اثنا عشر قرناً من الصمت

مظاهرة معارضة للنظام الإيراني في لندن 8 يناير الماضي (د.ب.أ)
مظاهرة معارضة للنظام الإيراني في لندن 8 يناير الماضي (د.ب.أ)
TT

اثنا عشر قرناً من الصمت

مظاهرة معارضة للنظام الإيراني في لندن 8 يناير الماضي (د.ب.أ)
مظاهرة معارضة للنظام الإيراني في لندن 8 يناير الماضي (د.ب.أ)

سيجد القارئ قضايا كثيرة يختلف فيها مع المؤرخ الإيراني ناصر بوربيرار، ومن يقدح في شخصه بقصص كثيرة. فالمواقف السياسية في الحياة اليومية قد تشوه المثقف، ومن ثم قد يكرهه الناس ويُحرم المتلقي من علمه. لهذا سنعرض عن كل هذه المواقف، لأقول إنه لمن المؤسف أن ناصر لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولا يزال يعاني من التهميش الكبير، بحيث إنك حين تكتب اسمه بحثاً عن المعلومات فلن تجد إلا القليل، وحين تكتب اسم كتابه الأبرز «اثنا عشر قرناً من الصمت» في «غوغل»، فلا تجد كبير شيء ترجع إليه. وحين تبحث عنه في «أمازون» فيحيلك على من يردون عليه من خصومه الذين يصفونه بـ«الوهابي». وسيحيلونك إلى من يطرح نقيض فكرته ككتاب «قرنان من الصمت» للمؤرخ الإيراني الأستاذ في جامعة طهران عبد الحسين زرنكوب، الذي حمل العرب المسؤولية الكبرى عما جرى لإيران، وكأنها كانت تعيش الديمقراطية قبل غزو العرب لها. كتاب زرنكوب، ككتب كثيرة، يصب في نهر الكراهية وتمديد عمر الأحقاد بين العرب وجيرانهم الفرس.
ناصر بوربيرار رجل علم مثير للجدل للغاية، فهو ليس بإسلامي، بل باحث علماني تماماً، وكانت له علاقة وطيدة بحزب «توده» اليساري، ذلك الحزب العريق تاريخياً الذي علق الخميني أفراده في المشانق، ودبر لهم مذبحة مشهورة في أحد سجونه.
ناصر ليس مؤرخاً فقط، بل ومتخصص في «علم التحريف التاريخي»، أي أن علمه وعمله يسعيان لإعادة تفسير الرواية التاريخية. هذا التخصص العلمي، ينطوي عادة على تحدي الآراء التقليدية التي يتبناها علماء متخصصون حول حدث تاريخي أو فترة زمنية أو ظاهرة، ويقوم على تقديم أدلة مخالفة أو إعادة تفسير دوافع وقرارات لشخصيات بارزة. ويمكن أن تعكس مراجعة السجل التاريخي هذه كل الاكتشافات الجديدة للحقائق والأدلة والتفسير، فيقود كل ذلك إلى مراجعة كاملة للتاريخ. كل هذا قد فعله ناصر في كتابه ذي الأجزاء الخمسة، فصار معروفاً بنظرياته المثيرة للجدل التي تشكك في كل تأريخ فارس المعترف به أكاديمياً، من الإمبراطورية الأخمينية إلى بداية العصر الصفوي. إنه يؤمن بأن العالم القديم اختلق تاريخ فارس، وأن قصتها كما يعرفها المؤرخون مزورة.
هذا الكتاب يتكون من خمسة أجزاء؛ الجزء الأول عن الإمبراطورية الأخمينية، والثاني عن الإمبراطورية الفرثية، وثلاثة الأجزاء الأخرى عن الإمبراطورية الساسانية والحكم العربي الإسلامي، انتهاء بزمن الصفويين القريب نسبياً.
فارس بلاد جميلة للغاية وذات موارد هائلة، ولذلك كان من الطبيعي أن تكون مطمعاً للغزاة وألا تبقى في ملك عرق من البشر بعينه، ونحن نعلم من تاريخ الأتراك، على سبيل المثال، أن بداية ملكهم ليست من تركيا المعاصرة، بل من فارس.
