هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
TT

هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)

سألني أحدُ الأصدقاء، بعد أن قرأ في جريدة «الشرق الأوسط» مقالتي الأخيرة التي تناولت ادّعاءَ الناس امتلاكَ الحقيقة: قبل أن ندّعي الامتلاك، هل توجد حقيقة واحدة في العالم تسوّغ لنا مثل هذا الادّعاء؟ أثار هذا السؤال عندي الرغبة في التصدّي للاستفسار الفلسفي الخطير: هل الوجود مفطورٌ أصلاً على الوحدة أم على التعدّديّة؟ لا شكّ في أنّ الإجابة عن هذا الاستفسار تستتبع خلاصاتٍ وعواقبَ تؤثّر في تصوّراتنا الأنثروبولوجيّة، وفي علاقاتنا الحضاريّة، وفي تضامناتنا البيئيّة والعالميّة والكونيّة.
يميّز الفلاسفة ضربَين من التعدّديّة: التعدّديّة القائمة أو تعدّديّة الأمر الواقع (pluralisme de facto)، والتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بطبيعة الوجود نفسه (pluralisme de jure). لا شكّ في أنّ الأنظومات الثقافيّة والدِّينيّة تقبل مبدأ التعدّديّة القائمة في الواقع، وفي ظنّها أنّها وضعٌ طارئٌ ينبغي ضبطه واحتواؤه وضمّه إلى الذاتيّة الحضاريّة الحاضنة. ولكلّ أنظومة ذاتيّتُها الحاضنة التي تدّعي الاتّساع حتّى تستوعب الاختلاف. يصحّ الاحتضانُ الإلغائي هذا في العمارات اللاهوتيّة الدِّينيّة التوحيديّة؛ إذ تعتقد كلّ ديانة أنّها تستطيع أن تستضيف جميع الأديان الأخرى وتحتويها وتُنزلها المنزلة النسبيّة التي تليق بها في بناءاتها العقائديّة الإخضاعيّة. كذلك تدّعي الأنظومات الفلسفيّة أنّها قادرة على احتواء ما أتى قبلها، أو حتّى ما يأتي بعدها، على نحو ما تذهب إليه الهيغليّة المطلقة التي تروم أن تستوعب في جدليّتها المشرّعة الناشطة جميعَ أصناف اختبارات الحياة، وضروب تجلّيات الوجود، وألوان تناقضات التاريخ.
أما القول بالتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بالحياة نفسها، فيثير الرهبة والقلق والتشكيك في عقول الناس، إذ يستحيل علينا أن نتصوّر الحياة الإنسانيّة على هذه البسيطة في هيئاتٍ مختلفة متباينة متناقضة. إذا كانت التعدّديّة الطارئة من تمخّضات التاريخ وتفاعلاته المباغتة، فإنّ التعدّديّة الأصليّة من إرباكاته المقلقة. ذلك بأنّ القول بالتعدّد في الأصل يجعلنا نعيد النظر في المسلّمات العلميّة الفيزيائيّة والبيولوجيّة والأنثروبولوجيّة التي قامت عليها تصوّراتنا الإنسانيّة الثقافيّة المشتركة. ومن ثمّ، ينبغي التبصّر الدقيق في مثل التعدّديّة المربكة هذه، إذ إنّنا ما برحنا نقول بحقيقة إنسانيّة واحدة تجمع بني البشر على هذه البسيطة.
