ألمانيا... حرب أوكرانيا والخيارات الاستراتيجية الصعبة

بين هواجس الماضي وإرث «الأوستبوليتيك»

دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... حرب أوكرانيا والخيارات الاستراتيجية الصعبة

دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)
دبابة «ليوبارد» الألمانية (إ.ب.أ)

منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل عام تقريبا، جلبت ألمانيا لنفسها لقب «المترددة» بالنسبة لحلفائها الغربيين، وذلك بسبب عرقلتها مرة بعد أخرى إرسال مساعدات عسكرية لكييف أو حتى فرض عقوبات على موسكو. ومع أن ألمانيا تعتبر نفسها «متمهلة» لا «مترددة»، فإن تباطؤها في اتخاذ قرارات تتعلق بدعم أوكرانيا، كان آخرها حول دبابات «ليوبارد»، فاقم قلة الثقة فيها بوصفها شريكا يمكن الاعتماد عليه بالنسبة لواشنطن. حتى قبل بداية الحرب في 24 فبراير (شباط) من العام الماضي، كان صبر الولايات المتحدة قد بدأ ينفد مع ألمانيا. وفي نهاية يناير (كانون الثاني) من العام نفسه، - أي قبل شهر تقريبا من بدء الحرب - وجهت السفيرة الأميركية في برلين إيميلي هابر رسالة شديدة اللهجة إلى الخارجية الألمانية، كشفت عنها مجلة «دير شبيغل»، استهلتها - حسب المجلة – بالتالي: «برلين، لدينا مشكلة». ثم أكملت هابر شرح كيف أن «تردّد» برلين في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية جعلها «شريكاً لم يعد يمكن الاعتماد عليه» في واشنطن. كانت هابر تتحدث عن نقطتين: الأولى معارضة ألمانيا فرض عقوبات على روسيا بسبب حشودها العسكرية على حدود أوكرانيا. والثانية رفضها السماح للدول التي تملك أسلحة سوفياتية اشترتها من ألمانيا الشرقية آنذاك، بإرسالها إلى كييف. واستخلصت السفيرة في رسالتها أن مواقف برلين نابعة من رغبتها بالاستمرار في شراء غاز بأسعار رخيصة من روسيا. وأبلغت هابر من ثم الخارجية الألمانية، بأن مواقف برلين تدفع بالبعض في واشنطن، خاصة من الجمهوريين، لوصفها بأنها باتت «حليفة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين»... وبالتالي، تقول إن هذا التردد قد تكون له آثار «ضخمة».

مرّت سنة على رسالة إيميلي هابر، السفيرة الأميركية لدى ألمانيا، إلى وزارة الخارجية الألمانية في برلين. لكن الخلافات الثنائية حول دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، لم تتقلص، بل يمكن – وفق عدد من المراقبين – القول إنها تتزايد. وعلى الرغم من الخطاب الشهير الذي ألقاه المستشار الألماني أولاف شولتز يوم 27 فبراير (شباط) 2022، أي بعد 3 أيام فقط من اندلاع الحرب الأوكرانية، والذي تحدث فيه عن «نقطة تحوّل»، فإن البعض يقول إن التغيير في برلين بطيء ولا يذهب بعيدا.
في ذلك الخطاب التاريخي، قلب المستشار شولتز سياسات ألمانية «مهادنة» اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وجوهرها الإحجام عن تزويد مناطق الصراع بأسلحة، والامتناع عن بناء جيش ألماني قوي. إذ أعلن الزعيم الاشتراكي عن أن بلاده ستزوّد أوكرانيا بأسلحة للدفاع عن نفسها، وأنها ستستثمر في إعادة تأهيل جيشها ليكون قادرا على الدفاع عن ألمانيا.
مع ذلك، فإن الخلافات حول الأسلحة التي يمكن تزويد أوكرانيا بها بدأت تظهر منذ البداية. إذ ظلّت برلين ترفض تزويد الجيش الأوكراني بـ«أسلحة ثقيلة» لأشهر بعد هذا الخطاب. واكتفت برلين، في البداية، بتزويد الأوكرانيين بذخائر وأسلحة خفيفة، متحجّجة بأن الأسلحة الثقيلة قد تطيل أمد الحرب. ولم يكن الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الحاكم الذي ينتمي إليه شولتز وحده المقتنع بهذه المقاربة، بل كان مدعوماً في هذا الموقف من حزب «الخضر» البيئي الشريك الأساسي في الحكومة، والذي تنتمي إليه وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك.