الجزء الأول من كتاب ناصر عن الإمبراطورية الأخمينية، ويقال لها أيضاً الإمبراطورية الفارسية الأولى. دولة توسعية هائلة أسسها قورش فابتلعت البلقان وأوروبا الشرقية في الغرب إلى وادي السند في الشرق، وكانت أكبر من أي إمبراطورية سابقة في التاريخ، حيث تمتد مساحتها إلى 5.5 مليون كيلومتر مربع. إمبراطورية تنتهج إدارة مركزية بيروقراطية، بحيث يكون في كل إقليم مرزبان يعمل لخدمة ملك الملوك قورش، ولها لغة واحدة فُرضت بالقوة على كل تلك الأقاليم بعد هزيمة قورش للميديين، وهم فُرس، وانتصاره على ليديا والإمبراطورية البابلية الجديدة، لتكتمل بذلك إمبراطوريته، الإمبراطورية الأخمينية. هذه الإمبراطورية سارت باتجاه الانهيار عندما غزاها الإسكندر الأكبر في سنة 330 قبل الميلاد، وبعد وفاة الإسكندر التي حدثت سريعاً فسقطت معظم أراض الإمبراطورية السابقة تحت حكم المملكة البطلمية والإمبراطورية السلوقية، واستقلت بعض أجزائها الصغيرة.
أصل هذه الدولة الأخمينية قبائل بدوية استقرت في جنوب البلاد وأصبح اسمها فارس، وهي قرب شيراز اليوم. لكن علم الآركيولوجيا يقف عاجزاً أمام هذه الرواية، لأنه لا تكاد توجد أي نقوش تتكلم عن الفرس. ناصر ممن سلطوا الضوء على غياب الأدلة المادية التي تثبت وجود هذه الدولة، وتساءل عن غياب آثارها برغم كل الجهود الآركيولوجية. إنه يرى أن سلالة الإخمينيين ليسوا بفرس أصلاً، وإنما هم جماعة من الغزاة السلافيين البربريين القدماء الذين انتهى بهم داريوس الكبير بعد عودتهم إلى وطنهم في السهول الأوراسية. ويذهب ناصر لأبعد من هذا، فيقول إن الأخمينيين قد أبادوا الفرس الأصليين في الحرب التي تعرف باسم «بوريم» الموصوفة في سفر استير الملكة اليهودية زوجة الملك الفارسي أخشورش في القرن الخامس قبل الميلاد، ويُحتفل به اليوم باسم «عيد المساخر»، لأن استير أنقذت شعبها من الإبادة.
الإمبراطورية الأخمينية هي من دمرت الحضارات العظيمة السابقة، البابلية والآشورية فما دونهما. نحن نتحدث عن دولة حكمت جزءاً كبيراً من العالم القديم لكن لا يوجد لها أي أثر مادي، لا توجد لهم عملة نقدية ولا أي شيء يدل على أنهم وجدوا، رغم أنها قهرت واحتلت مائة وسبع وعشرين أمة مجاورة واستمتعت واستخدمت تلك الأمم. من وجهة نظر ناصر، كل هذا التاريخ قد تم طمسه لإخفاء مذبحة بوريم التي تفاقمت تداعياتها لتجتث حضارات ومجتمعات إثنية كاملة في بلاد الرافدين والهلال الخصيب وأطراف الجزيرة العربية. الأخمينيون هم من دمر فارس والمشرق. أما قصة العداوة بين الأمتين الفارسية واليهودية وعلاقتهما شديدة التعقيد فهي لا تعنينا كثيراً، ولن ننصر رواية على رواية، لذلك لن نتوقف عندها طويلاً.
الجزء الثاني يحكي عن الإمبراطورية الفرثية في القرن الثاني قبل الميلاد، وكيف أنها هزمت السلوقيين وانتزعت فارس منهم. كذا تقول الرواية التاريخية الرسمية، أما ناصر فقد قرر أن المواقع التاريخية التي يُقال إنها فرثية لا تخرج عن حالين، إما مرتبطة بشكل واضح باليونانيين أو مزورة حديثاً.
في الأجزاء التي تتحدث عن الساسانيين، أكد ناصر أن جميع النقوش التي قيل إنها ساسانية هي مزيفة حديثة، وقرر أن شخصيات تاريخية مثل مزدك وماني وزرادشت وبابك، هي كلها من اختراع المؤرخين والرواة، وأن فارس لم تكن تملك أي مخطوطات أدبية أو تاريخية. مما يدل على غياب الأدب الفارسي في تلك الفترة، أننا نعرف نص «الشاهنامه» الذي يصور تاريخ الفرس منذ العهود الأسطورية حتى زمن العرب المسلمين وسقوط الدولة الساسانية، تلك الملحمة الفارسية الضخمة التي تقع في نحو ستين ألف بيت، من تصنيف أبي قاسم الفردوسي. هذه الشاهنامه تُعد بالاتفاق، أعظم أثر أدبي فارسي في جميع العصور، وإذا كان هذا النص الذي نظمه الفردوسي كان هدية للسلطان محمود الغزنوي الذي عاش بين القرنين العاشر والحادي عشر الميلادي، فأين إنتاج الفرس الكتابي فيما قبل الإسلام وغزو العرب؟!
