«الاستراتيجيّة» في حرب أوكرانيا

جنود أوكرانيون يطلقون قذيفة قرب باخموت أمس (د.ب.أ)
جنود أوكرانيون يطلقون قذيفة قرب باخموت أمس (د.ب.أ)
TT

«الاستراتيجيّة» في حرب أوكرانيا

جنود أوكرانيون يطلقون قذيفة قرب باخموت أمس (د.ب.أ)
جنود أوكرانيون يطلقون قذيفة قرب باخموت أمس (د.ب.أ)

يقول الخبراء إن الاستراتيجيّة هي عبارة عن خطّة أو طريقة عمل، يتم بها وعبرها ربط الأهداف بالوسائل. لكن الربط بين الأهداف والوسائل، يجب أن يكون متوازناً، وألا تكون الأهداف تعجيزيّة، مقارنة مع وسائل متواضعة.
الاستراتيجيّة كائن حيّ، يتفاعل مع محيطه في عمليّة ديالكتيكيّة. تُغيّر الاستراتيجيّة محيطها عند لحظة بدء التنفيذ، فتخلق واقعاً جديداً، الأمر الذي يُحتّم على الاستراتيجيّة أن تتأقلم وإلا سبقتها الأحداث.
لا يمكن لكلّ الاستراتيجيّات الموضوعة من قبل المتحاربين أن تنجح. فهذا الأمر يعني أن الكلّ يربح، وهذا أمر مستحيل في الصراعات والحروب. عندما تُرسم الاستراتيجيّات، ترتكز على مدى وعمق معرفة العدو - الآخر في كلّ الأبعاد. ينطبق على هذا الآخر المبدأ نفسه الذي يأخذنا للقول: «العدو يضع استراتيجيّتي، وأنا بالمقابل أضع استراتيجيّته».
إذن، كيف يمكن تحقيق النصر إذا عرف العدو استراتيجيّتي، وأنا بالمقابل أعرف استراتيجيّته؟ قد يكون الجواب على الشكل التالي: لكلّ فريق نظريّة ربح معيّنة. قد يكون قياس النصر لفريق ما هو ألا يخسر، وهو عادة الأضعف في معادلة الصراع. وقد تكون النظريّة للبعض الآخر، في النصر الشامل والكامل عبر سحق العدو واستسلامه، وهو عادة الأقوى في معادلة الصراع. هكذا حدّد الحلفاء في الحرب العالميّة الثانية نصرهم، «الاستسلام غير المشروط لدول المحور».
لكن الأكيد في هذه المعادلة (تحديد وقياس النصر) هو الأهميّة القصوى للعمق اللوجيستي لأي فريق من الفرقاء. بكلام آخر من لديه جعبة غنيّة، تمدّ الحرب دون انقطاع بما تحتاج إليه، قد يُكتب له النصر.
هكذا نظّر المفكّر الإنجليزي الراحل السير مايكل هاورد بمقال له في مجلّة «فورين أفيرز»، عندما اعتبر أن البُعد الخامس للاستراتيجيّة هو حتماً اللوجيستيّة، وهو البُعد المُهمل عادة من المخطّطين والقادة العسكريّين كما السياسييّن. فمن يريد تحقيق النصر العملانيّ وبالتالي الاستراتيجيّ، عليه أن يدرس بعمق ويفهم المُتطلّبات اللوجيستيّة لحربه. لكن هذا لا يعني أن تُؤمّن كل الوسائل اللازمة لأي حرب وبشكل كامل؛ فهذا أمر مستحيل، إذ لا بد من وجود بعض المخاطرة التي يجب أن تُعوّض بالـ«كيف»؛ أي: كيف تُدار الحرب؟ وعبر تطبيق مبادئ الحرب التسعة كلها إذا أمكن، وعلى رأسها مبدأ الاقتصاد بالقوى.
في الحالة الأوكرانيّة، تخرق الحرب الكثير من مبادئ الحرب التسعة، خصوصاً في مبدأ المفاجأة، الاقتصاد بالقوى، الأمن العملانيّ للقوى، البساطة، وحدة القيادة وغيرها من المبادئ.
في الحرب الأوكرانيّة، تبخّر عنصر المفاجأة خصوصاً من الجهّة الروسيّة؛ فالحشد العسكريّ الروسيّ على الحدود الأوكرانية كان ظاهراً قبل أشهر من الطلقة الأولى؛ إذ كانت الاستراتيجيّة الروسيّة واضحة وضوح الشمس، فأتت المفاجأة من الأداء الأوكراني. لكن بعد سنة على الحرب، أصبحت ساحة الحرب واضحة من قبل كلّ الفرقاء الأساسيّين، مع الدعم الدولي لأوكرانيا وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركيّة.
إذن نحن في مرحلة ما يُسمّى «بالوضوح الاستراتيجيّ، العملانيّ والتكتيكي» لكلّ مخططات الحرب. بكلام آخر، أنا أعرف استراتيجيّتك مسبقاً، والعكس صحيح. من هنا انتقل الجانب الروسيّ مؤخراً إلى إغراق المسرح الأوكراني بالعدّة والعديد، واعتماد مبدأ الأرض المحروقة. فهل أخذ الرئيس بوتين بالبُعد الخامس الذي نظّر حوله السير هاورد ألا وهو عمق الجعبة اللوجيستيّة؟ بالطبع، فالتاريخ الروسي الحربيّ اعتمد دائماً على مبدأ الكميّة مقابل النوعيّة. ألم يقل الزعيم السوفياتيّ الراحل جوزف ستالين: «للكميّة نوعيّة بحدّ ذاتها»، وذلك عندما زجّ بآلاف الدبابات الروسيّة ضدّ الدبابات الألمانيّة المتطوّرة من نوع بانتزر.


