هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
TT

هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)

سألني أحدُ الأصدقاء، بعد أن قرأ في جريدة «الشرق الأوسط» مقالتي الأخيرة التي تناولت ادّعاءَ الناس امتلاكَ الحقيقة: قبل أن ندّعي الامتلاك، هل توجد حقيقة واحدة في العالم تسوّغ لنا مثل هذا الادّعاء؟ أثار هذا السؤال عندي الرغبة في التصدّي للاستفسار الفلسفي الخطير: هل الوجود مفطورٌ أصلاً على الوحدة أم على التعدّديّة؟ لا شكّ في أنّ الإجابة عن هذا الاستفسار تستتبع خلاصاتٍ وعواقبَ تؤثّر في تصوّراتنا الأنثروبولوجيّة، وفي علاقاتنا الحضاريّة، وفي تضامناتنا البيئيّة والعالميّة والكونيّة.
يميّز الفلاسفة ضربَين من التعدّديّة: التعدّديّة القائمة أو تعدّديّة الأمر الواقع (pluralisme de facto)، والتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بطبيعة الوجود نفسه (pluralisme de jure). لا شكّ في أنّ الأنظومات الثقافيّة والدِّينيّة تقبل مبدأ التعدّديّة القائمة في الواقع، وفي ظنّها أنّها وضعٌ طارئٌ ينبغي ضبطه واحتواؤه وضمّه إلى الذاتيّة الحضاريّة الحاضنة. ولكلّ أنظومة ذاتيّتُها الحاضنة التي تدّعي الاتّساع حتّى تستوعب الاختلاف. يصحّ الاحتضانُ الإلغائي هذا في العمارات اللاهوتيّة الدِّينيّة التوحيديّة؛ إذ تعتقد كلّ ديانة أنّها تستطيع أن تستضيف جميع الأديان الأخرى وتحتويها وتُنزلها المنزلة النسبيّة التي تليق بها في بناءاتها العقائديّة الإخضاعيّة. كذلك تدّعي الأنظومات الفلسفيّة أنّها قادرة على احتواء ما أتى قبلها، أو حتّى ما يأتي بعدها، على نحو ما تذهب إليه الهيغليّة المطلقة التي تروم أن تستوعب في جدليّتها المشرّعة الناشطة جميعَ أصناف اختبارات الحياة، وضروب تجلّيات الوجود، وألوان تناقضات التاريخ.
أما القول بالتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بالحياة نفسها، فيثير الرهبة والقلق والتشكيك في عقول الناس، إذ يستحيل علينا أن نتصوّر الحياة الإنسانيّة على هذه البسيطة في هيئاتٍ مختلفة متباينة متناقضة. إذا كانت التعدّديّة الطارئة من تمخّضات التاريخ وتفاعلاته المباغتة، فإنّ التعدّديّة الأصليّة من إرباكاته المقلقة. ذلك بأنّ القول بالتعدّد في الأصل يجعلنا نعيد النظر في المسلّمات العلميّة الفيزيائيّة والبيولوجيّة والأنثروبولوجيّة التي قامت عليها تصوّراتنا الإنسانيّة الثقافيّة المشتركة. ومن ثمّ، ينبغي التبصّر الدقيق في مثل التعدّديّة المربكة هذه، إذ إنّنا ما برحنا نقول بحقيقة إنسانيّة واحدة تجمع بني البشر على هذه البسيطة.
تعزيزاً للمعالجة المتأنّية، أستجلي استجلاءً نظريّاً نوعَين من تجلّي التعدّديّة، ومن ثمّ أتحقّق من طابعهما العارض الطارئ (de facto) أو الأصلي الشرعي (de jure). ينسلك النوع الأوّل في حقل الاختبار العلميّ، في حين ينشط الثاني في حقل التفكّر الفلسفيّ. على مستوى المادّة الفيزيائيّة الأصليّة، يمكننا القول التبسيطي إنّ الحياة واحدة انبثقت من خليّة أولى. غير أنّ طاقة التنوّع في هذا الانبثاق الأصلي كانت على مقدارٍ عظيمٍ من الغنى التكاثري، بحيث انبسطت انبساطاً متباينَ الأكوان والفضاءات والمجرّات والكائنات والأجسام والهيئات والأشكال والصوَر. في صميم الانبساط الأصلي المتنوّع هذا تنتشب جذورُ ما يُدعى بالطبيعة الإنسانيّة العاقلة (homo sapiens) التي عرفناها حتّى اليوم على الهيئة المتوارثة هذه، منذ ما يقارب الثلاثمائة ألف سنة.
على مستوى الكينونة التي ينفرد الفكرُ الفلسفي بتدبّر قوامها والنظر في حقيقتها، يمكننا أن نعتمد ما قاله أرسطو، حين أعلن أنّها تُحمَل على وجوهٍ شتّى، أي تتجلّى في هيئات وأشكال متنوّعة. المعلوم أنّ الكينونة ماهيّة الكائنات، وأصلُها المنحجب، وعمقُها المتواري. لكلّ كائن كينونتُه: للكوكب كينونته، وللهواء كينونته، وللمياه كينونتها، وللقمح كينونته، وللشجرة، والغزال، والسيّارة، والحدث التاريخيّ، والكلمة المنطوقة، والشعور الجوّانيّ، والقيمة الهادية. جميع هذه الكائنات تشترك اشتراكاً متنوّعَ المقادير في الكينونة الواحدة المذهلة في غناها، الرهيبة في رحابتها، المربكة في عمقها.