تعزيزاً للمعالجة المتأنّية، أستجلي استجلاءً نظريّاً نوعَين من تجلّي التعدّديّة، ومن ثمّ أتحقّق من طابعهما العارض الطارئ (de facto) أو الأصلي الشرعي (de jure). ينسلك النوع الأوّل في حقل الاختبار العلميّ، في حين ينشط الثاني في حقل التفكّر الفلسفيّ. على مستوى المادّة الفيزيائيّة الأصليّة، يمكننا القول التبسيطي إنّ الحياة واحدة انبثقت من خليّة أولى. غير أنّ طاقة التنوّع في هذا الانبثاق الأصلي كانت على مقدارٍ عظيمٍ من الغنى التكاثري، بحيث انبسطت انبساطاً متباينَ الأكوان والفضاءات والمجرّات والكائنات والأجسام والهيئات والأشكال والصوَر. في صميم الانبساط الأصلي المتنوّع هذا تنتشب جذورُ ما يُدعى بالطبيعة الإنسانيّة العاقلة (homo sapiens) التي عرفناها حتّى اليوم على الهيئة المتوارثة هذه، منذ ما يقارب الثلاثمائة ألف سنة.
على مستوى الكينونة التي ينفرد الفكرُ الفلسفي بتدبّر قوامها والنظر في حقيقتها، يمكننا أن نعتمد ما قاله أرسطو، حين أعلن أنّها تُحمَل على وجوهٍ شتّى، أي تتجلّى في هيئات وأشكال متنوّعة. المعلوم أنّ الكينونة ماهيّة الكائنات، وأصلُها المنحجب، وعمقُها المتواري. لكلّ كائن كينونتُه: للكوكب كينونته، وللهواء كينونته، وللمياه كينونتها، وللقمح كينونته، وللشجرة، والغزال، والسيّارة، والحدث التاريخيّ، والكلمة المنطوقة، والشعور الجوّانيّ، والقيمة الهادية. جميع هذه الكائنات تشترك اشتراكاً متنوّعَ المقادير في الكينونة الواحدة المذهلة في غناها، الرهيبة في رحابتها، المربكة في عمقها.
وعليه، يمكننا أن نخرج بخلاصة أساسيّة تُملي علينا أنّ الأصل واحدٌ على وجه الضرورة، سواء في المادّة أو في الكينونة، في حين أنّ الانبساط متنوّعٌ تنوّعاً لا حصر له. غير أنّ ما يعنيني في هذا المقال إنما هو، على وجه التحديد، التعدّديّة المنبثقة من تجلّيات الطبيعة الإنسانيّة العاقلة. لا أستطيع أن أحسم أمرَ التنوّع الأصلي في المادّة التي منها نشأ الكون، وقد يشتمل على أكوان متداخلة متنافذة متمدّدة أو متقلّصة. جلُّ ما يمكن الفكر الفلسفي أن يتناوله إنما ينحصر في معاينة التنوّع الناشب في حقل الاختبار الإنسانيّ، ولكن من غير إهمال أنوار الاكتشافات العلميّة الفيزيائيّة الموثوقة.
لا ريب في أنّ ما يميّز الاختبار الإنساني إنما هو الوعي العاقل الذي منه تنبثق جميعُ ضروب البناءات الثقافيّة. لن أناقش المسألة الفلسفيّة الخطيرة التي تنظر في إمكانات الاختلاف بين ضروبٍ ثلاثة من الوعي: الوعي المنقبض الذي قد تحمله الكائنات الجامدة، والوعي المتوسّط النسبي الذي تختبره الكائنات الحيوانيّة، والوعي المنبسط الناشط المشرَّع الذي يعتمل اعتمالاً مذهلاً في الباطن الذهني الإنسانيّ. يقول كثيرٌ منا باختلافٍ جوهري بين وعي الأشياء التي تعي وعياً شيئيّاً، ووعي الحيوانات التي تعي وعياً حيوانيّاً، ووعي الناس الذين يَعون وعياً إنسانيّاً. ولكن هل يكون الوعيُ، في أصله، واحداً بين ذرّات الكون التي منها تنشأ الأشياء، وخلايا الحيوان البُكم، وخلايا الإنسان الدماغيّة الناطقة؟ هل يكون الوعي وعياً بيولوجيّاً عصبيّاً، أم وعياً ذهنيّاً فكريّاً ثقافيّاً؟ من الواضح أنّ السؤال الفلسفي هذا يبلغ بالاستفسار حدودَ الإرباك الأقصى، إذ لا يستطيع أحدٌ أن يحسم المسألة من غير أن يستنجد بخلفيّات العمارة الثقافيّة التي ينتمي إليها ويستند إلى فرضيّاتها الصريحة أو الضمنيّة.
