ألمانيا... حرب أوكرانيا والخيارات الاستراتيجية الصعبة

بين هواجس الماضي وإرث «الأوستبوليتيك»

دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... حرب أوكرانيا والخيارات الاستراتيجية الصعبة

دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل عام تقريبا، جلبت ألمانيا لنفسها لقب «المترددة» بالنسبة لحلفائها الغربيين، وذلك بسبب عرقلتها مرة بعد أخرى إرسال مساعدات عسكرية لكييف أو حتى فرض عقوبات على موسكو. ومع أن ألمانيا تعتبر نفسها «متمهلة» لا «مترددة»، فإن تباطؤها في اتخاذ قرارات تتعلق بدعم أوكرانيا، كان آخرها حول دبابات «ليوبارد»، فاقم قلة الثقة فيها بوصفها شريكا يمكن الاعتماد عليه بالنسبة لواشنطن. حتى قبل بداية الحرب في 24 فبراير (شباط) من العام الماضي، كان صبر الولايات المتحدة قد بدأ ينفد مع ألمانيا. وفي نهاية يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، - أي قبل شهر تقريبا من بدء الحرب - وجهت السفيرة الأميركية في برلين إيميلي هابر رسالة شديدة اللهجة إلى الخارجية الألمانية، كشفت عنها مجلة «دير شبيغل»، استهلتها - حسب المجلة – بالتالي: «برلين، لدينا مشكلة». ثم أكملت هابر شرح كيف أن «تردّد» برلين في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية جعلها «شريكاً لم يعد يمكن الاعتماد عليه» في واشنطن. كانت هابر تتحدث عن نقطتين: الأولى معارضة ألمانيا فرض عقوبات على روسيا بسبب حشودها العسكرية على حدود أوكرانيا. والثانية رفضها السماح للدول التي تملك أسلحة سوفياتية اشترتها من ألمانيا الشرقية آنذاك، بإرسالها إلى كييف. واستخلصت السفيرة في رسالتها أن مواقف برلين نابعة من رغبتها بالاستمرار في شراء غاز بأسعار رخيصة من روسيا. وأبلغت هابر من ثم الخارجية الألمانية، بأن مواقف برلين تدفع بالبعض في واشنطن، خاصة من الجمهوريين، لوصفها بأنها باتت «حليفة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين»... وبالتالي، تقول إن هذا التردد قد تكون له آثار «ضخمة».

مرّت سنة على رسالة إيميلي هابر، السفيرة الأميركية لدى ألمانيا، إلى وزارة الخارجية الألمانية في برلين. لكن الخلافات الثنائية حول دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، لم تتقلص، بل يمكن – وفق عدد من المراقبين – القول إنها تتزايد. وعلى الرغم من الخطاب الشهير الذي ألقاه المستشار الألماني أولاف شولتز يوم 27 فبراير (شباط) 2022، أي بعد 3 أيام فقط من اندلاع الحرب الأوكرانية، والذي تحدث فيه عن «نقطة تحوّل»، فإن البعض يقول إن التغيير في برلين بطيء ولا يذهب بعيدا.
في ذلك الخطاب التاريخي، قلب المستشار شولتز سياسات ألمانية «مهادنة» اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجوهرها الإحجام عن تزويد مناطق الصراع بأسلحة، والامتناع عن بناء جيش ألماني قوي. إذ أعلن الزعيم الاشتراكي عن أن بلاده ستزوّد أوكرانيا بأسلحة للدفاع عن نفسها، وأنها ستستثمر في إعادة تأهيل جيشها ليكون قادرا على الدفاع عن ألمانيا.
مع ذلك، فإن الخلافات حول الأسلحة التي يمكن تزويد أوكرانيا بها بدأت تظهر منذ البداية. إذ ظلّت برلين ترفض تزويد الجيش الأوكراني بـ«أسلحة ثقيلة» لأشهر بعد هذا الخطاب. واكتفت برلين، في البداية، بتزويد الأوكرانيين بذخائر وأسلحة خفيفة، متحجّجة بأن الأسلحة الثقيلة قد تطيل أمد الحرب. ولم يكن الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الحاكم الذي ينتمي إليه شولتز وحده المقتنع بهذه المقاربة، بل كان مدعوماً في هذا الموقف من حزب «الخضر» البيئي الشريك الأساسي في الحكومة، والذي تنتمي إليه وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك.