وعليه، يمكننا أن نخرج بخلاصة أساسيّة تُملي علينا أنّ الأصل واحدٌ على وجه الضرورة، سواء في المادّة أو في الكينونة، في حين أنّ الانبساط متنوّعٌ تنوّعاً لا حصر له. غير أنّ ما يعنيني في هذا المقال إنما هو، على وجه التحديد، التعدّديّة المنبثقة من تجلّيات الطبيعة الإنسانيّة العاقلة. لا أستطيع أن أحسم أمرَ التنوّع الأصلي في المادّة التي منها نشأ الكون، وقد يشتمل على أكوان متداخلة متنافذة متمدّدة أو متقلّصة. جلُّ ما يمكن الفكر الفلسفي أن يتناوله إنما ينحصر في معاينة التنوّع الناشب في حقل الاختبار الإنسانيّ، ولكن من غير إهمال أنوار الاكتشافات العلميّة الفيزيائيّة الموثوقة.
لا ريب في أنّ ما يميّز الاختبار الإنساني إنما هو الوعي العاقل الذي منه تنبثق جميعُ ضروب البناءات الثقافيّة. لن أناقش المسألة الفلسفيّة الخطيرة التي تنظر في إمكانات الاختلاف بين ضروبٍ ثلاثة من الوعي: الوعي المنقبض الذي قد تحمله الكائنات الجامدة، والوعي المتوسّط النسبي الذي تختبره الكائنات الحيوانيّة، والوعي المنبسط الناشط المشرَّع الذي يعتمل اعتمالاً مذهلاً في الباطن الذهني الإنسانيّ. يقول كثيرٌ منا باختلافٍ جوهري بين وعي الأشياء التي تعي وعياً شيئيّاً، ووعي الحيوانات التي تعي وعياً حيوانيّاً، ووعي الناس الذين يَعون وعياً إنسانيّاً. ولكن هل يكون الوعيُ، في أصله، واحداً بين ذرّات الكون التي منها تنشأ الأشياء، وخلايا الحيوان البُكم، وخلايا الإنسان الدماغيّة الناطقة؟ هل يكون الوعي وعياً بيولوجيّاً عصبيّاً، أم وعياً ذهنيّاً فكريّاً ثقافيّاً؟ من الواضح أنّ السؤال الفلسفي هذا يبلغ بالاستفسار حدودَ الإرباك الأقصى، إذ لا يستطيع أحدٌ أن يحسم المسألة من غير أن يستنجد بخلفيّات العمارة الثقافيّة التي ينتمي إليها ويستند إلى فرضيّاتها الصريحة أو الضمنيّة.
لا بدّ، والحال هذه، من أن نُجمع على القول بمركزيّة سؤال الوعي في إدراك رهانات التعدّديّة الإنسانيّة. أميل شخصيّاً إلى النظريّة التي تربط هذه التعدّديّة بالاختلاف الناشب في عمق الوعي الإنسانيّ. ذلك بأنّ وحدة المادّة الفيزيائيّة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا تبطلان تنوّع تجلّيات الوعي الإنساني الفردي والجماعيّ. ثمّة ما هو أخطرُ من هذا كلّه، إذ إنّ التنوّع في انبساط المادّة الكونيّة والطبيعة الإنسانيّة يجعلني أحار في الوحدة الأصليّة المفترضة. كيف لنا أن نسوّغ انبثاق مثل التنوّع الكثيف هذا؟ كيف يستقيم أن ينشأ من الوحدة الأصليّة تعدّدٌ مذهلٌ يتجاوز بتبايناته وتناقضاته حدودَ الوحدة المفترضة؟
أمران لا ثالث لهما: إما أنّ الوحدة الأصليّة مجبولة على التنوّع الأرحب، وإما أنّ التنوّع في انبساط المادّة والطبيعة مبني على تنوّع أصليّ، لا على وحدة أصليّة. أعرف أنّ المسألة دقيقة، ولكنّها تستحقّ التفكير الهادئ لكي نتحقّق من الاختلاف بين قولَين فلسفيين: القول بوحدة أصليّة تنطوي على تنوّع فائق الغنى، والقول بتنوّع أصلي لا تضبطه أي وحدة متقدّمة عليه، يتجلّى في التعدّديّة الكونيّة الرحبة. ينطوي القول الأوّل على ضرورة الاعتراف بحقيقة فيزيائيّة واحدة، وحقيقة أنثروبولوجيّة واحدة، في حين يفترض القول الثاني أنّ ثمّة حقائق فيزيائيّة أصليّة وحقائق أنثروبولوجيّة أصليّة.