لا بدّ، والحال هذه، من أن نُجمع على القول بمركزيّة سؤال الوعي في إدراك رهانات التعدّديّة الإنسانيّة. أميل شخصيّاً إلى النظريّة التي تربط هذه التعدّديّة بالاختلاف الناشب في عمق الوعي الإنسانيّ. ذلك بأنّ وحدة المادّة الفيزيائيّة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا تبطلان تنوّع تجلّيات الوعي الإنساني الفردي والجماعيّ. ثمّة ما هو أخطرُ من هذا كلّه، إذ إنّ التنوّع في انبساط المادّة الكونيّة والطبيعة الإنسانيّة يجعلني أحار في الوحدة الأصليّة المفترضة. كيف لنا أن نسوّغ انبثاق مثل التنوّع الكثيف هذا؟ كيف يستقيم أن ينشأ من الوحدة الأصليّة تعدّدٌ مذهلٌ يتجاوز بتبايناته وتناقضاته حدودَ الوحدة المفترضة؟
أمران لا ثالث لهما: إما أنّ الوحدة الأصليّة مجبولة على التنوّع الأرحب، وإما أنّ التنوّع في انبساط المادّة والطبيعة مبني على تنوّع أصليّ، لا على وحدة أصليّة. أعرف أنّ المسألة دقيقة، ولكنّها تستحقّ التفكير الهادئ لكي نتحقّق من الاختلاف بين قولَين فلسفيين: القول بوحدة أصليّة تنطوي على تنوّع فائق الغنى، والقول بتنوّع أصلي لا تضبطه أي وحدة متقدّمة عليه، يتجلّى في التعدّديّة الكونيّة الرحبة. ينطوي القول الأوّل على ضرورة الاعتراف بحقيقة فيزيائيّة واحدة، وحقيقة أنثروبولوجيّة واحدة، في حين يفترض القول الثاني أنّ ثمّة حقائق فيزيائيّة أصليّة وحقائق أنثروبولوجيّة أصليّة.
لكلّ إنسان الحرّيّة في اعتماد القول الذي يلائم وعيه وثقافته ومرتكزاته الوجوديّة واقتناعاته الشخصيّة. أظنّ أنّنا نشأنا نشأة فطريّة على اعتماد القول الأوّل، مع أنّ تطوّر العلوم لن يمنعنا من مناصرة القول الثاني في يومٍ من الأيّام. في جميع الأحوال، لا بدّ من النظر في مسألة الوعي الإنساني الذي منه تنبثق جميع أصناف التعدّديّات الثقافيّة. سواء أكانت الحقيقة واحدة في الأصل أم متعدّدة، يبقى الوعي عمادَ الاختبار الثقافيّ، إذ إنّ ثقافاتنا الإنسانيّة ثمرة اختبارات الوعي الذي نحمله في مطاوي ذاتيّتنا، وقد اشتبك اشتباكاً جدليّاً ومعطيات الزمان والطبيعة والبيئة والتاريخ.
حين انتقل الإنسانُ العاقلُ الأوّل من قارّة إلى أخرى، تغيّرت كيفيّاتُ اختبارات وعيه، وتنوّعت سبُلُ إدراكه، وتبدّلت طرائقُ تفاعله وعناصر الطبيعة. أما الوسيلة التي استخدمها الوعي للتعبير عن هذا التفاعل، فاللغة المبنيّة على رموزٍ دلاليّة تَواضَع عليها كلُّ قوم على حدة. ومن ثمّ، نشأ الاختلاف الثقافي بين الشعوب من تنوّع اختبارات الوعي اللغويّة. ولكَم وقعنا على خلافات دمويّة بين الشعوب نشبت على أصل التباين اللغوي في وصف حقائق الحياة!