- تغيّر موقف «الخضر»
وعلى الرغم من أن حزب «الخضر»، مثل الاشتراكيين، كان متمسكاً بالإحجام عن إرسال أسلحة إلى مناطق النزاعات، فإنه في المقابل كان منقسما على ذاته، إذ ظهر أن جناحا داخل الحزب البيئي على رأسه وزير الاقتصاد روبرت هابيك، يؤيد بالفعل تسليح أوكرانيا. ولم يطل الوقت حتى اقتنع «الخضر» بمختلف أجنحتهم وتياراتهم بضرورة إرسال أسلحة ثقيلة لسلطات كييف، الأمر الذي وضع الحزب في مواجهة شريكه الأساسي في الحكومة الائتلافية، مع ملاحظة أن الاشتراكيين بقيادة شولتز احتاجوا إلى وقت للوصول للاستنتاج نفسه.
ولكن، في أي حال، وبعد أشهر من النقاش، وافق شولتز على إرسال مدرّعات «ماردر» بعدما حصل على تعهّد من واشنطن بأن ترسل هي أيضاً مدرّعات «برادلي» الأميركية الصنع. والأمر نفسه تكرر مع دبابات «ليوبارد» الألمانية الصنع، إذ لم يوافق شولتز على إرسالها إلا بعدما تعهّدت واشنطن بإرسال دبابات أميركية من نوع «أبرامز»، وهذا رغم أنها خطوة قد تكون غير مُجدية بسبب صعوبة تسيير هذه الدبابات الأميركية وصيانتها. واليوم بينما تبدي السلطات البريطانية انفتاحا تجاه تسليم الأوكرانيين طائرات مقاتلة يطالبون بها لردع القوات الروسية، ترفض السلطات الألمانية بصورة قاطعة مجرد مناقشة الفكرة، ما يوحي بأن خلافاً جديداً ربما يكون قد أخذ يطفو على السطح بين الحلفاء الغربيين بشأن رؤيتهم لدعم أوكرانيا.

- موضوع العقوبات
ولكن لم تكن مسألة تسليح أوكرانيا المشكلة الوحيدة في مقاربة ألمانيا للحرب في أوكرانيا. فلقد قاومت برلين منذ البداية فرض عقوبات قاسية على موسكو. ورفضت لأسابيع عديدة فرض عقوبات تخرج البنوك الروسية من نظام «سويفت» العالمي، كما أنها ظلت تماطل لأشهر فرض عقوبات على النفط والغاز الروسيين. واستغرقت كذلك فترة طويلة قبل أن تعلن وقف العمل بمشروع «نورد ستريم 2»، الذي انتهى العمل منه في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل وكان جاهزا لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا.
وفي حين يتذرع المستشار الألماني بأنه لا يريد اتخاذ خطوات من شأنها تأجيج الصراع الأوكراني أكثر، وقد تنتهي بتورط حلف شمال الأطلسي «ناتو» في الحرب الدائرة، فإن كييف والحلفاء الغربيين يرون أن هذا «التروي» إنما هو «تردد»... وأنه يعود إلى علاقة ألمانيا التقاربية بروسيا. وهي العلاقة التي حددتها سياسة الاشتراكيين أيام «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفياتي السابق في مطلع السبعينات وقادها المستشار الأسبق فيلي براندت. وكان براندت يؤمن بأن سياسة التقارب مع الروس – التي عُرفت يومذاك بـ«الأوستبوليتيك» – ستجعل من موسكو غريما أقل عدوانية وخطراً، بل ويمكن كسبها بوصفها شريكا عبر زيادة التعاملات التجارية معها.
منذ ذلك الحين أبقت الحكومة المتعاقبة على تلك السياسة، بما فيها تلك التي قادها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي تنتمي إليه ميركل. وفي ظل حكم ميركل، تطوّرت العلاقة بروسيا بشكل كبير رغم الاستفزازات الروسية المتكررة لبرلين والغرب. وكان من بين الاستفزازات الروسية التي يرى البعض أنها كانت توجب على برلين إصدار ردات فعل أقوى، اغتيالات ومحاولات اغتيالات في العواصم الأوروبية - منها العاصمة الألمانية - لمعارضين روس، وعمليات قرصنة جماعية للنواب الألمان وحتى للمستشارة – آنذاك - ميركل، وأخيرا ضم روسيا لشبه جزيرة القرم... الذي ردت عليه أوروبا بعقوبات اعتبرها كثيرون غير كافية.

