اثنا عشر قرناً من الصمت

مظاهرة معارضة للنظام الإيراني في لندن 8 يناير الماضي (د.ب.أ)
مظاهرة معارضة للنظام الإيراني في لندن 8 يناير الماضي (د.ب.أ)
TT

اثنا عشر قرناً من الصمت

مظاهرة معارضة للنظام الإيراني في لندن 8 يناير الماضي (د.ب.أ)
مظاهرة معارضة للنظام الإيراني في لندن 8 يناير الماضي (د.ب.أ)

سيجد القارئ قضايا كثيرة يختلف فيها مع المؤرخ الإيراني ناصر بوربيرار، ومن يقدح في شخصه بقصص كثيرة. فالمواقف السياسية في الحياة اليومية قد تشوه المثقف، ومن ثم قد يكرهه الناس ويُحرم المتلقي من علمه. لهذا سنعرض عن كل هذه المواقف، لأقول إنه لمن المؤسف أن ناصر لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولا يزال يعاني من التهميش الكبير، بحيث إنك حين تكتب اسمه بحثاً عن المعلومات فلن تجد إلا القليل، وحين تكتب اسم كتابه الأبرز «اثنا عشر قرناً من الصمت» في «غوغل»، فلا تجد كبير شيء ترجع إليه. وحين تبحث عنه في «أمازون» فيحيلك على من يردون عليه من خصومه الذين يصفونه بـ«الوهابي». وسيحيلونك إلى من يطرح نقيض فكرته ككتاب «قرنان من الصمت» للمؤرخ الإيراني الأستاذ في جامعة طهران عبد الحسين زرنكوب، الذي حمل العرب المسؤولية الكبرى عما جرى لإيران، وكأنها كانت تعيش الديمقراطية قبل غزو العرب لها. كتاب زرنكوب، ككتب كثيرة، يصب في نهر الكراهية وتمديد عمر الأحقاد بين العرب وجيرانهم الفرس.
ناصر بوربيرار رجل علم مثير للجدل للغاية، فهو ليس بإسلامي، بل باحث علماني تماماً، وكانت له علاقة وطيدة بحزب «توده» اليساري، ذلك الحزب العريق تاريخياً الذي علق الخميني أفراده في المشانق، ودبر لهم مذبحة مشهورة في أحد سجونه.
ناصر ليس مؤرخاً فقط، بل ومتخصص في «علم التحريف التاريخي»، أي أن علمه وعمله يسعيان لإعادة تفسير الرواية التاريخية. هذا التخصص العلمي، ينطوي عادة على تحدي الآراء التقليدية التي يتبناها علماء متخصصون حول حدث تاريخي أو فترة زمنية أو ظاهرة، ويقوم على تقديم أدلة مخالفة أو إعادة تفسير دوافع وقرارات لشخصيات بارزة. ويمكن أن تعكس مراجعة السجل التاريخي هذه كل الاكتشافات الجديدة للحقائق والأدلة والتفسير، فيقود كل ذلك إلى مراجعة كاملة للتاريخ. كل هذا قد فعله ناصر في كتابه ذي الأجزاء الخمسة، فصار معروفاً بنظرياته المثيرة للجدل التي تشكك في كل تأريخ فارس المعترف به أكاديمياً، من الإمبراطورية الأخمينية إلى بداية العصر الصفوي. إنه يؤمن بأن العالم القديم اختلق تاريخ فارس، وأن قصتها كما يعرفها المؤرخون مزورة.
هذا الكتاب يتكون من خمسة أجزاء؛ الجزء الأول عن الإمبراطورية الأخمينية، والثاني عن الإمبراطورية الفرثية، وثلاثة الأجزاء الأخرى عن الإمبراطورية الساسانية والحكم العربي الإسلامي، انتهاء بزمن الصفويين القريب نسبياً.
فارس بلاد جميلة للغاية وذات موارد هائلة، ولذلك كان من الطبيعي أن تكون مطمعاً للغزاة وألا تبقى في ملك عرق من البشر بعينه، ونحن نعلم من تاريخ الأتراك، على سبيل المثال، أن بداية ملكهم ليست من تركيا المعاصرة، بل من فارس.