وعليه، أميل ميلاً شديداً إلى القول بتعدّديّة الحقائق التي يخضع الناس لأحكامها؛ لا سيما في حقل الإنسانيّات، إذ إنّ لكلّ وعي نتاجه الثقافيّ، ولكلّ نتاجٍ ثقافي أنظومته، ولكلّ أنظومة حقائقها المعتمدة الثابتة. أعلم أنّ الطبيعة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأساسيّة. غير أنّ الناس لا يختبرون منها إلا ما يستقرّ في وعيهم من تصوّرات هذه الطبيعة. الناس يتصوّرون طبيعتهم قبل أن يعرّفوها. أعلم أنّ النضج الحضاري المشترك أبلغ المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة مستوى التوافق اللفظي على المبادئ والقيَم. ذلك بأنّ الجميع يناصرون كرامة الإنسان؛ بيد أنّ لكلّ أنظومة ثقافيّة تأويلها الخاصّ الذي يفسّر هذه الكرامة تفسيراً يخالف تفاسير الآخرين. كذلك القول في التعدّديّة التشريعيّة التي بها ينتظم الاجتماع الإنساني في هذه الحضارة أو تلك.
خلاصة القول: إن الإقرار بوحدة الحياة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا يُبطل الاختلاف في تصوّر حقائق هذه الحياة وحقائق هذه الطبيعة. العلّة الأساسيّة في ذلك كلّه اختلافُ الوعي الإنساني في تدبّر دلالات الطبيعة ومعاني الحياة. الطبيعة الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ الاختبارات الثقافيّة مختلفة. الحياة الإنسانيّة واحدة، بيد أنّ تجلّياتها الوجوديّة متنوّعة. اللغة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأنثروبولوجيّة، إلا أنّ علاقة كلّ لغة بالأشياء مقترنة بالاختبارات الوجدانيّة الجماعيّة السابقة، إذ إنّ لغات الأرض تتميّز بقدرتها على إظهار أبعادٍ من الوجود، وحجب أبعادٍ أخرى. القيَم الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ تأويلاتها مختلفة وتطبيقاتها القرائنيّة متعارضة. ومن ثمّ، نجد أنفسنا في مواجهة تصوّراتٍ شموليّة (Weltanschauungen) متقابلة، لا سبيل إلى التوفيق بينها.
ليس من حقيقة بمعزل عن الإنسان الذي يصوغها ويعتقدها ويناصرها. غير أنّ ربط الحقيقة بالإنسان يُفضي بنا إلى النظر في ارتباطات الإنسان بالكون وبالطبيعة وبالوجود وبالكائنات. وعليه، لا يمكننا أن نبحث في وحدة الحقيقة أو كثرتها من غير أن ننظر في وحدة الكون أو كثرته، وفي وحدة الطبيعة أو كثرتها، وفي وحدة الوجود أو كثرته. ينبغي أن نتدبّر أوّلاً قضيّة التعدّد في هذه الحقول قبل أن نخلص إلى قولٍ حاسم في مسألة وحدة الحقيقة. إذا افترضنا أنّ بنية الوعي الإنساني واحدة، فهل يجوز أن نستخلص من هذه الفرضيّة أنّ إنتاجه واحدٌ؟ الثابت تاريخيّاً أنّ وحدة البنية في الوعي لم تُبطل تنوّعَ تصوّرات العالم، وقد تكاثرت وتعاظمت حتّى بلغت حدّ التناقض.
* مفكر لبناني