- اتهام ميركل بـ«المهادنة»
السياسة التي اعتمدتها ميركل إزاء روسيا جعلتها غير محبوبة في أوكرانيا، حيث حملها كثيرون من الأوكرانيين مسؤولية الوضع الذي وصلت إليه بلادهم، بسبب ما يصفونه بأنه «سياسة مهادنة» اعتمدتها المستشارة السابقة طوال السنوات الـ15 التي حكمت فيها ألمانيا. وحقاً، ميركل بقيت مصرة على مشروع «نورد ستريم 2» رغم التحذيرات الأميركية المتكررة لها من أن المشروع سيزيد اعتماد ألمانيا بشكل كبير على موسكو فتصبح «رهينة لها». ولم توقف العقوبات الأميركية على المشروع ميركل عن المضي فيه، وسط الإصرار على أنه مشروع اقتصادي بحت ولا علاقة له بالسياسة.
أيضاً، يحمل كثيرون ميركل مسؤولية رفض الدفع باتجاه فرض عقوبات أقسى على روسيا بعد ضمها القرم عام 2014، ناهيك من ارتفاع أصوات ألمانية مطالبة برفع هذه العقوبات في السنوات الأخيرة من حكم ميركل، بحجة أنها تؤذي الاقتصاد الألماني. أيضاً يحمل العديد من الأوكرانيين ميركل مسؤولية دفع بلادهم إلى التوقيع على «اتفاقية مينسك» عام 2014، التي كانت تهدف إلى إنهاء القتال في منطقة الدونباس... من دون نجاح.
ولكن، بعد الحرب في أوكرانيا العام الماضي، استنتج حزب ميركل أن هذه السياسة مع روسيا كانت «ساذجة». واستنتج الأمر نفسه كثرة من الاشتراكيين، وإن بدرجة أقل. فحزب شولتز اعترف بخطأ اعتماده على روسيا في مجال الطاقة، وظنه أن التجارة تحسن العلاقات السياسية، غير أنه ظل مترددا في تقديم دعم أكبر لسلطات كييف خشية الإمعان في إغضاب موسكو. بل، حتى الآن، ثمة داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) من يدعو للتفاوض مع موسكو ووقف الدعم العسكري لكييف، ما يعقّد مهمة شولتز الذي يتعين عليه إرضاء حزبه من جهة، ومن جهة ثانية إرضاء شريكيه في الائتلاف الحاكم اللذين يدعوانه - إلى جانب الحلفاء الغربيين - إلى التشدد أكثر مع الروس وتقديم دعم أكبر لأوكرانيا.

- أصوات اشتراكية ضد تسليح أوكرانيا
> بين الأصوات التي ترفض تسليح أوكرانيا، النائب الاشتراكي رالف شتاغنر الذي ظل يرفض إرسال دبابات «ليوبارد» إلى أوكرانيا حتى اللحظات الأخيرة، رغم التوتر الذي سببه ذلك مع الحلفاء الغربيين. ويعتبر شتاغنر أن «تركيز النقاش على السلاح فقط... خطأ». ويذكّر بأن ألمانيا كانت قد وافقت للتو على إرسال مدرّعات ناقلة للجنود، وفور موافقتها جاءها الطلب الثاني. وهو ما يدفعه للتساؤل «ماذا بعد ذلك؟ مقاتلات؟ جنود؟ لقد وافقنا للتو على إرسال مدرعات، والآن ليس الوقت لاتخاذ قرار ثان بهذه السرعة».
يعتبر شتاغنر أن ثمة مقاربة سياسية واقتصادية للحرب، وليست فقط عسكرية. ويدعو إلى مبادرة دبلوماسية غربية «خلف الأبواب المغلقة لكي تكون ناجحة»، مشيراً إلى أن الأمم المتحدة وتركيا نجحتا في مبادرة دبلوماسية مع روسيا أدت إلى الموافقة على إخراج الحبوب وتصديرها. ومن ثم يضيف «أتمنى أن تكون هناك مبادرات أخرى برعاية الحلف الغربي وليس تركيا فقط، وقد تكون ذات فاعلية أكثر... النقاش الوحيد الذي أراه هو حول المساعدات العسكرية، وأنا متشكك في أن يكون العسكر هم مَن سيقررون مستقبل أوروبا».
هذه الجملة تسلط الضوء على المخاوف التي تطارد المسؤولين الألمان عموماً، لا الاشتراكيين وحدهم. فتاريخ البلاد الذي دفع بالحكومات المتعاقبة إلى رفض التورط في أي نزاعات، ما زال يطارد المسؤولين الألمان اليوم. ومسألة ترك الخيارات السياسية للعسكر، خاصة، هي التي تؤرق الألمان، وتحديدا الاشتراكيين الذين ما زالوا يتناقشون في جدوى المساعدات العسكرية مقابل المخاوف من تصعيد الحرب.
وهنا يقول النائب شتاغنر، صراحةً، إنه غير واثق من أن هذه المقاربة هي الصحيحة. ويتابع موضحاً «إذا نظرنا إلى أمثلة على العمليات العسكرية الأميركية، نجد أن العملية الأخيرة الناجحة كانت عملية تحرير أوروبا. في المقابل، العمليات الأخرى بعد ذلك من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، كلها لم تكن ناجحة... ولذا من الواجب تجنب التفكير في أن الحلول السياسية يمكن التوصل إليها بالسبل العسكرية».
كل هذا يدل على أنه رغم توصل ألمانيا إلى قناعة بضرورة عكس سياساتها مع روسيا، فإن الحزب الاشتراكي الحاكم ما زال في خضم نقاش داخلي صعب حول كيفية الانقلاب على عقود من سياسة أسس لها مع روسيا قبل 50 سنة، وبقي متمسكا بها حتى الأشهر القليلة الماضية. وبالتالي، أي خطوة مستقبلية في دعم أوكرانيا ستخضع على الأرجح للنقاش، والجدل الطويل نفسه الذي خضع له كل قرار اتخذته الحكومة الألمانية منذ بداية الحرب في أوكرانيا، مهما تسبب ذلك في استياء وتشكيك بها من حلفائها الغربيين.