الجزء الأول من كتاب ناصر عن الإمبراطورية الأخمينية، ويقال لها أيضاً الإمبراطورية الفارسية الأولى. دولة توسعية هائلة أسسها قورش فابتلعت البلقان وأوروبا الشرقية في الغرب إلى وادي السند في الشرق، وكانت أكبر من أي إمبراطورية سابقة في التاريخ، حيث تمتد مساحتها إلى 5.5 مليون كيلومتر مربع. إمبراطورية تنتهج إدارة مركزية بيروقراطية، بحيث يكون في كل إقليم مرزبان يعمل لخدمة ملك الملوك قورش، ولها لغة واحدة فُرضت بالقوة على كل تلك الأقاليم بعد هزيمة قورش للميديين، وهم فُرس، وانتصاره على ليديا والإمبراطورية البابلية الجديدة، لتكتمل بذلك إمبراطوريته، الإمبراطورية الأخمينية. هذه الإمبراطورية سارت باتجاه الانهيار عندما غزاها الإسكندر الأكبر في سنة 330 قبل الميلاد، وبعد وفاة الإسكندر التي حدثت سريعاً فسقطت معظم أراض الإمبراطورية السابقة تحت حكم المملكة البطلمية والإمبراطورية السلوقية، واستقلت بعض أجزائها الصغيرة.
أصل هذه الدولة الأخمينية قبائل بدوية استقرت في جنوب البلاد وأصبح اسمها فارس، وهي قرب شيراز اليوم. لكن علم الآركيولوجيا يقف عاجزاً أمام هذه الرواية، لأنه لا تكاد توجد أي نقوش تتكلم عن الفرس. ناصر ممن سلطوا الضوء على غياب الأدلة المادية التي تثبت وجود هذه الدولة، وتساءل عن غياب آثارها برغم كل الجهود الآركيولوجية. إنه يرى أن سلالة الإخمينيين ليسوا بفرس أصلاً، وإنما هم جماعة من الغزاة السلافيين البربريين القدماء الذين انتهى بهم داريوس الكبير بعد عودتهم إلى وطنهم في السهول الأوراسية. ويذهب ناصر لأبعد من هذا، فيقول إن الأخمينيين قد أبادوا الفرس الأصليين في الحرب التي تعرف باسم «بوريم» الموصوفة في سفر استير الملكة اليهودية زوجة الملك الفارسي أخشورش في القرن الخامس قبل الميلاد، ويُحتفل به اليوم باسم «عيد المساخر»، لأن استير أنقذت شعبها من الإبادة.
الإمبراطورية الأخمينية هي من دمرت الحضارات العظيمة السابقة، البابلية والآشورية فما دونهما. نحن نتحدث عن دولة حكمت جزءاً كبيراً من العالم القديم لكن لا يوجد لها أي أثر مادي، لا توجد لهم عملة نقدية ولا أي شيء يدل على أنهم وجدوا، رغم أنها قهرت واحتلت مائة وسبع وعشرين أمة مجاورة واستمتعت واستخدمت تلك الأمم. من وجهة نظر ناصر، كل هذا التاريخ قد تم طمسه لإخفاء مذبحة بوريم التي تفاقمت تداعياتها لتجتث حضارات ومجتمعات إثنية كاملة في بلاد الرافدين والهلال الخصيب وأطراف الجزيرة العربية. الأخمينيون هم من دمر فارس والمشرق. أما قصة العداوة بين الأمتين الفارسية واليهودية وعلاقتهما شديدة التعقيد فهي لا تعنينا كثيراً، ولن ننصر رواية على رواية، لذلك لن نتوقف عندها طويلاً.
الجزء الثاني يحكي عن الإمبراطورية الفرثية في القرن الثاني قبل الميلاد، وكيف أنها هزمت السلوقيين وانتزعت فارس منهم. كذا تقول الرواية التاريخية الرسمية، أما ناصر فقد قرر أن المواقع التاريخية التي يُقال إنها فرثية لا تخرج عن حالين، إما مرتبطة بشكل واضح باليونانيين أو مزورة حديثاً.
في الأجزاء التي تتحدث عن الساسانيين، أكد ناصر أن جميع النقوش التي قيل إنها ساسانية هي مزيفة حديثة، وقرر أن شخصيات تاريخية مثل مزدك وماني وزرادشت وبابك، هي كلها من اختراع المؤرخين والرواة، وأن فارس لم تكن تملك أي مخطوطات أدبية أو تاريخية. مما يدل على غياب الأدب الفارسي في تلك الفترة، أننا نعرف نص «الشاهنامه» الذي يصور تاريخ الفرس منذ العهود الأسطورية حتى زمن العرب المسلمين وسقوط الدولة الساسانية، تلك الملحمة الفارسية الضخمة التي تقع في نحو ستين ألف بيت، من تصنيف أبي قاسم الفردوسي. هذه الشاهنامه تُعد بالاتفاق، أعظم أثر أدبي فارسي في جميع العصور، وإذا كان هذا النص الذي نظمه الفردوسي كان هدية للسلطان محمود الغزنوي الذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي، فأين إنتاج الفرس الكتابي فيما قبل الإسلام وغزو العرب؟!