- تغيّر موقف «الخضر»
وعلى الرغم من أن حزب «الخضر»، مثل الاشتراكيين، كان متمسكاً بالإحجام عن إرسال أسلحة إلى مناطق النزاعات، فإنه في المقابل كان منقسما على ذاته، إذ ظهر أن جناحا داخل الحزب البيئي على رأسه وزير الاقتصاد روبرت هابيك، يؤيد بالفعل تسليح أوكرانيا. ولم يطل الوقت حتى اقتنع «الخضر» بمختلف أجنحتهم وتياراتهم بضرورة إرسال أسلحة ثقيلة لسلطات كييف، الأمر الذي وضع الحزب في مواجهة شريكه الأساسي في الحكومة الائتلافية، مع ملاحظة أن الاشتراكيين بقيادة شولتز احتاجوا إلى وقت للوصول للاستنتاج نفسه.
ولكن، في أي حال، وبعد أشهر من النقاش، وافق شولتز على إرسال مدرّعات «ماردر» بعدما حصل على تعهّد من واشنطن بأن ترسل هي أيضاً مدرّعات «برادلي» الأميركية الصنع. والأمر نفسه تكرر مع دبابات «ليوبارد» الألمانية الصنع، إذ لم يوافق شولتز على إرسالها إلا بعدما تعهّدت واشنطن بإرسال دبابات أميركية من نوع «أبرامز»، وهذا رغم أنها خطوة قد تكون غير مُجدية بسبب صعوبة تسيير هذه الدبابات الأميركية وصيانتها. واليوم بينما تبدي السلطات البريطانية انفتاحا تجاه تسليم الأوكرانيين طائرات مقاتلة يطالبون بها لردع القوات الروسية، ترفض السلطات الألمانية بصورة قاطعة مجرد مناقشة الفكرة، ما يوحي بأن خلافاً جديداً ربما يكون قد أخذ يطفو على السطح بين الحلفاء الغربيين بشأن رؤيتهم لدعم أوكرانيا.

- موضوع العقوبات
ولكن لم تكن مسألة تسليح أوكرانيا المشكلة الوحيدة في مقاربة ألمانيا للحرب في أوكرانيا. فلقد قاومت برلين منذ البداية فرض عقوبات قاسية على موسكو. ورفضت لأسابيع عديدة فرض عقوبات تخرج البنوك الروسية من نظام «سويفت» العالمي، كما أنها ظلت تماطل لأشهر فرض عقوبات على النفط والغاز الروسيين. واستغرقت كذلك فترة طويلة قبل أن تعلن وقف العمل بمشروع «نورد ستريم 2»، الذي انتهى العمل منه في عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل وكان جاهزا لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا.
وفي حين يتذرع المستشار الألماني بأنه لا يريد اتخاذ خطوات من شأنها تأجيج الصراع الأوكراني أكثر، وقد تنتهي بتورط حلف شمال الأطلسي «ناتو» في الحرب الدائرة، فإن كييف والحلفاء الغربيين يرون أن هذا «التروي» إنما هو «تردد»... وأنه يعود إلى علاقة ألمانيا التقاربية بروسيا. وهي العلاقة التي حددتها سياسة الاشتراكيين أيام «الحرب الباردة» مع الاتحاد السوفياتي السابق في مطلع السبعينات وقادها المستشار الأسبق فيلي براندت. وكان براندت يؤمن بأن سياسة التقارب مع الروس – التي عُرفت يومذاك بـ«الأوستبوليتيك» – ستجعل من موسكو غريما أقل عدوانية وخطراً، بل ويمكن كسبها بوصفها شريكا عبر زيادة التعاملات التجارية معها.
منذ ذلك الحين أبقت الحكومة المتعاقبة على تلك السياسة، بما فيها تلك التي قادها حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي تنتمي إليه ميركل. وفي ظل حكم ميركل، تطوّرت العلاقة بروسيا بشكل كبير رغم الاستفزازات الروسية المتكررة لبرلين والغرب. وكان من بين الاستفزازات الروسية التي يرى البعض أنها كانت توجب على برلين إصدار ردات فعل أقوى، اغتيالات ومحاولات اغتيالات في العواصم الأوروبية - منها العاصمة الألمانية - لمعارضين روس، وعمليات قرصنة جماعية للنواب الألمان وحتى للمستشارة – آنذاك - ميركل، وأخيرا ضم روسيا لشبه جزيرة القرم... الذي ردت عليه أوروبا بعقوبات اعتبرها كثيرون غير كافية.

