سيجد القارئ قضايا كثيرة يختلف فيها مع المؤرخ الإيراني ناصر بوربيرار، ومن يقدح في شخصه بقصص كثيرة. فالمواقف السياسية في الحياة اليومية قد تشوه المثقف، ومن ثم قد يكرهه الناس ويُحرم المتلقي من علمه. لهذا سنعرض عن كل هذه المواقف، لأقول إنه لمن المؤسف أن ناصر لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولا يزال يعاني من التهميش الكبير، بحيث إنك حين تكتب اسمه بحثاً عن المعلومات فلن تجد إلا القليل، وحين تكتب اسم كتابه الأبرز «اثنا عشر قرناً من الصمت» في «غوغل»، فلا تجد كبير شيء ترجع إليه. وحين تبحث عنه في «أمازون» فيحيلك على من يردون عليه من خصومه الذين يصفونه بـ«الوهابي». وسيحيلونك إلى من يطرح نقيض فكرته ككتاب «قرنان من الصمت» للمؤرخ الإيراني الأستاذ في جامعة طهران عبد الحسين زرنكوب، الذي حمل العرب المسؤولية الكبرى عما جرى لإيران، وكأنها كانت تعيش الديمقراطية قبل غزو العرب لها. كتاب زرنكوب، ككتب كثيرة، يصب في نهر الكراهية وتمديد عمر الأحقاد بين العرب وجيرانهم الفرس.
ناصر بوربيرار رجل علم مثير للجدل للغاية، فهو ليس بإسلامي، بل باحث علماني تماماً، وكانت له علاقة وطيدة بحزب «توده» اليساري، ذلك الحزب العريق تاريخياً الذي علق الخميني أفراده في المشانق، ودبر لهم مذبحة مشهورة في أحد سجونه.
ناصر ليس مؤرخاً فقط، بل ومتخصص في «علم التحريف التاريخي»، أي أن علمه وعمله يسعيان لإعادة تفسير الرواية التاريخية. هذا التخصص العلمي، ينطوي عادة على تحدي الآراء التقليدية التي يتبناها علماء متخصصون حول حدث تاريخي أو فترة زمنية أو ظاهرة، ويقوم على تقديم أدلة مخالفة أو إعادة تفسير دوافع وقرارات لشخصيات بارزة. ويمكن أن تعكس مراجعة السجل التاريخي هذه كل الاكتشافات الجديدة للحقائق والأدلة والتفسير، فيقود كل ذلك إلى مراجعة كاملة للتاريخ. كل هذا قد فعله ناصر في كتابه ذي الأجزاء الخمسة، فصار معروفاً بنظرياته المثيرة للجدل التي تشكك في كل تأريخ فارس المعترف به أكاديمياً، من الإمبراطورية الأخمينية إلى بداية العصر الصفوي. إنه يؤمن بأن العالم القديم اختلق تاريخ فارس، وأن قصتها كما يعرفها المؤرخون مزورة.
هذا الكتاب يتكون من خمسة أجزاء؛ الجزء الأول عن الإمبراطورية الأخمينية، والثاني عن الإمبراطورية الفرثية، وثلاثة الأجزاء الأخرى عن الإمبراطورية الساسانية والحكم العربي الإسلامي، انتهاء بزمن الصفويين القريب نسبياً.
فارس بلاد جميلة للغاية وذات موارد هائلة، ولذلك كان من الطبيعي أن تكون مطمعاً للغزاة وألا تبقى في ملك عرق من البشر بعينه، ونحن نعلم من تاريخ الأتراك، على سبيل المثال، أن بداية ملكهم ليست من تركيا المعاصرة، بل من فارس.
الجزء الأول من كتاب ناصر عن الإمبراطورية الأخمينية، ويقال لها أيضاً الإمبراطورية الفارسية الأولى. دولة توسعية هائلة أسسها قورش فابتلعت البلقان وأوروبا الشرقية في الغرب إلى وادي السند في الشرق، وكانت أكبر من أي إمبراطورية سابقة في التاريخ، حيث تمتد مساحتها إلى 5.5 مليون كيلومتر مربع. إمبراطورية تنتهج إدارة مركزية بيروقراطية، بحيث يكون في كل إقليم مرزبان يعمل لخدمة ملك الملوك قورش، ولها لغة واحدة فُرضت بالقوة على كل تلك الأقاليم بعد هزيمة قورش للميديين، وهم فُرس، وانتصاره على ليديا والإمبراطورية البابلية الجديدة، لتكتمل بذلك إمبراطوريته، الإمبراطورية الأخمينية. هذه الإمبراطورية سارت باتجاه الانهيار عندما غزاها الإسكندر الأكبر في سنة 330 قبل الميلاد، وبعد وفاة الإسكندر التي حدثت سريعاً فسقطت معظم أراض الإمبراطورية السابقة تحت حكم المملكة البطلمية والإمبراطورية السلوقية، واستقلت بعض أجزائها الصغيرة.