بالنسبة للمشغول بتاريخ إيران، كان التنقيب في برسيبوليس في ثلاثينات القرن الماضي حدثاً كبيراً، فبرسيبوليس هي عاصمة الإمبراطورية الأخمينية. صار اسمها اليوم تخت جمشيد وتبعد عن شيراز ما يقارب سبعين كم في اتجاه الشمال الشرقي. وقد اكتشف هذا التنقيب أرشيفاً ضخماً من الوثائق الإدارية، وعند كثيرين، غيرت هذه الألواح الطينية الصغيرة والبسيطة معظم المعرفة بالحقائق اليومية للحكم الأخميني، أما ناصر فيرى أن وثائق برسيبوليس كلها مزورة، وضعت في مرحلة حديثة، وادعى أن بناء برسيبوليس لم ينته أبداً، لأنه كعالم بالأركيولوجيا يعتقد أن البنائين قد قُتلوا قبل أن ينتهي البناء، فكيف يصح النقش على بناء لم يكتمل بعد؟! هذا لا ينطبق على الأخمينيين فقط، بل الفرثية والساسانية والطاهرية والغزنوية والسلاجقة والسامانية التي مرت على حكم فارس، لا تملك تاريخاً صحيحاً. ويتهم ناصر صراحة جامعة شيكاغو وبعض الدوائر العلمية في ألمانيا بأنها تخفي الوثائق التي يمكن أن تفضح هذا التاريخ.
يقول ناصر إن الاثني عشر قرناً التي سبقت غزو العرب المسلمين لفارس كانت قرون الصمت، فقد تعاقبت الإمبراطوريات الثلاث الأخمينية والفرثية والساسانية على محاربة الكتابة، فكل من يمارس القراءة والكتابة يقتل، وكل من يقوم بدور ثقافي يقتل، وكل من يقول الشعر يُقتل، في دولة لا تملك أي تاريخ عمراني تبرز فيه فنون النحت والنقوش والبناء، فلا قلاع ولا حصون ولا قصور، كما في اليونان مثلاً. لا شيء سوى جهود منظمة لإبقاء الفرس في جهل مطبق. معنى هذا أن كل تلك الأحاديث عن تحضر الفارسي وهمجية العربي هي من الدجل الذي خُدع به كثيرون، ومن ضمنهم بعض العرب الكارهين لأنفسهم ولتاريخهم، بسبب قصص الغزو رغم أن الغزو والاحتلال هما ديدن كل الأمم وكل الشعوب في كل الأزمان، وما زلنا إلى يومنا هذا نرى ذلك، فلماذا يعير به العرب وحدهم؟!
في مقابل هذا، وعلى الضد من إدانة ناصر وتزييفه لكل تاريخ إيران في اثني عشر قرناً، يمتدح هذا المؤرخ الفارسي العلماني غزو العرب لفارس، ويقرر أن انتصار العرب المسلمين في معركة القادسية المشهورة كان حاسماً، فلم يجدوا بعد هزيمة الساسانيين من يقف في وجوههم فكل الشعب الفارسي كان مبتهجاً بسقوط بني ساسان غير المأسوف عليه، بسبب قسوتهم المبالغ فيها وتكريسهم للجهل والتزوير. في جملة واحدة، العرب في رأيه هم من أنقذوا البلاد الفارسية، وأن العبقرية الفارسية فيما بعد عبرت عن نفسها باللغة العربية في كل مجالات العلم والثقافة، وأن الروح الفارسية كشفت عن ذاتها في الدين والفن والفلسفة باللغة العربية. عدد يصعب إحصاؤه من الأسماء الفارسية قامت بدور ريادي في علوم اللغة العربية من نحو وبلاغة، وفي علم الكلام والجدل، وفي العلم الطبيعي، وفي الفلسفة. كل هؤلاء هم عرب بالثقافة حتى وإن كانوا ينتمون عرقياً لسلالات أخرى وشعوب أخرى، فابن سينا والفارابي وغيرهما كانت فلسفاتهم تنطق بالعربية وتتواصل مع جمهور عربي، وحفظت التراث الفلسفي للعالم كله.
لكل ذلك، يقرر ناصر بشكل واضح أنه يرى وجوب تعلم الفارسي للعربية، فالمصير العربي/الفارسي واحد، وإيران مرتبطة بالعرب والمسلمين ارتباط الجنين بحبل المشيمة. ونحن بدورنا نوافقه على هذا الرأي، فما أكثر المثقفين الإيرانيين النابهين النوابغ ممن لقينا وكانوا في قمة النبل والتحضر ممن يرون أن العلاقة بينهم وبين العرب، خصوصاً السعودية، هي علاقة إخاء ومحبة، وأن لا مشكلة إلا في هذا النظام الكهنوتي المتخلف الذي لا يزال يحكم إيران اليوم.
* باحث سعودي



إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
TT

إدارة «حماس» ملف الرهائن... الوقت ضد «الصفقة»

بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»
بالون كبير دعماً للأسرى الإسرائيليين لدى حركة «حماس» كُتب عليه «أنقذوهم الآن»

بعد أكثر من 420 يوماً على أطول حرب مدمرة عرفها الفلسطينيون، لا يزال الغزيون الذين فقدوا بلدهم وحياتهم وبيوتهم وأحباءهم، لا يفهمون ماذا حدث وماذا أرادت حركة «حماس» حقاً من هجومها المباغت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 على إسرائيل، الهجوم الذي غير شكل المنطقة وفتح أبواب الحروب والتغييرات.

الشيء الوحيد الواضح حتى الآن هو أن غزة تحولت إلى منطقة غير قابلة للحياة، ولا شيء يمكن أن يصف ألم الباقين على قيد الحياة الذين فقدوا نحو 50 ألفاً في الحرب المستمرة، وأكثر من 100 ألف جريح.

وإذا كان السكان في قطاع غزة، وآخرون في الضفة الغربية وربما أيضا في لبنان ومناطق أخرى لم يفهموا ماذا أرادت «حماس»، فإنهم على الأقل يأملون في أن تأتي النتائج ولو متأخرة بحجم الخسارة، ولا شيء يمكن أن يعوض ذلك سوى إقامة الدولة. لكن هل أرادت «حماس» إقامة الدولة فعلاً؟

هاجس الأسرى الذي تحول طوفاناً

في الأسباب التي ساقتها، تتحدث حركة «حماس» عن بداية معركة التحرير، لكنها تركز أكثر على «تحريك المياه الراكدة في ملف الأسرى الإسرائيليين الذين كانت تحتجزهم الحركة قبيل الحرب»، و «الاعتداءات المتكررة من قبل المنظومة الأمنية الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين»، إلى جانب تصاعد العدوان باتجاه المسجد الأقصى والقدس وزيادة وتيرة الاستيطان.

ولا تغفل الحركة عن أنها أرادت توجيه ضربة استباقية تهدف لحرمان تل أبيب من مباغتة غزة، وإعادة القضية إلى الواجهة.

وقالت مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»: «هذه الأسباب كانت صحيحة وكافية بالنسبة للحركة لاتخاذ قرار شن الهجوم، لكن خرج المخطط عن السيطرة».

لافتات في القدس تنادي بعقد صفقة لإطلاق الأسرى الإسرائيليين في غزة بجانب صورة لزعيم «حماس» يحيى السنوار وأخرى لزعيم «حزب الله» حسن نصر الله اللذين قتلتهما إسرائيل في سبتمبر وأكتوبر الماضيين (أ.ف.ب)

وأضاف: «الهدف الرئيسي كان أسر جنود إسرائيليين وعقد صفقة تاريخية. ثم تأتي الأسباب الأخرى. لكن لم يتوقع أحد حتى المخططون الرئيسيون، أن تنهار قوات الاحتلال الإسرائيلي بهذه الطريقة، ما سمح بالدفع بمزيد من المقاومين للدخول لمناطق أخرى في وقت وجيز، قبل أن يتسع نطاق الهجوم بهذا الشكل».

ويعد تحرير الأسرى الفلسطينيين بالقوة، هاجس «حماس» منذ نشأت نهاية الثمانينات.

ونجحت الحركة بداية التسعينات أي بعد تأسيسها فوراً باختطاف جنود في الضفة وغزة والقدس وقتلتهم دون تفاوض. وفي عام 1994 خطف عناصر «حماس» جندياً وأخذوه إلى قرية في رام الله وبَثُّوا صوراً له ورسائل، وطلبوا إجراء صفقة تبادل، قبل أن يداهم الجنود المكان ويقتلوا كل من فيه.