بالنسبة للمشغول بتاريخ إيران، كان التنقيب في برسيبوليس في ثلاثينات القرن الماضي حدثاً كبيراً، فبرسيبوليس هي عاصمة الإمبراطورية الأخمينية. صار اسمها اليوم تخت جمشيد وتبعد عن شيراز ما يقارب سبعين كم في اتجاه الشمال الشرقي. وقد اكتشف هذا التنقيب أرشيفاً ضخماً من الوثائق الإدارية، وعند كثيرين، غيرت هذه الألواح الطينية الصغيرة والبسيطة معظم المعرفة بالحقائق اليومية للحكم الأخميني، أما ناصر فيرى أن وثائق برسيبوليس كلها مزورة، وضعت في مرحلة حديثة، وادعى أن بناء برسيبوليس لم ينته أبداً، لأنه كعالم بالأركيولوجيا يعتقد أن البنائين قد قُتلوا قبل أن ينتهي البناء، فكيف يصح النقش على بناء لم يكتمل بعد؟! هذا لا ينطبق على الأخمينيين فقط، بل الفرثية والساسانية والطاهرية والغزنوية والسلاجقة والسامانية التي مرت على حكم فارس، لا تملك تاريخاً صحيحاً. ويتهم ناصر صراحة جامعة شيكاغو وبعض الدوائر العلمية في ألمانيا بأنها تخفي الوثائق التي يمكن أن تفضح هذا التاريخ.
يقول ناصر إن الاثني عشر قرناً التي سبقت غزو العرب المسلمين لفارس كانت قرون الصمت، فقد تعاقبت الإمبراطوريات الثلاث الأخمينية والفرثية والساسانية على محاربة الكتابة، فكل من يمارس القراءة والكتابة يقتل، وكل من يقوم بدور ثقافي يقتل، وكل من يقول الشعر يُقتل، في دولة لا تملك أي تاريخ عمراني تبرز فيه فنون النحت والنقوش والبناء، فلا قلاع ولا حصون ولا قصور، كما في اليونان مثلاً. لا شيء سوى جهود منظمة لإبقاء الفرس في جهل مطبق. معنى هذا أن كل تلك الأحاديث عن تحضر الفارسي وهمجية العربي هي من الدجل الذي خُدع به كثيرون، ومن ضمنهم بعض العرب الكارهين لأنفسهم ولتاريخهم، بسبب قصص الغزو رغم أن الغزو والاحتلال هما ديدن كل الأمم وكل الشعوب في كل الأزمان، وما زلنا إلى يومنا هذا نرى ذلك، فلماذا يعير به العرب وحدهم؟!
في مقابل هذا، وعلى الضد من إدانة ناصر وتزييفه لكل تاريخ إيران في اثني عشر قرناً، يمتدح هذا المؤرخ الفارسي العلماني غزو العرب لفارس، ويقرر أن انتصار العرب المسلمين في معركة القادسية المشهورة كان حاسماً، فلم يجدوا بعد هزيمة الساسانيين من يقف في وجوههم فكل الشعب الفارسي كان مبتهجاً بسقوط بني ساسان غير المأسوف عليه، بسبب قسوتهم المبالغ فيها وتكريسهم للجهل والتزوير. في جملة واحدة، العرب في رأيه هم من أنقذوا البلاد الفارسية، وأن العبقرية الفارسية فيما بعد عبرت عن نفسها باللغة العربية في كل مجالات العلم والثقافة، وأن الروح الفارسية كشفت عن ذاتها في الدين والفن والفلسفة باللغة العربية. عدد يصعب إحصاؤه من الأسماء الفارسية قامت بدور ريادي في علوم اللغة العربية من نحو وبلاغة، وفي علم الكلام والجدل، وفي العلم الطبيعي، وفي الفلسفة. كل هؤلاء هم عرب بالثقافة حتى وإن كانوا ينتمون عرقياً لسلالات أخرى وشعوب أخرى، فابن سينا والفارابي وغيرهما كانت فلسفاتهم تنطق بالعربية وتتواصل مع جمهور عربي، وحفظت التراث الفلسفي للعالم كله.
لكل ذلك، يقرر ناصر بشكل واضح أنه يرى وجوب تعلم الفارسي للعربية، فالمصير العربي/الفارسي واحد، وإيران مرتبطة بالعرب والمسلمين ارتباط الجنين بحبل المشيمة. ونحن بدورنا نوافقه على هذا الرأي، فما أكثر المثقفين الإيرانيين النابهين النوابغ ممن لقينا وكانوا في قمة النبل والتحضر ممن يرون أن العلاقة بينهم وبين العرب، خصوصاً السعودية، هي علاقة إخاء ومحبة، وأن لا مشكلة إلا في هذا النظام الكهنوتي المتخلف الذي لا يزال يحكم إيران اليوم.
* باحث سعودي



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.