«المقاومة العراقية» إلى «حرب أوسع» في لبنان

فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
TT

«المقاومة العراقية» إلى «حرب أوسع» في لبنان

فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)
فلسطيني يحمل صندوق تبرعات لضحايا حرب غزة خلال حملة نظمتها «حماس» في عيد الأضحى (رويترز)

حين حذّر وزير خارجية العراق، فؤاد حسين، من اندلاع حرب في لبنان، كان من المرجح أن يلقى كلامه المقلق استجابة عاصفة من الفصائل العراقية الموالية لإيران، أقلها التحضير لمساندة الحليف «حزب الله» اللبناني. ولم يحدث هذا كما جرت العادة بين حلفاء «محور المقاومة».

في 13 يونيو (حزيران)، كان الوزير حسين، يتحدث في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الإيراني بالإنابة، علي باقري كني، ومن دون سياق مسبق، وفي سابقة بين البلدين، رمى «طلقة تحذير» حول الجنوب اللبناني، بينما بغداد ملتزمة بالهدنة بظلال حكومة تحظى بإعجاب الأميركيين يوماً بعد آخر.

قال حسين: «لو اندلعت حرب هناك، ستتأثر المنطقة برمتها، وليس لبنان فقط».

وبالنسبة لكثيرين، كان كلام كبير الدبلوماسية العراقية «رسالة» تستند إلى معطيات وفرّها الزائر الإيراني، باقري كني، الذي كان قبل أسبوعين من وصوله إلى بغداد، يجري لقاءات «طبيعية» في بيروت ودمشق عن «الشراكة الوثيقة والدائمة».

شخصيتان في «الإطار التنسيقي»، أخبرتا «الشرق الأوسط»، أن باقري كني حين وصل إلى بغداد تحدث في الكواليس مع مسؤولين عراقيين، عن «حرب محتملة تُخطط لها إسرائيل في جنوب لبنان، فما موقف العراقيين؟».

وتقاطعت معلومات المصدرين حول أن باقري طلب صراحةً أن يكون «لبنان محور المؤتمر الصحافي المشترك». وقال أحدهما لـ«الشرق الأوسط»: «بالطبع، الحرب في لبنان تقلق الجميع، وستُسمع أصداؤها في بغداد أولاً»، ولهذا تبرّع الوزير العراقي بالتحذير، لأن حكومته والتحالف الشيعي الحاكم كان عليهم التعاطي مع جس نبض الإيرانيين بشأن لبنان.

وفي محاولة لاستنباط موقف «العسكريين»، تحدثت «الشرق الأوسط» إلى قائد فصيل عراقي فقال: «لقد وجّهت إلينا أسئلة عن موقفنا لو اشتعلت جبهة لبنان أكثر. فقلنا: مستعدون (...) سنذهب إلى هناك».

لكن الدوائر الدبلوماسية والسياسية ليست حاسمة إلى تلك الدرجة، فقد أكد مسؤول دبلوماسي أن «الأمر (طلب باقري) لم يكن بهذه الطريقة»، كما أن خبيراً عراقياً فسّر كلام فؤاد حسين بأنه «للموازنة السياسية بين الحكومة والمقاومة»، مقللاً من احتمالات حرب «أوسع».

وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين تولّى التحذير من حرب في لبنان بحضور نظيره الإيراني باقري كني (رويترز)

مَن يريد توسعة الحرب... إيران أم إسرائيل؟

تشهد مناطق الجنوب اللبناني والشمال الإسرائيلي منذ أشهر أعنف هجمات متبادلة منذ حرب 2006، لكنها أقل من أن توصف بالحرب المفتوحة. ثمة قواعد اشتباك غير تقليدية تجعلها حرباً على جرعات، بتكاليف عالية، لاسيما من جهة «حزب الله» وحاضنته في الجنوب.

تقول مصادر لبنانية، لـ«الشرق الأوسط»، إن حصيلة الأشهر الماضية تعادل أضرار حرب شاملة، لكنها في ميزان القوى، ليست كذلك.

وتزداد كثافة النيران الإسرائيلية على عمق 4 كيلومترات من الحدود، بمعدل قصف يومي، وتقل تدريجياً بعد عمق 10 كيلومترات وصولاً إلى نهر الليطاني.

المصادر التي قدمت هذه التوصيفات الميدانية قالت إن مناطق القصف شبه خالية ومدمرة على نحو غير مسبوق، والحديث عن «حرب أشد» مستحيل بغياب حاضنة اجتماعية، ومع تغير مواقع إدارة العمليات لـ«حزب الله»، على نحو طارئ.

لبنانيات يلتقطن صورة إلى جانب منزل مدمَّر بغارة إسرائيلية في بلدة عيتا الشعب بالجنوب (أ.ف.ب)

إذن، ما الحرب الأشد التي حذّر منها الوزير فؤاد حسين؟ ومَن يريد إشعالها؟ طهران أم حكومة بنيامين نتنياهو؟ على الأقل، فإن آموس هوكستين، مستشار الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي وصل إلى إسرائيل الاثنين، ومنها إلى بيروت، لديه رسالة لثني نتنياهو عن أي تصعيد محتمل، قد يثير ذعر إيران ويدفعها إلى التدخل المباشر في لبنان، والتدخل سيكون بأذرعها في العراق.