وخلال العقود القليلة الماضية، لم تكل «حماس» أو تمل حتى نجحت عام 2006 في أسر الجندي جلعاد شاليط على حدود قطاع غزة، محتفظة به حتى عام 2011 عندما عقدت صفقة كبيرة مع إسرائيل تم بموجبها تحرير شاليط مقابل ألف أسير فلسطيني، بينهم يحيى السنوار الذي فجر فيما بعد معركة السابع من أكتوبر من أجل الإفراج عمن تبقى من رفاقه في السجن.

وتعد الحركة، الوحيدة التي نجحت في خطف إسرائيليين داخل الأراضي الفلسطينية، فيما نجح الآخرون قبل ذلك خارج فلسطين.

وقال مصدر في «حماس»: «قيادة الحركة وخاصةً رئيس مكتبها السياسي يحيى السنوار، كانت تولي اهتماماً كبيراً بملف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وظلت تبحث عن كل فرصة لإخراج أكبر عدد ممكن منهم».

وأضاف: «السنوار وعد رفاقه عندما خرج في صفقة شاليط بالإفراج عنهم».

انفجار ضخم بعد قصف إسرائيلي لمخيم البريج جنوب غزة (إ.ب.أ)

وفعلاً حاول السنوار التوصل إلى صفقة من خلال مفاوضات على 4 أسرى لدى الحركة، وهم الجنود: هدار غولدن، وآرون شاؤول، اللذان تم أسرهما عام 2014، وأفراهام منغستو بعدما دخل الحدود بين عسقلان وغزة في العام نفسه، وهشام السيد بعد تسلله هو الآخر من الحدود.

تكتيكات «حماس» قبل وبعد

منذ 2014 حتى 2023 جربت «حماس» كل الطرق. عرضت صفقة شاملة وصفقة إنسانية، وضغطت على إسرائيل عبر نشر فيديوهات، آخرها فيديو قبل الحرب لمنغتسو، قال فيه: «أنا أفيرا منغيستو الأسير. إلى متى سأبقى في الأسر مع أصدقائي»، متسائلاً: «أين دولة إسرائيل وشعبها من مصيرهم».

ونشْر الفيديوهات من قبل «حماس» ميَّز سياسة اتبعتها منذ نشأتها من أجل الضغط على إسرائيل لعقد صفقات تبادل أسرى، وهو نهج تعزز كثيراً مع الحرب الحالية.

وخلال أكثر من عام نشرت «حماس» مقاطع فيديو لأسرى إسرائيليين بهدف الضغط على الحكومة الاسرائيلية، وعوائل أولئك الأسرى من جانب آخر، وكان آخر هذه المقاطع لأسير أميركي - إسرائيلي مزدوج الجنسية يدعى إيدان ألكسندر.

وظهر ألكسندر قبل أسبوع وهو يتحدث بالإنجليزية متوجهاً إلى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وبالعبرية متوجهاً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مطالباً إياهم بالعمل على الإفراج عنه وعن الأسرى ضمن صفقة تبادل، مؤكداً أن حراسه من عناصر «حماس» أخبروه بأنهم تلقوا تعليمات جديدة إذا وصل الجيش الإسرائيلي إليهم، في إشارة لإمكانية قتله، داعياً الإسرائيليين للخروج والتظاهر يومياً للضغط على الحكومة للقبول بصفقة تبادل ووقف إطلاق النار في غزة. مضيفاً: «حان الوقت لوضع حد لهذا الكابوس».

وكثيراً ما استخدمت «حماس» هذا التكتيك، لتظهر أنها ما زالت تحافظ على حياة العديد منهم وأنهم في خطر حقيقي، وللتأكيد على موقفها المتصلب بأنه لا صفقة دون وقف إطلاق نار.

وفي الأيام القليلة الماضية، نشرت «حماس» فيديو جديداً عبر منصاتها أكدت فيه أن 33 أسيراً قتلوا وفقدت آثار بعضهم بسبب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وجيشه، وأنه باستمرار الحرب قد تفقد إسرائيل أسراها إلى الأبد.

إذن من أجل كل هذا وبعدما فشلت «حماس» في الوصول إلى صفقة، هاجمت في السابع من أكتوبر.