مقالات ذات صلة

أوكرانيا: قوات كوريا الشمالية ليس لها «تأثير كبير» في المعارك

أوروبا أوكرانيا تؤكد أن قوات كوريا الشمالية ليس لها تأثير كبير في المعارك (أ.ب)

أوكرانيا: قوات كوريا الشمالية ليس لها «تأثير كبير» في المعارك

أكد مسؤول في الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أن انخراط القوات الكورية الشمالية في القتال ضد أوكرانيا في منطقة كورسك الروسية «لم يكن له تأثير كبير».

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا رجال الإنقاذ يحملون جثة شخص قتل جراء القصف الروسي الذي طال مبنى سكنياً في كريفي ريه (رويترز)

قتيل وجرحى في ضربة صاروخية روسية على كريفي ريه الأوكرانية

كشف مسؤولون محليون، اليوم (الثلاثاء)، أن شخصاً قُتل وأُصيب 15 في ضربة بصاروخ باليستي على مبنى سكني في مدينة كريفي ريه بوسط أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا محكمة روسية تقضي بسجن رجل أُدين بتخريب سكك حديد بتوجيه من أوكرانيا عام 2023 (رويترز)

روسيا: السجن 22 عاما لرجل أدين بتخريب سكك حديد بتوجيه من أوكرانيا

أعلنت محكمة عسكرية روسية، اليوم، إدانة رجل بتخريب سكك حديد، بتوجيه من أوكرانيا عام 2023 في شبه جزيرة القرم، التي ضمّتها روسيا قبل عقد، وقضت بسجنه 22 عاماً.

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال اجتماع في كييف بأوكرانيا 9 ديسمبر 2024 (أ.ب)

زيلينسكي: زعماء العالم لا يفعلون شيئاً يُذكر إزاء تعاون روسيا وكوريا الشمالية

انتقد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، زعماء العالم، قائلاً إنهم لم يفعلوا شيئاً يذكر إزاء التعاون العسكري بين روسيا وكوريا الشمالية.

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (إ.ب.أ)

زيلينسكي يعلن «مقتل وإصابة» أكثر من 3000 جندي كوري شمالي في كورسك

قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الاثنين، إن كييف ستدعم الجهود اللازمة لتحقيق الاستقرار في سوريا.

