريح والمباشر لمحفوظ على مدار حياته.
المجلدات تحرير وتحقيق وتقديم الشاعر والباحث مصطفى عبادة، الذي أوضح في مقدمة العمل أن عميد الرواية العربية كتب أكثر من ألف مقال، على مدى حياته الطويلة. وبدايته مع فن المقال أسبق من إبداعه الروائي. تنوعت هذه المقالات موضوعياً بين ثلاثة حقول كبيرة، أولها، وأكثرها عناية من نجيب محفوظ: حقل الدين والفلسفة والثقافة، التي بدأ يعبر عنها وينشرها في الصحف منذ ثلاثينات القرن العشرين، وهي آراء كانت متأثرة بدراسته للفلسفة، حيث اتسمت أعماله الأدبية بعمق فكري، كما كان يرى أن الأدب والفلسفة حقلان متقاربان، بل ربما يصدران من منبع واحد، ويشكلان معاً ذائقة متكاملة يمكنها أن تمتلك رؤية وموقفاً واضحاً من الوجود والحياة.
في مقال: «احتضار معتقدات... وتولد معتقدات»، يرصد نجيب محفوظ ميلاد الاتجاهات السياسية والفلسفية الجديدة، التي ستهيمن فيما بعد على مجمل القرن العشرين كله، وكيف أن المعتقدات القديمة التي قامت عليها مدنيات بأسرها تخضع للنَقد والتحليل بل التسفيه أحياناً، فهي وإن كانت قد أقامت مدنيات عمرت قروناً، فإنها تحتوي في باطنها على خرافات لا يقبلها العقل بحالٍ من الأحوال، وكانت غاية النقد الذي تتعرض له هذه المعتقدات القديمة: «أنه إذا كان معتقد ما أساساً لمدنيته، فقد آن الأوان لانهيارهما معاً، ونحن نشاهد في عصرنا هذا - ثلاثينات القرن العشرين - أن جميع العقائد القديمة؛ التي اطمأنت لها النفوس أجيالاً طويلة أخذت تتزعزع رويداً رويداً، وتتزحزح عن مكانتها الأولى شيئاً فشيئاً، وذلك بنقد المفسرين الجدد لهذه المذاهب والمعتقدات، ولما كتبه المفسرون القدامى. ينطبق ذلك على الديانات، ومذاهب الفلسفة وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت بين أيدينا مجموعة وافية من الكتب والقصص تبعث قراءتها على الشك في الماضي بآرائه ومعتقداته، أو تدعو إلى مذهب جديد كالاشتراكية والعالمية».
وحسب المحرر، يذهب محفوظ إلى حد المجازفة، وإن أصبحت حقيقة واقعة فيما بعد، فيتنبأ بالمذهب الجديد الذي سيسود العالم في القرن العشرين، وهو الاشتراكية، ومن ضمن توقعاته في هذا السياق، أن هذه الاشتراكية سوف تنهار، ولن تعمر طويلاً، ذلك أن سعادة الاشتراكية الموعودة دنيوية تُنال في هذه الحياة، لا في حياة أخرى، وإنها لذلك قد تعجز لسبب من الأسباب عن إنجاز وعودها تامة، وعليه فينفض من حولها أعظم مؤيديها حماسة ونشاطاً، ولكننا لا ننسى كذلك أن الكمال في الدنيا ضرب من المستحيلات.
والحقل الثاني لمقالاته الفكرية هو «السياسة والمجتمع والشباب»، وتتناول قضايا غاية في الخطورة، ولا تزال تناقش في حياتنا حتى اليوم، مثل علاقة الدين بالمجتمع ودوره في التحضر أو الثبات، وعلاقته بالديمقراطية بشكل خاص والعملية السياسية بشكل عام، حيث يرى نجيب محفوظ: «أن الدين ليس علماً من العلوم، ولا فرعاً من المعرفة، ولكنه تربية روحية يتجلى جوهرها في المعاملة والسلوك والرؤية».
بدأت هذه المقالات عام 1974 بمقال «الدين والمدرسة»، وانتهت بمقال «توترات مرضية» عام 1994، أي أنه يضم آراء نجيب محفوظ، على مدى عشرين عاماً، وقد كتب المقال الأخير قبل أن يتعرض الرجل للطعنة الغادرة أمام منزله.
ويفرق نجيب محفوظ بين التطرف والانحراف، حيث: «يمثل التطرف بلوغ الغاية القصوى في الإيمان بأي عقيدة، تنتمي إليه الصفوة المجاهدة المؤسسة على العلم والأخلاق، والمستعدة دائماً وأبداً للبذل والتضحية بالنفس في سبيل المثل الأعلى، أما الانحراف فهو الخروج عن الحدود بضغط من انفصال أهوج قائم على الجهل، مسُوقٍ بالتضليل مندفع إلى الأذى والعدوان».