- اتهام ميركل بـ«المهادنة»
السياسة التي اعتمدتها ميركل إزاء روسيا جعلتها غير محبوبة في أوكرانيا، حيث حملها كثيرون من الأوكرانيين مسؤولية الوضع الذي وصلت إليه بلادهم، بسبب ما يصفونه بأنه «سياسة مهادنة» اعتمدتها المستشارة السابقة طوال السنوات الـ15 التي حكمت فيها ألمانيا. وحقاً، ميركل بقيت مصرة على مشروع «نورد ستريم 2» رغم التحذيرات الأميركية المتكررة لها من أن المشروع سيزيد اعتماد ألمانيا بشكل كبير على موسكو فتصبح «رهينة لها». ولم توقف العقوبات الأميركية على المشروع ميركل عن المضي فيه، وسط الإصرار على أنه مشروع اقتصادي بحت ولا علاقة له بالسياسة.
أيضاً، يحمل كثيرون ميركل مسؤولية رفض الدفع باتجاه فرض عقوبات أقسى على روسيا بعد ضمها القرم عام 2014، ناهيك من ارتفاع أصوات ألمانية مطالبة برفع هذه العقوبات في السنوات الأخيرة من حكم ميركل، بحجة أنها تؤذي الاقتصاد الألماني. أيضاً يحمل العديد من الأوكرانيين ميركل مسؤولية دفع بلادهم إلى التوقيع على «اتفاقية مينسك» عام 2014، التي كانت تهدف إلى إنهاء القتال في منطقة الدونباس... من دون نجاح.
ولكن، بعد الحرب في أوكرانيا العام الماضي، استنتج حزب ميركل أن هذه السياسة مع روسيا كانت «ساذجة». واستنتج الأمر نفسه كثرة من الاشتراكيين، وإن بدرجة أقل. فحزب شولتز اعترف بخطأ اعتماده على روسيا في مجال الطاقة، وظنه أن التجارة تحسن العلاقات السياسية، غير أنه ظل مترددا في تقديم دعم أكبر لسلطات كييف خشية الإمعان في إغضاب موسكو. بل، حتى الآن، ثمة داخل الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) من يدعو للتفاوض مع موسكو ووقف الدعم العسكري لكييف، ما يعقّد مهمة شولتز الذي يتعين عليه إرضاء حزبه من جهة، ومن جهة ثانية إرضاء شريكيه في الائتلاف الحاكم اللذين يدعوانه - إلى جانب الحلفاء الغربيين - إلى التشدد أكثر مع الروس وتقديم دعم أكبر لأوكرانيا.