«الشرق الأوسط» (كييف)

نودّع الحرب... ونستعدّ للحرب القادمة

جنود روس يتدربون على استخدام دبابة من طراز «تي-72» قبيل التوجه إلى الجبهة (رويترز)
جنود روس يتدربون على استخدام دبابة من طراز «تي-72» قبيل التوجه إلى الجبهة (رويترز)
TT

نودّع الحرب... ونستعدّ للحرب القادمة

جنود روس يتدربون على استخدام دبابة من طراز «تي-72» قبيل التوجه إلى الجبهة (رويترز)
جنود روس يتدربون على استخدام دبابة من طراز «تي-72» قبيل التوجه إلى الجبهة (رويترز)

كيف تتصرّف الأمم الصغيرة عند التحوّلات الكبرى؟ ما معنى العقلانية والواقعية السياسيّة في ظل الزلازل الجيوسياسيّة؟ هل مفروض على هذه الأمم أن تكون في وضع الخاسر - خاسر دائماً، وجُلّ ما يمكن لها القيام به هو السعي لتقليل الخسائر قدر الإمكان؟ لم يذكر التاريخ إمبراطوريّة واحدة قامت وتشكّلت من أمّة واحدة صرفة.

فقد وُعدت الأمم المتعدّدة ضمن الإمبراطوريات بالأمن والسلام والازدهار، وذلك مقابل الانصياع والانضمام إلى حدود القوّة. فالتمرّد على السلطة المركزيّة سيكون حسابه عسيراً وصولاً إلى حدّ الإبادة والإلغاء.

كان مركز السلطة في الإمبراطوريّة يُشكّل محور الكون. ومن هذا المحور - المركز، يتسلّل الضوء والقوّة معاً إلى الأطراف لفرض نوع مُعيّن من النماذج السياسيّة، كما فرض الإرث الثقافي والحضاريّ. وعندما يضعف المركز، تتفلّت الأطراف ويسقط المحور الكونيّ في مكان، لينبثق من مكان آخر. فالإمبراطوريات مثل طائر الفينيق. تنبعث الإمبراطورية الجديدة من رماد الإمبراطورية التي سبقتها، وعلى حسابها.

وعند التغيير، لزم على الأمم الصغيرة أن تعتمد خيارين ممكنين؛ الأولّ، أن تتمرّد على السلطة الجديدة فتدفع الأثمان، الثاني، أن تنضوي وتصطف، لتُبدّل الراية التي تنادي بـ«سقطت الإمبراطورية، عاشت الإمبراطوريّة».

يقول المفكّر الفرنسي جاك إتالي إن لقيام الإمبراطوريات مُحددات ومُتطلبّات معيّنة، أهمّها الحجم الجغرافيّ، الحجم السكانيّ، كما الثروة والقدرة على تمويل المشروع الكبير. لكن أهمّها هو الفكرة (The Idea) التي تقوم عليها هذه الإمبراطوريّة، والتي تقنع الأمم الأخرى بالانضمام إليه طوعاً. هناك الإمبراطوريات البحرية، كما البريّة - القاريّة. هناك إمبراطوريات نجحت طموحاتها، ومنها من فشل.

مؤشرات التحوّلات الجيوسياسيّة - عسكرياً!

شكّلت الحرب الأهليّة الإسبانيّة قبيل الحرب العالمية الثانية مسرحاً لتجربة واختبار الأسلحة الألمانيّة، وذلك إلى جانب اختبار التكتيكات؛ تدريب العسكر وتراكم للخبرات العسكريّة.

شكّلت الحرب الروسية على أوكرانيا مسرح اختبار لأسلحة القرن الواحد والعشرين. فهي، أي الحرب، حتى ولو شهدت أشكالاً من الحرب العالمية الأولى، كما الثانية، لكنها تدور في عصر الذكاء الاصطناعي، والعوالم الافتراضيّة. في هذه الحرب دخلت المسيّرات بشكل لم يحدث من قبل، الأمر الذي فاجأ القادة العسكرييّن، وغيّر معادلات الحماية في الحرب، كما ظهّر الفجوات الكبيرة في أغلب الاستراتيجيات العسكريّة (Military Doctrine). لم يقتصر تأثير المسيرات على القتال البريّ، لا بل تجاوزها إلى أبعاد الحرب الأخرى، من جو، بحر، برّ وحتى السيبرانيّ.