ويعتقد عقيل عباس، وهو أستاذ العلوم السياسية من واشنطن، أن نتنياهو «يريد هذه الحرب أكثر من (حزب الله)، ومن إيران بالضرورة»، لأن الأخيرة تريد المحافظة على نسق الضربات المتواترة من «حزب الله» لتخفيف الضغط على «حماس» في غزة. أكثر من هذا سيكون ضاراً لها.

كما أن «حزب الله» نفسه يريد الحفاظ على «ديناميكية الردع» بمنسوبها الحالي، فإن أي عملية عسكرية مفتوحة من الإسرائيليين ستدمر البنى التحتية اللبنانية أكثر مما هي الحال الآن، و«هذا يسبب مشكلة لحسن نصر الله مع الشركاء اللبنانيين»، كما يقول عباس.

رواية أخرى... إيران تُلوّح بورقة «حزب الله»

قبل أن يصل باقري كني إلى بغداد، كانت إيران تنقل رسائل جس نبض إلى العراقيين توحي بأنها تواجه 3 مشاكل مستعصية؛ فراغًا خلّفه رئيسي وعبداللهيان، والضغط الهائل من الأميركيين والغرب في البرنامج النووي، وموضع طهران في صفقة وقف النار بغزة، وفي كل منها ستضطر إلى التخلي عن أحد محاورها في المنطقة، لكن الحصة «في المقابل» لا تساوي ثمنها، كما يصف سياسي عراقي على اطلاع بهذه الرسائل.

يقول السياسي العراقي: «إن التلويح بحرب قائمة بالفعل ضغط سياسي، حتى يعرف الإيرانيون حصتهم من صفقة وقف النار في غزة، لا سيما المرحلة الثانية منها».

في هذه الأجواء، إيران هي من تريد وضع ورقة «جنوب لبنان» على الطاولة لتحسين ظروفها في المفاوضات. ليس من الواضح ملاءمة هذه الفرضية مع حالة «حزب الله» الذي يتحدث كثيرون عن إنهاكه ومحدودية حركته. ويرد السياسي العراقي بالقول: «لم يختبر أحد حتى الآن حقيقة أن (حزب الله) منهك، بينما يستطيع في أي وقت إحداث خرق مؤذٍ للإسرائيليين».

وإلى حد كبير يوافق على هذا الطرح عقيل عباس، الذي يرصد قلقاً إسرائيلياً تشاركه تل أبيب مع واشنطن بشأن «القدرات العسكرية والتكنولوجية لـ(حزب الله)»، حتى بعد أشهر من الاستنزاف.

أرشيفية لعناصر حركة «النجباء» التي تنشط في شرق سوريا خلال عرض عسكري في بغداد

«الأيدي على الزناد يا لبنان»

حين خرج الوزير العراقي بتحذيره اللبناني، كانت بغداد تحظى بمسافة أمان عن نيران حرب غزة في المنطقة. الحكومة استطاعت إدامة الهدنة مع القوات الأميركية لأشهر، ورئيسها محمد شياع السوداني يمسك بصعوبة بلحظة التوازن بين متطلبات إيران وطموحات الفصائل، ومنذ وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لم يسمع قادة الأحزاب الشيعية والفصائل أشياء كثيرة مهمة من الإيرانيين.

يقول قائد فصيل شيعي في بغداد، طلب عدم نشر اسمه وعنوان الفصيل، إن الزيارات غير المعلنة للعسكريين الإيرانيين إلى العراق أصبحت قليلة جداً منذ وفاة رئيسي. مع ذلك، «هناك اتصالات روتينية فُهم منها أن طهران مشغولة بمشكلتها (...) سنتكلم لاحقاً».

قبل أن يزور باقري كني بغداد وأربيل، وصلت «أسئلة مباشرة من الإيرانيين لكتائب «حزب الله» وحركة «النجباء»: «هل تشاركون في حرب جنوب لبنان لو هاجمتها إسرائيل». يقول قائد الفصيل، لـ«الشرق الأوسط»: «قلنا لهم، نعم بالطبع. الأيدي على الزناد، نشارك وندعم».

قائد قوة القدس التابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني، إسماعيل قاآني كان في قلب تلك الاتصالات التي كسرت صمت طهران عن الحلفاء العراقيين منذ وفاة رئيسي. وحين وصل باقري كني كانت الحكومة العراقية تشعر بالضغط، كما يقول قيادي في الإطار التنسيقي، واضطرت إلى التحذير لمنح الانطباع بأن العراق لن يواصل الجلوس في «منطقة الراحة» خلف توترات غزة، في لبنان تحديداً.