والمتأمل لمقالات نجيب محفوظ، في هذا المجال، يلاحظ أنه يرجع الانحراف الديني المسوق بالجهل، إلى طريقة التعليم الخاطئة لدرس الدين في المدارس، ففي مقاله الأول المكتوب عام 1974، في مرحلة مبكرة من حياته، وهو المقال الذي يدعو فيه إلى «أن يكون درس الدين تربية روحية تُتَلَقى في جو من التعاطف والإرشاد والمحبة، بعيداً عن معاناة الحفظ والتسميع والخوف من الرسوب، مع الاقتناع الكامل بأن الدين ليس معرفة تحفظ، ولكنه معاملة وسلوك، تقوم عليها الحياة الإنسانية الكريمة».
ويضع نجيب محفوظ خطة مبدئية لتدريس الدين في المدارس، حين يقول: «إنني أتصور أن تكون السيرة هي العماد الأول لهذه التربية، بما هي حياة وسلوك ورؤية ومثل أعلى، فتدرس السيرة النبوية بدءاً من السنة الأولى الابتدائية، حتى السنة الثانية الثانوية، تعرض في السنة الأولى في صورة مبسطة يسيرة، ثم تتدرج في النمو والتفاصيل عاماً بعد عام، وتتضمن من الآيات ما يناسب المقام، وما تتطلبه الحاجة».
ثم لا يترك نجيب محفوظ قضية دينية أثيرت في زمنه دون أن يبدي رأيه فيها، مثل حوادث الفتن الطائفية، والإسلام وصراع المبادئ، والمناظرات الدينية المدنية، والتجارب الإسلامية، حيث يرى فيما يتعلق بفلسفة الحكم وتوجهات السياسة: «تعاصرت تجارب شتى منها السلَفي والثوري والمعتدل والعلماني، وكل نظام يواجه الحياة بمقوماته الفكرية واجتهاداته، متصدياً لتحديات الحياة المعاصرة، عاقداً العزم على التوفيق والنجاح، وسوف يتقرر النجاح لهذا التيار أو ذاك وفقاً لما يحقق من نتائج ويحل من مشكلات، وأعتقد أن الناجح هو الذي سيسود وينتشر، ولن ينجح ويسود إلا بشروط منها: أن يثبت أنه كفء للحياة المعاصرة، وأقدر على حل مشكلاتها، ومنها: أن يحقق العدالة الاجتماعية والحرية الفردية والاجتماعية معاً، ومنها: أن يحترم قولاً وفعلاً حقوق الإنسان».
والحقل الثالث، هو «العرب والعلم والتقدم»، وفيه يحمل نجيب محفوظ على فكرة «السياسي المستقل»، ويتساءل محفوظ: مستقل عن ماذا؟ فالسياسي في نظره إما يسار أو يمين أو وسط: «ما جدوى الاستقلال اليوم؟ ما مغزاه، وما هدفه؟ ربما كان الشخص الذي لم يجد ذاته لا في اليمين ولا في الوسط ولا في اليسار، وإنه لاستقلال سلبي عجيب ينفي عن صاحبه أي هوية، ويجعل منه شخصاً بلا صفات سياسية حتى ليتعذر علينا تصديق ما يدعيه... وفي جميع الأحوال فالترشيح على أساس الاستقلال عودة إلى انتخاب الشخص بصفته الشخصية، لا كممثل لرأي، ونحن نريد لانتخاب (الرأي) أن يبرز ولانتخاب الشخص أن يندثر». الانتماء، في رأي نجيب محفوظ، هو أساس العمل السياسي.
وتتسم آراء نجيب محفوظ السياسية كما يتبدى من هذه المقالات بليبرالية واضحة، ومثله الأعلى في ذلك الزعيمان سعد زغلول، ومصطفى النحاس. إنه يبدو أقرب إلى دور الواعظ الأخلاقي، المطالب بالديمقراطية على استحياء، والتغيير الاجتماعي، بشكل إصلاحي وليس ثورياً، حتى أنه عندما سئل عن ثورة يوليو (تموز) قال: نعم فرحت بها ولكنها لم تأتِ بالديمقراطية. وفي روايتي «اللص والكلاب» 1962 و«السمان والخريف» 1965، يطرح نجيب محفوظ مسألة التغيير الثوري، ويحكم عليها بالفشل.
تخرج نجيب محفوظ في كلية الآداب بجامعة القاهرة، قسم الفلسفة، وبدأ مقالاته بالكتابة في الفلسفة، دون موقف واضح من أي مذهب فلسفي، لا مع أو ضد، بل اقتصرت مقالاته على شرح النظريات الفلسفية باستفاضة، وكأنه كان يذكر بها نفسه، فيما هو مخلص جداً للفلسفة الوجودية، كما في روايتي «الشحاذ»، و«الطريق»، فالسؤال الأهم فيهما: من أنا؟
ويذكر عبادة أن محفوظ لا يشير إلى المرأة في مقالاته إلا نادراً، ولا يقف طويلاً أمام مشكلاتها. بينما في رواياته ينتصر للمرأة الحرة، التي تمتلك حياتها، وتتصرف فيها كما تشاء، فهو يكره المرأة النمطية، الخاضعة لقوانين المجتمع الذكوري، وفي الحوار المشار إليه مع «باريس ريفيو»، لا يبدو مهموماً كثيراً بأن تغطي إحداهن رأسها، بل ووجهها، مؤكداً أن ما يخشاه حقاً هو التعصب الديني الذي يصفه بـ«تطور هدام معارض تماماً للإنسانية».