وقال مصدر مطلع: «لم تجد قيادة (حماس) أمامها سوى الخيار العسكري لتحريك هذا الملف، بعدما أهملت إسرائيل الملف ومطالبات الحركة بإتمام صفقة».

لكن النتائج جاءت عكس ما اشتهت السفن.

وأغلب الظن أن حركة «حماس» كانت تخطط لأسر عدد محدود من الإسرائيليين، تدخل بعدها في معركة قصيرة مع إسرائيل تجبر فيها الأخيرة على الإذعان لصفقة تبادل، على غرار ما جرى بعد اختطاف شاليط.

فالطوفان الذي خططت له «حماس»، جلب طوفانات على الفلسطينيين، وتحديداً في غزة التي تدمرت ودفعت ثمناً لا يتناسب مطلقاً مع الهدف المنوي جبايته.

خارج التوقعات

بدأت أصوات الغزيين ترتفع ويجاهر كثيرون بأن إطلاق سراح الأسرى لا يستحق كل هذا الدمار، ويقولون إن عدد الضحايا أصبح أضعاف أضعاف أعداد الأسرى، الذين بلغ عددهم قبل الحرب نحو 6 الآف.

وقال فريد أبو حبل وهو فلسطيني من سكان جباليا نازح إلى خان يونس جنوب القطاع: «كل ما نريده أن تتوقف هذه الحرب، لا شيء يمكن أن يكفر عن الثمن الباهظ جداً الذي دفعناه ولا حتى تبييض السجون بأكملها يمكن أن يعيد لنا جزءاً من كرامتنا المهدورة ونحن في الخيام ولا نجد ما نسد به رمق أطفالنا».

وتساءل أبو حبل: «من المسؤول عما وصلنا إليه؟! لو سئل الأسرى أنفسهم عن هذه التضحيات لربما كانوا تخلوا عن حريتهم مقابل أن يتوقف هدر الدماء بهذا الشكل».

لكن منال ياسين، ترى أن من يتحمل مسؤولية استمرار هذه الحرب هو الاحتلال الإسرائيلي وخاصةً نتنياهو الذي يرفض كل الحلول، معربةً عن اعتقادها أن «حماس» قدمت ما عليها، وحاولت تقديم كثير من المرونة، لكن من ترفض الحلول هي إسرائيل.

وتؤكد ياسين أن جميع سكان غزة يريدون وقف هذه الحرب.

ولا يقتصر هذا الجدل على آراء الناس في الشارع، بل امتد لشبكات التواصل الاجتماعي. وكتب الكاتب محمود جودة على صفحته على «فيسبوك»: «الموضوع صار خارج منطق أي شيء، مطر وجوع وقتل وخوف، أهل غزة الآن بيتعذبوا بشكل حقير وسادي، مقابل اللاشيء حرفياً. الجرحى بينزفوا دم، والمطر مغرقهم، والخيام طارت، والطين دفن وجوه الناس، ليش كل هذا بيصير فينا، ليش وعشان شو بيتم استنزافنا هيك بشكل مهين».

وقال الطبيب فضل عاشور، إن «كل محاولات حماس للحفاظ على البقاء محكومة بالفشل، والعناد اليائس ثمنه دمنا ولحم أطفالنا». فيما كتب الناشط الشبابي أيمن بكر: «ما هذا الخرب يا حماس؟ هل كل هذا يستاهل ما نحن فيه؟ نحن نموت جوعاً وقتلاً».

جوع وأزمة غذاء وتدافع على حصص المساعدات الغذائية في خان يونس (رويترز)

جدل عام وتهم جاهزة

هذا الجدل سرعان ما انتقل إلى السياسيين ورجال الدين.

فقد أثار الشيخ سليمان الداية عميد كلية الشريعة في الجامعة الإسلامية التابعة لـ«حماس»، وأبرز الشخصيات المعروفة مجتمعياً ومن القيادات المؤثرة دينياً داخل الحركة، وجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، جدلاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي بعد نشره حلقات متتالية حول ما آلت إليه الحرب من نتائج صعبة على واقع الغزيين سياسياً واقتصادياً ودينياً واجتماعياً.

وكان الداية بالأساس يرد على تساؤلات دفعته لنشر هذه الحلقات، حول تصريحات للقيادي في «حماس» أسامة حمدان، حين قال إن ما يعيشه سكان غزة واقع عاشه كثيرون في العالم على مر التاريخ، مدافعاً عن هجوم 7 أكتوبر، ومبرراً حاجة حركته للتمسك بمواقفها رغم العدد الكبير من الضحايا والدمار الذي لحق بغزة.