لكلّ إنسان الحرّيّة في اعتماد القول الذي يلائم وعيه وثقافته ومرتكزاته الوجوديّة واقتناعاته الشخصيّة. أظنّ أنّنا نشأنا نشأة فطريّة على اعتماد القول الأوّل، مع أنّ تطوّر العلوم لن يمنعنا من مناصرة القول الثاني في يومٍ من الأيّام. في جميع الأحوال، لا بدّ من النظر في مسألة الوعي الإنساني الذي منه تنبثق جميع أصناف التعدّديّات الثقافيّة. سواء أكانت الحقيقة واحدة في الأصل أم متعدّدة، يبقى الوعي عمادَ الاختبار الثقافيّ، إذ إنّ ثقافاتنا الإنسانيّة ثمرة اختبارات الوعي الذي نحمله في مطاوي ذاتيّتنا، وقد اشتبك اشتباكاً جدليّاً ومعطيات الزمان والطبيعة والبيئة والتاريخ.
حين انتقل الإنسانُ العاقلُ الأوّل من قارّة إلى أخرى، تغيّرت كيفيّاتُ اختبارات وعيه، وتنوّعت سبُلُ إدراكه، وتبدّلت طرائقُ تفاعله وعناصر الطبيعة. أما الوسيلة التي استخدمها الوعي للتعبير عن هذا التفاعل، فاللغة المبنيّة على رموزٍ دلاليّة تَواضَع عليها كلُّ قوم على حدة. ومن ثمّ، نشأ الاختلاف الثقافي بين الشعوب من تنوّع اختبارات الوعي اللغويّة. ولكَم وقعنا على خلافات دمويّة بين الشعوب نشبت على أصل التباين اللغوي في وصف حقائق الحياة!
وعليه، أميل ميلاً شديداً إلى القول بتعدّديّة الحقائق التي يخضع الناس لأحكامها؛ لا سيما في حقل الإنسانيّات، إذ إنّ لكلّ وعي نتاجه الثقافيّ، ولكلّ نتاجٍ ثقافي أنظومته، ولكلّ أنظومة حقائقها المعتمدة الثابتة. أعلم أنّ الطبيعة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأساسيّة. غير أنّ الناس لا يختبرون منها إلا ما يستقرّ في وعيهم من تصوّرات هذه الطبيعة. الناس يتصوّرون طبيعتهم قبل أن يعرّفوها. أعلم أنّ النضج الحضاري المشترك أبلغ المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة مستوى التوافق اللفظي على المبادئ والقيَم. ذلك بأنّ الجميع يناصرون كرامة الإنسان؛ بيد أنّ لكلّ أنظومة ثقافيّة تأويلها الخاصّ الذي يفسّر هذه الكرامة تفسيراً يخالف تفاسير الآخرين. كذلك القول في التعدّديّة التشريعيّة التي بها ينتظم الاجتماع الإنساني في هذه الحضارة أو تلك.
خلاصة القول: إن الإقرار بوحدة الحياة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا يُبطل الاختلاف في تصوّر حقائق هذه الحياة وحقائق هذه الطبيعة. العلّة الأساسيّة في ذلك كلّه اختلافُ الوعي الإنساني في تدبّر دلالات الطبيعة ومعاني الحياة. الطبيعة الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ الاختبارات الثقافيّة مختلفة. الحياة الإنسانيّة واحدة، بيد أنّ تجلّياتها الوجوديّة متنوّعة. اللغة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأنثروبولوجيّة، إلا أنّ علاقة كلّ لغة بالأشياء مقترنة بالاختبارات الوجدانيّة الجماعيّة السابقة، إذ إنّ لغات الأرض تتميّز بقدرتها على إظهار أبعادٍ من الوجود، وحجب أبعادٍ أخرى. القيَم الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ تأويلاتها مختلفة وتطبيقاتها القرائنيّة متعارضة. ومن ثمّ، نجد أنفسنا في مواجهة تصوّراتٍ شموليّة (Weltanschauungen) متقابلة، لا سبيل إلى التوفيق بينها.
ليس من حقيقة بمعزل عن الإنسان الذي يصوغها ويعتقدها ويناصرها. غير أنّ ربط الحقيقة بالإنسان يُفضي بنا إلى النظر في ارتباطات الإنسان بالكون وبالطبيعة وبالوجود وبالكائنات. وعليه، لا يمكننا أن نبحث في وحدة الحقيقة أو كثرتها من غير أن ننظر في وحدة الكون أو كثرته، وفي وحدة الطبيعة أو كثرتها، وفي وحدة الوجود أو كثرته. ينبغي أن نتدبّر أوّلاً قضيّة التعدّد في هذه الحقول قبل أن نخلص إلى قولٍ حاسم في مسألة وحدة الحقيقة. إذا افترضنا أنّ بنية الوعي الإنساني واحدة، فهل يجوز أن نستخلص من هذه الفرضيّة أنّ إنتاجه واحدٌ؟ الثابت تاريخيّاً أنّ وحدة البنية في الوعي لم تُبطل تنوّعَ تصوّرات العالم، وقد تكاثرت وتعاظمت حتّى بلغت حدّ التناقض.
* مفكر لبناني



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.