شكّلت الحرب على غزّة أهم تجربة لحرب المدن، كما لحرب العصابات. في هذه الحرب، خيضت الحرب في الأنفاق أيضاً، التي شكّلت العمق الجغرافي العمودي لحركة «حماس»، الأمر الذي عقّد العمليات العسكرية التقليدية للجيش الإسرائيليّ. ومن تجارب هذه الحرب، سوف تؤخذ الكثير من الدروس، خصوصاً وأن أغلب مسارح حروب المستقبل، وحسب بعض الدراسات العسكريّة، سوف تكون في المدن، وذلك بسبب النمط المتسارع لعملية التحضّر (Urbanization). في الحرب على غزّة، استخدم الجيش الإسرائيليّ الذكاء الاصطناعي في برنامجين هما «Gospel» لاقتراح الأهداف المتعلّقة بالأبنية والبنى التحتية لحركة «حماس»، وبرنامج «الخزامى» (Lavender) لاقتراح الأهداف البشريّة. سرّعت هذه البرامج عملية القتل، الأمر الذي يفسّر عدد القتلى في القطاع.

دبابة إسرائيلية بالقرب من الحدود بين إسرائيل وقطاع غزة (رويترز)

شكّلت الحرب على لبنان تجربة مختلفة في الكثير من الأبعاد عن الحرب في غزّة. فهي انتقلت من الحرب الدفاعية (Positional) للجيش الإسرائيليّ، التي ترافقت مع السعي لاستنزاف قوات «حزب الله» إلى الحرب الهجوميّة وفي كلّ الأبعاد. شكّلت القوة الجويّة الإسرائيليّة العمود الفقري لعنصر المناورة والحركيّة في الجوّ. في الوقت نفسه، كانت المناورة البريّة المحدودة على الخطّ الأزرق ضد قوات «حزب الله» تسعى إلى وضع هذه القوات بين ما يُسمّى بـ«السندان والمطرقة».

لعب الهجوم البريّ المحدود داخل الخط الأزرق دور السندان، حتى لو كان متحرّكاً. أما سلاح الجو الإسرائيليّ فقد لعب وبامتياز دور المطرقة.

دبابات مهجورة على طريق سريع في منكت الحطب بالقرب من درعا (أ.ف.ب)

في المقابل استمرّ «حزب الله» بما تبقّى له من وسائل في تنفيذ الاستراتيجيّة التي كانت قد وُضعت أصلاً من قبل قياداته لاستعمالها في حال حصول السيناريو السيّئ. فكانت الصواريخ النوعيّة، كما الصواريخ المتوسّطة وقصيرة المدى، كما ما تبقّى من المسيّرات، لكن دون الوصول إلى المُبتغى المرسوم في الخطط الأصليّة. لكنه، أي الحزب، قد أقلق حتماً الخطط الإسرائيلية، خصوصاً عبر المسيّرات.

ماذا عن حروب المستقبل؟

* إذا كانت طبيعة الحرب ثابتة على أنها تُخاض لأهداف سياسيّة، فإن خصائص الحرب متبدّلة في الأبعاد السياسية، الاقتصادية والاجتماعيّة.

* سوف تتميز حروب القرن الـ21 عن سابقاتها، بدخول الذكاء الاصطناعي إلى الآلة العسكرية (Autonomous)، خصوصاً في جمع المعلومات والتنفيذ. أما قرار القتل فهو حتى الآن بيد الإنسان.

* لم تعد التكنولوجيا حكراً على الدولة وتحت سيطرتها. لا بل دخل إلى اللعبة الجيوسياسيّة أشخاص مدنيون يملكون الشركات الحديثة، التي تُصنع وتنتج هذه التكنولوجيا. وإذا كان قد قيل إن «الداتا» هي نفط القرن الـ21، فإن أغلب مراكز تجميع «الداتا» في العالم هي في يد الشركات المدنيّة؛ أغلبها أميركيّة.

* وبسبب الانتشار التكنولوجي السريع، والاستعمال المزدوج لها (Dual use)، كما سهولة الحصول عليها، أصبحت الحرب بالنسبة للاعب من خارج إطار الدولة ممكنة بسبب التكلفة المتدنّية. فمن يقاتل من حالياً في منطقة الهلال الخصيب؟ «حزب الله» ضد إسرائيل. حركة «حماس» ضد إسرائيل. الحوثيون ضد إسرائيل. وأخيراً وليس آخراً «هيئة تحرير الشام» ضد النظام السوري السابق.