ودفع كلام الداية، الكثيرين من المؤيدين لفكرة إنهاء الحرب أو رفضها من الأساس، بينما هاجمه كثيرون من عناصر «حماس» ووصفوه بأنه أحد «المتخاذلين أو المستسلمين».

وكتب الأسير المحرر والمختص بالشؤون الإسرائيلية عصمت منصور على صفحته في «فيسبوك» معلقاً على هذا الجدل: «لا تتهموا كل من يختلف أو يجتهد أو يحاول إثارة نقاش بجمل مسبقة وجاهزة ووضعه في خانة معادية للمقاومة وتحويل المقاومة إلى سيف مسلط على ألسن الناس».

ويرى المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن هذا الخلاف، طبيعي في ظل الظروف التي تحكم الفلسطينيين، لكنه يعتقد أنه كان من الصواب لو اعترفت «حماس» بأنها ربما قد تكون أخطأت التقدير في ظروف ردة الفعل الإسرائيلية على مثل الهجوم الذي شنته، وكان من الممكن أن يكون بشكل مغاير يخفف من مثل ما يجري على الأرض من مجازر ترتكب يومياً.

وأضاف: «الفلسطينيون بحاجة لنقاش جدي حول كثير من القضايا خاصةً فيما يتعلق بما وصلت إليه القضية الفلسطينية على جميع المستويات».

وتجمع غالبية من الفلسطينيين على أن حركة «حماس» كانت قادرة على أن يكون الهجوم الذي نفذته في السابع من أكتوبر 2023، أكثر حكمةً وأقل ضرراً بالنسبة للغزيين في ردة فعلهم.

أطفال فلسطينيون يحضرون صفاً أقامته معلمة سابقة وأم من رفح لتعليم الأولاد في مركز نزوحهم بإحدى مدارس خان يونس (أ.ف.ب)

ويستدل الفلسطينيون خاصةً في غزة، على العديد من الهجمات التي كانت تنفذها «حماس» لمحاولة خطف إسرائيليين، بشكل يظهر حكمتها، كما جرى في عملية أسر جلعاد شاليط عام 2006.

وتقول مصادر من «حماس» لـ«الشرق الأوسط»، إن ما جرى كان خارج التوقعات، ولم يشمل المخطط الحقيقي للعملية، على الأقل أسر هذا العدد الكبير من الإسرائيليين.

وتعتقد مصادر أخرى أن القائمين على مخطط الهجوم، لو كانوا يدركون أنه سيسير بهذا الشكل، وتحديداً فيما يتعلق بردة الفعل الإسرائيلية، لصرفوا النظر أو أوقفوا الهجوم أو غيروا من تكتيكاته.

وإذا كان ثمة نقاش حول الثمن المدفوع الذي أرادت «حماس» أن تجبيه فإنها حتى الآن لم تُجبِه.

ويبدو أن التوصل لصفقة بين «حماس» وإسرائيل، أعقد مما تخيلت الحركة، في ظل رفض الأخيرة لكثير من الشروط التي وضعتها الأولى، خاصةً فيما يتعلق بالانسحاب من قطاع غزة بشكل كامل، وعودة النازحين من جنوب القطاع إلى شماله، والأزمة المتعلقة بشكل أساسي باليوم التالي للحرب.

وينوي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، حتى الآن، المضي في حربه، من أجل مصالح سياسية وشخصية بشكل أساسي، وهو الأمر الذي تؤكده عوائل الأسرى الإسرائيليين وغيرهم وحتى جهات من المؤسسة الأمنية في تل أبيب، التي تشير إلى أن نتنياهو هو من يعرقل أي اتفاق مع «حماس».

وأكد المحلل السياسي مصطفى إبراهيم، أن «نتنياهو يفضل استمرار الحرب في غزة من أجل كسب الوقت للحفاظ على حكمه سياسياً ومنع تفكك ائتلافه الحكومي من جهة، ومنع مقاضاته من جهة أخرى، ولذلك طلب مؤخراً عدة مرات تأجيل شهادته في قضايا الفساد المتهم بها، كما أنه يسعى لسن قوانين تسمح له بعدم الوجود في أماكن معينة لوقت طويل خشيةً من استهدافه بالطائرات المسيّرة، بهدف المماطلة في جلسات المحاكمة».