مقالات ذات صلة

أمين الناتو يحذر ترمب من «تهديد خطير» لأميركا إذا دفعت أوكرانيا إلى اتفاق سلام سيئ

أوروبا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته (يمين) والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ف.ب)

أمين الناتو يحذر ترمب من «تهديد خطير» لأميركا إذا دفعت أوكرانيا إلى اتفاق سلام سيئ

حذر الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته في مقابلة مع صحيفة «فاينانشيال تايمز» ترمب من أن الولايات المتحدة ستواجه «تهديداً خطيراً».

«الشرق الأوسط» (لندن )
المشرق العربي أشخاص ورجال إنقاذ سوريون يقفون بالقرب من أنقاض مبنى في موقع غارة جوية على حي في مدينة إدلب التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة في شمال سوريا، 2 ديسمبر 2024 (أ.ف.ب)

أوكرانيا تحمّل روسيا وإيران مسؤولية «تدهور الوضع» في سوريا

قالت أوكرانيا، الاثنين، إن روسيا وإيران تتحملان مسؤولية «تدهور الوضع» في سوريا، حيث سيطرت «هيئة تحرير الشام» وفصائل حليفة لها على مساحات واسعة من الأراضي.

«الشرق الأوسط» (كييف)
العالم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحافي في أثينا 26 أكتوبر 2020 (رويترز)

لافروف يتهم الغرب بالسعي إلى وقف إطلاق النار لإعادة تسليح أوكرانيا

اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الدول الغربية، الاثنين، بالسعي إلى تحقيق وقف لإطلاق النار في أوكرانيا بهدف إعادة تسليح كييف بأسلحة متطورة.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في كييف في صورة مع أحد الجنود الأوكرانيين الذين أصيبوا في الحرب (د.ب.أ)

شولتس في كييف بعد طول غياب... واتهامات باستغلاله الزيارة لأغراض انتخابية

زار المستشار الألماني أوكرانيا بعد عامين ونصف العام من الغياب وفي وقت تستعد فيه بلاده لانتخاب عامة مبكرة، واتهمته المعارضة باستغلال الزيارة لأغراض انتخابية.

راغدة بهنام (برلين)
أوروبا المستشار الألماني أولاف شولتس لدى وصوله إلى أوكرانيا (حسابه عبر منصة إكس)

شولتس في زيارة مفاجئة لأوكرانيا... ويعلن عن مساعدات عسكرية جديدة

وصل المستشار الألماني أولاف شولتس إلى أوكرانيا، الاثنين، في زيارة لم تكن معلنة مسبقاً للتأكيد على دعم برلين لكييف في حربها ضد روسيا.

«الشرق الأوسط» (برلين)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.