أصل هذه الدولة الأخمينية قبائل بدوية استقرت في جنوب البلاد وأصبح اسمها فارس، وهي قرب شيراز اليوم. لكن علم الآركيولوجيا يقف عاجزاً أمام هذه الرواية، لأنه لا تكاد توجد أي نقوش تتكلم عن الفرس. ناصر ممن سلطوا الضوء على غياب الأدلة المادية التي تثبت وجود هذه الدولة، وتساءل عن غياب آثارها برغم كل الجهود الآركيولوجية. إنه يرى أن سلالة الإخمينيين ليسوا بفرس أصلاً، وإنما هم جماعة من الغزاة السلافيين البربريين القدماء الذين انتهى بهم داريوس الكبير بعد عودتهم إلى وطنهم في السهول الأوراسية. ويذهب ناصر لأبعد من هذا، فيقول إن الأخمينيين قد أبادوا الفرس الأصليين في الحرب التي تعرف باسم «بوريم» الموصوفة في سفر استير الملكة اليهودية زوجة الملك الفارسي أخشورش في القرن الخامس قبل الميلاد، ويُحتفل به اليوم باسم «عيد المساخر»، لأن استير أنقذت شعبها من الإبادة.
الإمبراطورية الأخمينية هي من دمرت الحضارات العظيمة السابقة، البابلية والآشورية فما دونهما. نحن نتحدث عن دولة حكمت جزءاً كبيراً من العالم القديم لكن لا يوجد لها أي أثر مادي، لا توجد لهم عملة نقدية ولا أي شيء يدل على أنهم وجدوا، رغم أنها قهرت واحتلت مائة وسبع وعشرين أمة مجاورة واستمتعت واستخدمت تلك الأمم. من وجهة نظر ناصر، كل هذا التاريخ قد تم طمسه لإخفاء مذبحة بوريم التي تفاقمت تداعياتها لتجتث حضارات ومجتمعات إثنية كاملة في بلاد الرافدين والهلال الخصيب وأطراف الجزيرة العربية. الأخمينيون هم من دمر فارس والمشرق. أما قصة العداوة بين الأمتين الفارسية واليهودية وعلاقتهما شديدة التعقيد فهي لا تعنينا كثيراً، ولن ننصر رواية على رواية، لذلك لن نتوقف عندها طويلاً.
الجزء الثاني يحكي عن الإمبراطورية الفرثية في القرن الثاني قبل الميلاد، وكيف أنها هزمت السلوقيين وانتزعت فارس منهم. كذا تقول الرواية التاريخية الرسمية، أما ناصر فقد قرر أن المواقع التاريخية التي يُقال إنها فرثية لا تخرج عن حالين، إما مرتبطة بشكل واضح باليونانيين أو مزورة حديثاً.
في الأجزاء التي تتحدث عن الساسانيين، أكد ناصر أن جميع النقوش التي قيل إنها ساسانية هي مزيفة حديثة، وقرر أن شخصيات تاريخية مثل مزدك وماني وزرادشت وبابك، هي كلها من اختراع المؤرخين والرواة، وأن فارس لم تكن تملك أي مخطوطات أدبية أو تاريخية. مما يدل على غياب الأدب الفارسي في تلك الفترة، أننا نعرف نص «الشاهنامه» الذي يصور تاريخ الفرس منذ العهود الأسطورية حتى زمن العرب المسلمين وسقوط الدولة الساسانية، تلك الملحمة الفارسية الضخمة التي تقع في نحو ستين ألف بيت، من تصنيف أبي قاسم الفردوسي. هذه الشاهنامه تُعد بالاتفاق، أعظم أثر أدبي فارسي في جميع العصور، وإذا كان هذا النص الذي نظمه الفردوسي كان هدية للسلطان محمود الغزنوي الذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي، فأين إنتاج الفرس الكتابي فيما قبل الإسلام وغزو العرب؟!