مع ذلك، يرى الخبير عقيل عباس، أن كلام الوزير العراقي «فعل موازنة سياسي وإعلامي لإظهار أن العراق مع إيران ومع المقاومة بشكل عام، وليس محور المقاومة بشكل خاص».

يفسر عباس هذه المعادلة بأن ما تقوم به الحكومة من وراء كل هذه التحركات، بما فيها التحذير من حرب في جنوب لبنان، هو الموازنة، لا أكثر. «لأن حكومة السوداني غاضبة من الفصائل، وتحاجج ضدها داخل الإطار التنسيقي، وتطالب بمواقف جدية ضدها، من ضمنها إدخال إيران نفسها بصفتها فاعلاً ضاغطاً يردع الفصائل».

لكن الفصائل ليست سعيدة، خصوصاً حركة «النجباء» وكتائب «حزب الله»، اللتين تظهران حنقاً من الهدنة، وتحاولان استغلال أي فرصة للتمرد عليها.

وكانت مصادر عراقية، أبلغت «الشرق الأوسط» أن الهجمات التي تعرضت لها مطاعم أميركية في بغداد والمحافظات كان تخفي «نية للتمرد على الهدنة، وإيصال رسالة للإيرانيين بأنها حانقة على قرار التهدئة الذي ترعاه طهران في العراق».

وأكدت المصادر أن السوداني «تحدث مع قادة حلفاء وأصدقاء عن ضرورة لجم هذه الحركات التي لا معنى لها، سوى الاعتراض على وضع سياسي لا يلائم بعض القادة الشيعة».

بهذا المعنى، يقول سياسي عراقي مقرب من رئيس الحكومة: «إن الأخير يلاحق جميع المنافذ التي يمكن أن تفلت منها الفصائل إلى حرب (تجر معها الجميع)».

هوكستين أبلغ بري بأن التهديد الإسرائيلي «جدي جداً» (رئاسة البرلمان اللبناني)

«حزب الله» لا يريد العراقيين

«بالفعل، نستعد لأي طارئ في لبنان (...) نعرف ما تواجهه درة تاج المقاومة في المنطقة (حزب الله)»، يقول قائد ميداني لفصيل شيعي متنفذ، ينشط في محافظة نينوى (شمال العراق)، وزعم أنه «أبلغ (الحرس الثوري) الاستعداد للقتال إلى جانب المقاومة في لبنان».

يبدو أن طهران تريد من «الأطراف المعنية» إظهار هذا الموقف علناً، بينما يتعرض «حزب الله» إلى ضغط هائل من الإسرائيليين الذين يخططون لحرب بهدف تفكك «المقاومة جنوب لبنان»، كانوا يريدون منح الانطباع بأن الهجوم على الجنوب أكثر سيجذب كل المقاومة أكثر إلى حرب شاملة.

غير أن مشاركة العراقيين «المقاومين» في حرب إلى جانب «حزب الله» ليست مضمونة، رغم أن العراقيين يعرضون «العدة البشرية»، فالفصيل اللبناني لم يبلغ أحداً من «رفاق المقاومة» بأنه سيسمح لهم بالانتشار في الميدان، على الأراضي اللبنانية.

يتفق قائدا الفصيلين الشيعيين في بغداد ونينوى على أن «(حزب الله) لن يستقبل العراقيين، لأنه ينظر إليهم غير مؤهلين، ولا يمتلكون كياناً متماسكاً، وهم في أفضل الأحوال حلفاء سيئون، لديهم مشاكل لا تعد ولا تحصى في صناعة القرار».

ما يزيد القناعة بعدم مشاركة الفصائل العراقية في حرب جنوب لبنان، هو التفاهم النادر بين الإيرانيين والحكومة في بغداد على حماية صيغة الاستقرار القائمة.

يقول مسؤول بارز في حكومة عادل عبد المهدي إن «العراق هو درة التاج لدى الإيرانيين، أكثر من (حزب الله)، ولن يغامر به في حرب جنوب لبنان». ويضيف: «ما قام به الوزير فؤاد حسين هو الضغط لمنع الحرب، وليس العكس».