- أصوات اشتراكية ضد تسليح أوكرانيا
> بين الأصوات التي ترفض تسليح أوكرانيا، النائب الاشتراكي رالف شتاغنر الذي ظل يرفض إرسال دبابات «ليوبارد» إلى أوكرانيا حتى اللحظات الأخيرة، رغم التوتر الذي سببه ذلك مع الحلفاء الغربيين. ويعتبر شتاغنر أن «تركيز النقاش على السلاح فقط... خطأ». ويذكّر بأن ألمانيا كانت قد وافقت للتو على إرسال مدرّعات ناقلة للجنود، وفور موافقتها جاءها الطلب الثاني. وهو ما يدفعه للتساؤل «ماذا بعد ذلك؟ مقاتلات؟ جنود؟ لقد وافقنا للتو على إرسال مدرعات، والآن ليس الوقت لاتخاذ قرار ثان بهذه السرعة».
يعتبر شتاغنر أن ثمة مقاربة سياسية واقتصادية للحرب، وليست فقط عسكرية. ويدعو إلى مبادرة دبلوماسية غربية «خلف الأبواب المغلقة لكي تكون ناجحة»، مشيراً إلى أن الأمم المتحدة وتركيا نجحتا في مبادرة دبلوماسية مع روسيا أدت إلى الموافقة على إخراج الحبوب وتصديرها. ومن ثم يضيف «أتمنى أن تكون هناك مبادرات أخرى برعاية الحلف الغربي وليس تركيا فقط، وقد تكون ذات فاعلية أكثر... النقاش الوحيد الذي أراه هو حول المساعدات العسكرية، وأنا متشكك في أن يكون العسكر هم مَن سيقررون مستقبل أوروبا».
هذه الجملة تسلط الضوء على المخاوف التي تطارد المسؤولين الألمان عموماً، لا الاشتراكيين وحدهم. فتاريخ البلاد الذي دفع بالحكومات المتعاقبة إلى رفض التورط في أي نزاعات، ما زال يطارد المسؤولين الألمان اليوم. ومسألة ترك الخيارات السياسية للعسكر، خاصة، هي التي تؤرق الألمان، وتحديدا الاشتراكيين الذين ما زالوا يتناقشون في جدوى المساعدات العسكرية مقابل المخاوف من تصعيد الحرب.
وهنا يقول النائب شتاغنر، صراحةً، إنه غير واثق من أن هذه المقاربة هي الصحيحة. ويتابع موضحاً «إذا نظرنا إلى أمثلة على العمليات العسكرية الأميركية، نجد أن العملية الأخيرة الناجحة كانت عملية تحرير أوروبا. في المقابل، العمليات الأخرى بعد ذلك من فيتنام إلى العراق وأفغانستان، كلها لم تكن ناجحة... ولذا من الواجب تجنب التفكير في أن الحلول السياسية يمكن التوصل إليها بالسبل العسكرية».
كل هذا يدل على أنه رغم توصل ألمانيا إلى قناعة بضرورة عكس سياساتها مع روسيا، فإن الحزب الاشتراكي الحاكم ما زال في خضم نقاش داخلي صعب حول كيفية الانقلاب على عقود من سياسة أسس لها مع روسيا قبل 50 سنة، وبقي متمسكا بها حتى الأشهر القليلة الماضية. وبالتالي، أي خطوة مستقبلية في دعم أوكرانيا ستخضع على الأرجح للنقاش، والجدل الطويل نفسه الذي خضع له كل قرار اتخذته الحكومة الألمانية منذ بداية الحرب في أوكرانيا، مهما تسبب ذلك في استياء وتشكيك بها من حلفائها الغربيين.


مقالات ذات صلة

روسيا تسيطر على بلدات استراتيجية في شرق أوكرانيا

أوروبا جندي أوكراني على خط المواجهة مع القوات الروسية في منطقة دونيتسك (رويترز)

روسيا تسيطر على بلدات استراتيجية في شرق أوكرانيا

أعلنت روسيا، الأحد، أن قواتها سيطرت على بلدات في منطقتين رئيسيتين تقعان على خط الجبهة في شرق أوكرانيا، بينما يتقدم جيشها باتجاه مدينتين استراتيجيتين.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا أرشيفية لأحد مباني مدينة بيلغورود الروسية عقب استهدافها بمسيرة أوكرانية (إ.ب.أ)

 روسيا تعلن تدمير 15 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل

قالت وزارة الدفاع الروسية، اليوم (الأحد)، إن أنظمة الدفاع الجوي الروسية دمرت 15 طائرة مسيرة أوكرانية خلال الليل.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أميركا اللاتينية قوات روسية بمنطقة كورسك على الحدود مع أوكرانيا (أ.ب)

زيلينسكي: هناك مزيد من الجنود الكوريين الشماليين يقاتلون في كورسك

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إن الجيش الروسي بدأ في نشر المزيد من الجنود الكوريين الشماليين خلال الهجمات على كورسك بالقرب من الحدود الأوكرانية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (قناته عبر «تلغرام»)

زيلينسكي يصدر تعليمات لإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إنه أصدر تعليمات لحكومته بإنشاء آليات لتوريد الغذاء إلى سوريا بالتعاون مع المنظمات الدولية في أعقاب سقوط نظام الأسد.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا عربة عسكرية أوكرانية تحمل أسرى يرتدون الزي العسكري الروسي بالقرب من الحدود مع روسيا (أ.ف.ب) play-circle 00:45

زيلينسكي: روسيا تنشر مزيداً من القوات الكورية الشمالية في كورسك

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، السبت، إن موسكو بدأت إشراك «عدد ملحوظ» من القوات الكورية الشمالية.

«الشرق الأوسط» (كييف)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.