ويعتقد إبراهيم أنه كان من الممكن سابقاً التوصل لاتفاق جزئي يضمن في نهايته انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، إلا أن المشهد المعقد أيضاً في عملية اتخاذ القرار الفلسطيني داخل حركة «حماس» بشكل خاص، كان له أثر سلبي على ذلك، ما أضاع العديد من الفرص للتوصل لصفقة.

ويتفق إبراهيم مع الآراء التي تؤكد أن التوصل لصفقة يصبح أكثر تعقيداً وصعوبةً مع مرور الوقت.

وبانتظار أن ترى صفقة «حماس» النور أو لا... لم تكن «حماس» مخترعة العجلة في هذا الأمر.

صفقات تبادل سابقة

ونجح الفلسطينيون عبر تاريخ طويل في عقد عدة صفقات تبادل أسرى.

وكانت صفقة الجندي جلعاد شاليط هي الأولى بالنسبة لحركة «حماس»، وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، كانت الصفقة الثانية بالنسبة لـ«حماس» خلال الحرب الحالية، بإطلاق سراح نحو 50 إسرائيلياً مقابل 150 فلسطينياً.

ويعود التاريخ الفلسطيني في صفقات التبادل، إلى يوليو (تموز) 1968، وهي الصفقة الأولى بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، حين نجح عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إحدى فصائل المنظمة، باختطاف طائرة إسرائيلية تابعة لشركة العال، التي كانت متجهة من روما إلى تل أبيب وأجبرت على التوجه إلى الجزائر وبداخلها أكثر من مائة راكب، وتم إبرام الصفقة من خلال «الصليب الأحمر الدولي» وأفرج عن الركاب مقابل 37 أسيراً فلسطينياً من ذوي الأحكام العالية من ضمنهم أسرى فلسطينيون كانوا قد أسروا قبل عام 1967.

وفي يناير (كانون الثاني) 1971، جرت عملية تبادل أسير مقابل أسير ما بين حكومة إسرائيل وحركة «فتح»، وأطلق بموجبها سراح الأسير محمود بكر حجازي، مقابل إطلاق سراح جندي إسرائيلي اختطف في أواخر عام 1969.

وفي مارس (آذار) 1979، جرت عملية تبادل أخرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، حيث أطلقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، سراح جندي إسرائيلي كانت قد أسرته بتاريخ 5 أبريل (نيسان) 1978، في كمين قرب صور، وقتلت حينها 4 جنود آخرين، وأفرجت إسرائيل مقابل الجندي عن 76 معتقلاً فلسطينياً من بينهم 12 سيدة.

وفي منتصف فبراير (شباط) 1980 أطلقت حكومة إسرائيل سراح الأسير مهدي بسيسو، مقابل إطلاق سراح مواطنة عملت جاسوسة لصالح إسرائيل كانت محتجزة لدى حركة «فتح»، وتمت عملية التبادل في قبرص وبإشراف اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر».

وفي 23 نوفمبر 1983، جرت عملية تبادل جديدة ما بين الحكومة الإسرائيلية، وحركة «فتح»، أفرج بموجبها عن جميع أسرى معتقل أنصار في الجنوب اللبناني وعددهم (4700) أسير فلسطيني ولبناني، و (65) أسيراً من السجون الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح ستة جنود إسرائيليين أسروا في منطقة بحمدون في لبنان، فيما أسرت الجبهة الشعبية – القيادة العامة، جنديين آخرين.

وفي 20 مايو (أيار) 1985، أجرت إسرائيل عملية تبادل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، أطلق بموجبها سراح 1155 أسيراً كانوا محتجزين في سجونها المختلفة، مقابل ثلاثة جنود أسروا في عمليتين منفصلتين.

لكن ليس كل الصفقات تمت بمبادلة.

ولعل أبرز صفقة حصلت عليها «حماس» لم تشارك فيها بشكل مباشر، وكانت عام 1997، حين جرت اتفاقية تبادل ما بين الحكومة الإسرائيلية والحكومة الأردنية وأطلقت بموجبها الحكومة الأخيرة سراح عملاء الموساد الإسرائيلي الذين حاولوا اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» حينها خالد مشعل، فيما أطلقت حكومة إسرائيل سراح الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، الذي كان معتقلاً في سجونها منذ عام 1989 وكان يقضي حكماً بالسجن مدى الحياة، وكان لهذا الإفراج دور مهم في ارتفاع شعبية الحركة على مدار سنوات تلت ذلك، وخاصة بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000.