ويقول عقيل عباس، إن «الجنرال قاآني توصل إلى اتفاق مع الأميركيين، نضج مع وزير الخارجية الراحل حسين أمير عبداللهيان، بعدم استهداف القوات الأميركية حتى تنتهي الحملة الانتخابية للرئيس جو بايدن».

يدفع هذا عباس إلى الاعتقاد بأن طهران لا تريد تسهيل فوز ترمب بضرب الأميركيين تحت ولاية منافسه بايدن.

في السياق، يكشف المسؤول العراقي السابق، أن إيران «أكثر من هذا»، تريد إبعاد الحرب عن حدود العراق، لأنهم «الآن أكثر حرصاً على الهدوء في العراق».

وأظهرت إيران خلال مراسم عزاء رئيسي إشارات تهدئة، حينما قدّم المرشد الإيراني، في مجلس تأبين أقامه يوم في 25 مايو (أيار) 2024، شخصيات سياسية ضالعة في الحكومة الحالية، وليس في الفصائل «المتمردة»، وأجلست في الصف الأول من المعزين شخصيات، مثل عمار الحكيم زعيم تيار «الحكمة»، ورئيس مجلس القضاء فائق زيدان، وحيدر العبادي رئيس الوزراء الأسبق، خلافاً لقادة فصائل وضعت ترتيب جلوسهم في المقاعد الخلفية، مثل أكرم الكعبي زعيم حركة «النجباء»، وعبد العزيز المحمداوي، المعروف بـ«أبو فدك»، رئيس أركان هيئة «الحشد الشعبي».

صورة وزعها مكتب خامنئي لتأبين رئيسي في 25 مايو ويظهر في الصف الأول مسؤولون وسياسيون عراقيون

النموذج السوري في لبنان

يقول المسؤول العراقي السابق، بناءً على اتصالات يجريها من واشنطن مع قيادات عراقية ولبنانية حول التوتر الأخير، إن «الحرب الشاملة غير موجودة إلا في خيالات اللبنانيين». ومع ذلك، لو حدثت «ليس من المرجح أن يحتاج (حزب الله) إلى الكتائب العراقية، على سبيل المثال»، لأن «الوضع الميداني صعب على أبناء المقاومة المحلية، الذين يتحركون بالكاد في مناطقهم، فكيف على مسلح قادم من العراق».

لكن لو اندلعت الحرب فإن «إيران لن تترك (حزب الله) لوحده. هذا لن يحدث (...) ستفعل شيئاً بالتأكيد»، يقول المسؤول الذي يرى أن مجيء سفيرة أميركية جديدة إلى العراق بموقف متطرف ضد الإيرانيين على صلة بالأمر، «يبدو أن واشنطن تحسب حسابات اليوم التالي لحرب غزة بتدابير سياسية جديدة من بغداد، لصد رد الفعل الإيراني على المرحلة الثانية من وقف الحرب في القطاع (...) لو أنجزت المرحلة الأولى منه».

لكن السيناريو المغرق في التشاؤم يفيد بأن الحرب «الأوسع» ستندلع في جنوب لبنان، وحينها ستلجأ إيران إلى النموذج السوري في لبنان، تحت ضغط صفقة غزة، ومفاوضات النووي. يقول المسؤول العراقي: «هذا يعني تقسيم خريطة لبنان وفق معطيات وحسابات معينة، بين فصائل من العراق واليمن وأفغانستان، والزحف إليها سيبدأ من سوريا».

في المحصلة، ليس هناك تقاطع معلومات حاسم بشأن حرب أوسع في جنوب لبنان، ومشاركة الفصائل العراقية فيها. على الأرجح فإن الطرف العراقي المعني بـ«محور المقاومة» يمتلك الرسائل دون الحقائق، وأن إيران من خلفه تحاول استخدام جميع الأوراق بحذر لإجراء تعديلات لصالحها في صفقة «اليوم التالي» لغزة، وتخشى انفلات «الساحات» التي تديرها إلى حرب تفقدها القدرة على المناورة.