بالنسبة للمشغول بتاريخ إيران، كان التنقيب في برسيبوليس في ثلاثينات القرن الماضي حدثاً كبيراً، فبرسيبوليس هي عاصمة الإمبراطورية الأخمينية. صار اسمها اليوم تخت جمشيد وتبعد عن شيراز ما يقارب سبعين كم في اتجاه الشمال الشرقي. وقد اكتشف هذا التنقيب أرشيفاً ضخماً من الوثائق الإدارية، وعند كثيرين، غيرت هذه الألواح الطينية الصغيرة والبسيطة معظم المعرفة بالحقائق اليومية للحكم الأخميني، أما ناصر فيرى أن وثائق برسيبوليس كلها مزورة، وضعت في مرحلة حديثة، وادعى أن بناء برسيبوليس لم ينته أبداً، لأنه كعالم بالأركيولوجيا يعتقد أن البنائين قد قُتلوا قبل أن ينتهي البناء، فكيف يصح النقش على بناء لم يكتمل بعد؟! هذا لا ينطبق على الأخمينيين فقط، بل الفرثية والساسانية والطاهرية والغزنوية والسلاجقة والسامانية التي مرت على حكم فارس، لا تملك تاريخاً صحيحاً. ويتهم ناصر صراحة جامعة شيكاغو وبعض الدوائر العلمية في ألمانيا بأنها تخفي الوثائق التي يمكن أن تفضح هذا التاريخ.
يقول ناصر إن الاثني عشر قرناً التي سبقت غزو العرب المسلمين لفارس كانت قرون الصمت، فقد تعاقبت الإمبراطوريات الثلاث الأخمينية والفرثية والساسانية على محاربة الكتابة، فكل من يمارس القراءة والكتابة يقتل، وكل من يقوم بدور ثقافي يقتل، وكل من يقول الشعر يُقتل، في دولة لا تملك أي تاريخ عمراني تبرز فيه فنون النحت والنقوش والبناء، فلا قلاع ولا حصون ولا قصور، كما في اليونان مثلاً. لا شيء سوى جهود منظمة لإبقاء الفرس في جهل مطبق. معنى هذا أن كل تلك الأحاديث عن تحضر الفارسي وهمجية العربي هي من الدجل الذي خُدع به كثيرون، ومن ضمنهم بعض العرب الكارهين لأنفسهم ولتاريخهم، بسبب قصص الغزو رغم أن الغزو والاحتلال هما ديدن كل الأمم وكل الشعوب في كل الأزمان، وما زلنا إلى يومنا هذا نرى ذلك، فلماذا يعير به العرب وحدهم؟!
في مقابل هذا، وعلى الضد من إدانة ناصر وتزييفه لكل تاريخ إيران في اثني عشر قرناً، يمتدح هذا المؤرخ الفارسي العلماني غزو العرب لفارس، ويقرر أن انتصار العرب المسلمين في معركة القادسية المشهورة كان حاسماً، فلم يجدوا بعد هزيمة الساسانيين من يقف في وجوههم فكل الشعب الفارسي كان مبتهجاً بسقوط بني ساسان غير المأسوف عليه، بسبب قسوتهم المبالغ فيها وتكريسهم للجهل والتزوير. في جملة واحدة، العرب في رأيه هم من أنقذوا البلاد الفارسية، وأن العبقرية الفارسية فيما بعد عبرت عن نفسها باللغة العربية في كل مجالات العلم والثقافة، وأن الروح الفارسية كشفت عن ذاتها في الدين والفن والفلسفة باللغة العربية. عدد يصعب إحصاؤه من الأسماء الفارسية قامت بدور ريادي في علوم اللغة العربية من نحو وبلاغة، وفي علم الكلام والجدل، وفي العلم الطبيعي، وفي الفلسفة. كل هؤلاء هم عرب بالثقافة حتى وإن كانوا ينتمون عرقياً لسلالات أخرى وشعوب أخرى، فابن سينا والفارابي وغيرهما كانت فلسفاتهم تنطق بالعربية وتتواصل مع جمهور عربي، وحفظت التراث الفلسفي للعالم كله.
لكل ذلك، يقرر ناصر بشكل واضح أنه يرى وجوب تعلم الفارسي للعربية، فالمصير العربي/الفارسي واحد، وإيران مرتبطة بالعرب والمسلمين ارتباط الجنين بحبل المشيمة. ونحن بدورنا نوافقه على هذا الرأي، فما أكثر المثقفين الإيرانيين النابهين النوابغ ممن لقينا وكانوا في قمة النبل والتحضر ممن يرون أن العلاقة بينهم وبين العرب، خصوصاً السعودية، هي علاقة إخاء ومحبة، وأن لا مشكلة إلا في هذا النظام الكهنوتي المتخلف الذي لا يزال يحكم إيران اليوم.
* باحث سعودي
اثنا عشر قرناً من الصمت
اثنا عشر قرناً من الصمت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة