هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
TT

هل هناك حقيقة واحدة في العالم؟

ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)
ماليزيون يحتفلون بمهرجان تقليدي قرب كوالالمبور في 26 يناير الماضي (أ.ف.ب)

سألني أحدُ الأصدقاء، بعد أن قرأ في جريدة «الشرق الأوسط» مقالتي الأخيرة التي تناولت ادّعاءَ الناس امتلاكَ الحقيقة: قبل أن ندّعي الامتلاك، هل توجد حقيقة واحدة في العالم تسوّغ لنا مثل هذا الادّعاء؟ أثار هذا السؤال عندي الرغبة في التصدّي للاستفسار الفلسفي الخطير: هل الوجود مفطورٌ أصلاً على الوحدة أم على التعدّديّة؟ لا شكّ في أنّ الإجابة عن هذا الاستفسار تستتبع خلاصاتٍ وعواقبَ تؤثّر في تصوّراتنا الأنثروبولوجيّة، وفي علاقاتنا الحضاريّة، وفي تضامناتنا البيئيّة والعالميّة والكونيّة.
يميّز الفلاسفة ضربَين من التعدّديّة: التعدّديّة القائمة أو تعدّديّة الأمر الواقع (pluralisme de facto)، والتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بطبيعة الوجود نفسه (pluralisme de jure). لا شكّ في أنّ الأنظومات الثقافيّة والدِّينيّة تقبل مبدأ التعدّديّة القائمة في الواقع، وفي ظنّها أنّها وضعٌ طارئٌ ينبغي ضبطه واحتواؤه وضمّه إلى الذاتيّة الحضاريّة الحاضنة. ولكلّ أنظومة ذاتيّتُها الحاضنة التي تدّعي الاتّساع حتّى تستوعب الاختلاف. يصحّ الاحتضانُ الإلغائي هذا في العمارات اللاهوتيّة الدِّينيّة التوحيديّة؛ إذ تعتقد كلّ ديانة أنّها تستطيع أن تستضيف جميع الأديان الأخرى وتحتويها وتُنزلها المنزلة النسبيّة التي تليق بها في بناءاتها العقائديّة الإخضاعيّة. كذلك تدّعي الأنظومات الفلسفيّة أنّها قادرة على احتواء ما أتى قبلها، أو حتّى ما يأتي بعدها، على نحو ما تذهب إليه الهيغليّة المطلقة التي تروم أن تستوعب في جدليّتها المشرّعة الناشطة جميعَ أصناف اختبارات الحياة، وضروب تجلّيات الوجود، وألوان تناقضات التاريخ.
أما القول بالتعدّديّة الشرعيّة الأصليّة اللصيقة بالحياة نفسها، فيثير الرهبة والقلق والتشكيك في عقول الناس، إذ يستحيل علينا أن نتصوّر الحياة الإنسانيّة على هذه البسيطة في هيئاتٍ مختلفة متباينة متناقضة. إذا كانت التعدّديّة الطارئة من تمخّضات التاريخ وتفاعلاته المباغتة، فإنّ التعدّديّة الأصليّة من إرباكاته المقلقة. ذلك بأنّ القول بالتعدّد في الأصل يجعلنا نعيد النظر في المسلّمات العلميّة الفيزيائيّة والبيولوجيّة والأنثروبولوجيّة التي قامت عليها تصوّراتنا الإنسانيّة الثقافيّة المشتركة. ومن ثمّ، ينبغي التبصّر الدقيق في مثل التعدّديّة المربكة هذه، إذ إنّنا ما برحنا نقول بحقيقة إنسانيّة واحدة تجمع بني البشر على هذه البسيطة.
تعزيزاً للمعالجة المتأنّية، أستجلي استجلاءً نظريّاً نوعَين من تجلّي التعدّديّة، ومن ثمّ أتحقّق من طابعهما العارض الطارئ (de facto) أو الأصلي الشرعي (de jure). ينسلك النوع الأوّل في حقل الاختبار العلميّ، في حين ينشط الثاني في حقل التفكّر الفلسفيّ. على مستوى المادّة الفيزيائيّة الأصليّة، يمكننا القول التبسيطي إنّ الحياة واحدة انبثقت من خليّة أولى. غير أنّ طاقة التنوّع في هذا الانبثاق الأصلي كانت على مقدارٍ عظيمٍ من الغنى التكاثري، بحيث انبسطت انبساطاً متباينَ الأكوان والفضاءات والمجرّات والكائنات والأجسام والهيئات والأشكال والصوَر. في صميم الانبساط الأصلي المتنوّع هذا تنتشب جذورُ ما يُدعى بالطبيعة الإنسانيّة العاقلة (homo sapiens) التي عرفناها حتّى اليوم على الهيئة المتوارثة هذه، منذ ما يقارب الثلاثمائة ألف سنة.
على مستوى الكينونة التي ينفرد الفكرُ الفلسفي بتدبّر قوامها والنظر في حقيقتها، يمكننا أن نعتمد ما قاله أرسطو، حين أعلن أنّها تُحمَل على وجوهٍ شتّى، أي تتجلّى في هيئات وأشكال متنوّعة. المعلوم أنّ الكينونة ماهيّة الكائنات، وأصلُها المنحجب، وعمقُها المتواري. لكلّ كائن كينونتُه: للكوكب كينونته، وللهواء كينونته، وللمياه كينونتها، وللقمح كينونته، وللشجرة، والغزال، والسيّارة، والحدث التاريخيّ، والكلمة المنطوقة، والشعور الجوّانيّ، والقيمة الهادية. جميع هذه الكائنات تشترك اشتراكاً متنوّعَ المقادير في الكينونة الواحدة المذهلة في غناها، الرهيبة في رحابتها، المربكة في عمقها.
وعليه، يمكننا أن نخرج بخلاصة أساسيّة تُملي علينا أنّ الأصل واحدٌ على وجه الضرورة، سواء في المادّة أو في الكينونة، في حين أنّ الانبساط متنوّعٌ تنوّعاً لا حصر له. غير أنّ ما يعنيني في هذا المقال إنما هو، على وجه التحديد، التعدّديّة المنبثقة من تجلّيات الطبيعة الإنسانيّة العاقلة. لا أستطيع أن أحسم أمرَ التنوّع الأصلي في المادّة التي منها نشأ الكون، وقد يشتمل على أكوان متداخلة متنافذة متمدّدة أو متقلّصة. جلُّ ما يمكن الفكر الفلسفي أن يتناوله إنما ينحصر في معاينة التنوّع الناشب في حقل الاختبار الإنسانيّ، ولكن من غير إهمال أنوار الاكتشافات العلميّة الفيزيائيّة الموثوقة.
لا ريب في أنّ ما يميّز الاختبار الإنساني إنما هو الوعي العاقل الذي منه تنبثق جميعُ ضروب البناءات الثقافيّة. لن أناقش المسألة الفلسفيّة الخطيرة التي تنظر في إمكانات الاختلاف بين ضروبٍ ثلاثة من الوعي: الوعي المنقبض الذي قد تحمله الكائنات الجامدة، والوعي المتوسّط النسبي الذي تختبره الكائنات الحيوانيّة، والوعي المنبسط الناشط المشرَّع الذي يعتمل اعتمالاً مذهلاً في الباطن الذهني الإنسانيّ. يقول كثيرٌ منا باختلافٍ جوهري بين وعي الأشياء التي تعي وعياً شيئيّاً، ووعي الحيوانات التي تعي وعياً حيوانيّاً، ووعي الناس الذين يَعون وعياً إنسانيّاً. ولكن هل يكون الوعيُ، في أصله، واحداً بين ذرّات الكون التي منها تنشأ الأشياء، وخلايا الحيوان البُكم، وخلايا الإنسان الدماغيّة الناطقة؟ هل يكون الوعي وعياً بيولوجيّاً عصبيّاً، أم وعياً ذهنيّاً فكريّاً ثقافيّاً؟ من الواضح أنّ السؤال الفلسفي هذا يبلغ بالاستفسار حدودَ الإرباك الأقصى، إذ لا يستطيع أحدٌ أن يحسم المسألة من غير أن يستنجد بخلفيّات العمارة الثقافيّة التي ينتمي إليها ويستند إلى فرضيّاتها الصريحة أو الضمنيّة.
لا بدّ، والحال هذه، من أن نُجمع على القول بمركزيّة سؤال الوعي في إدراك رهانات التعدّديّة الإنسانيّة. أميل شخصيّاً إلى النظريّة التي تربط هذه التعدّديّة بالاختلاف الناشب في عمق الوعي الإنسانيّ. ذلك بأنّ وحدة المادّة الفيزيائيّة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا تبطلان تنوّع تجلّيات الوعي الإنساني الفردي والجماعيّ. ثمّة ما هو أخطرُ من هذا كلّه، إذ إنّ التنوّع في انبساط المادّة الكونيّة والطبيعة الإنسانيّة يجعلني أحار في الوحدة الأصليّة المفترضة. كيف لنا أن نسوّغ انبثاق مثل التنوّع الكثيف هذا؟ كيف يستقيم أن ينشأ من الوحدة الأصليّة تعدّدٌ مذهلٌ يتجاوز بتبايناته وتناقضاته حدودَ الوحدة المفترضة؟
أمران لا ثالث لهما: إما أنّ الوحدة الأصليّة مجبولة على التنوّع الأرحب، وإما أنّ التنوّع في انبساط المادّة والطبيعة مبني على تنوّع أصليّ، لا على وحدة أصليّة. أعرف أنّ المسألة دقيقة، ولكنّها تستحقّ التفكير الهادئ لكي نتحقّق من الاختلاف بين قولَين فلسفيين: القول بوحدة أصليّة تنطوي على تنوّع فائق الغنى، والقول بتنوّع أصلي لا تضبطه أي وحدة متقدّمة عليه، يتجلّى في التعدّديّة الكونيّة الرحبة. ينطوي القول الأوّل على ضرورة الاعتراف بحقيقة فيزيائيّة واحدة، وحقيقة أنثروبولوجيّة واحدة، في حين يفترض القول الثاني أنّ ثمّة حقائق فيزيائيّة أصليّة وحقائق أنثروبولوجيّة أصليّة.
لكلّ إنسان الحرّيّة في اعتماد القول الذي يلائم وعيه وثقافته ومرتكزاته الوجوديّة واقتناعاته الشخصيّة. أظنّ أنّنا نشأنا نشأة فطريّة على اعتماد القول الأوّل، مع أنّ تطوّر العلوم لن يمنعنا من مناصرة القول الثاني في يومٍ من الأيّام. في جميع الأحوال، لا بدّ من النظر في مسألة الوعي الإنساني الذي منه تنبثق جميع أصناف التعدّديّات الثقافيّة. سواء أكانت الحقيقة واحدة في الأصل أم متعدّدة، يبقى الوعي عمادَ الاختبار الثقافيّ، إذ إنّ ثقافاتنا الإنسانيّة ثمرة اختبارات الوعي الذي نحمله في مطاوي ذاتيّتنا، وقد اشتبك اشتباكاً جدليّاً ومعطيات الزمان والطبيعة والبيئة والتاريخ.
حين انتقل الإنسانُ العاقلُ الأوّل من قارّة إلى أخرى، تغيّرت كيفيّاتُ اختبارات وعيه، وتنوّعت سبُلُ إدراكه، وتبدّلت طرائقُ تفاعله وعناصر الطبيعة. أما الوسيلة التي استخدمها الوعي للتعبير عن هذا التفاعل، فاللغة المبنيّة على رموزٍ دلاليّة تَواضَع عليها كلُّ قوم على حدة. ومن ثمّ، نشأ الاختلاف الثقافي بين الشعوب من تنوّع اختبارات الوعي اللغويّة. ولكَم وقعنا على خلافات دمويّة بين الشعوب نشبت على أصل التباين اللغوي في وصف حقائق الحياة!
وعليه، أميل ميلاً شديداً إلى القول بتعدّديّة الحقائق التي يخضع الناس لأحكامها؛ لا سيما في حقل الإنسانيّات، إذ إنّ لكلّ وعي نتاجه الثقافيّ، ولكلّ نتاجٍ ثقافي أنظومته، ولكلّ أنظومة حقائقها المعتمدة الثابتة. أعلم أنّ الطبيعة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأساسيّة. غير أنّ الناس لا يختبرون منها إلا ما يستقرّ في وعيهم من تصوّرات هذه الطبيعة. الناس يتصوّرون طبيعتهم قبل أن يعرّفوها. أعلم أنّ النضج الحضاري المشترك أبلغ المجتمعات الإنسانيّة المعاصرة مستوى التوافق اللفظي على المبادئ والقيَم. ذلك بأنّ الجميع يناصرون كرامة الإنسان؛ بيد أنّ لكلّ أنظومة ثقافيّة تأويلها الخاصّ الذي يفسّر هذه الكرامة تفسيراً يخالف تفاسير الآخرين. كذلك القول في التعدّديّة التشريعيّة التي بها ينتظم الاجتماع الإنساني في هذه الحضارة أو تلك.
خلاصة القول: إن الإقرار بوحدة الحياة ووحدة الطبيعة الإنسانيّة لا يُبطل الاختلاف في تصوّر حقائق هذه الحياة وحقائق هذه الطبيعة. العلّة الأساسيّة في ذلك كلّه اختلافُ الوعي الإنساني في تدبّر دلالات الطبيعة ومعاني الحياة. الطبيعة الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ الاختبارات الثقافيّة مختلفة. الحياة الإنسانيّة واحدة، بيد أنّ تجلّياتها الوجوديّة متنوّعة. اللغة الإنسانيّة واحدة في بنيتها الأنثروبولوجيّة، إلا أنّ علاقة كلّ لغة بالأشياء مقترنة بالاختبارات الوجدانيّة الجماعيّة السابقة، إذ إنّ لغات الأرض تتميّز بقدرتها على إظهار أبعادٍ من الوجود، وحجب أبعادٍ أخرى. القيَم الإنسانيّة واحدة، إلا أنّ تأويلاتها مختلفة وتطبيقاتها القرائنيّة متعارضة. ومن ثمّ، نجد أنفسنا في مواجهة تصوّراتٍ شموليّة (Weltanschauungen) متقابلة، لا سبيل إلى التوفيق بينها.
ليس من حقيقة بمعزل عن الإنسان الذي يصوغها ويعتقدها ويناصرها. غير أنّ ربط الحقيقة بالإنسان يُفضي بنا إلى النظر في ارتباطات الإنسان بالكون وبالطبيعة وبالوجود وبالكائنات. وعليه، لا يمكننا أن نبحث في وحدة الحقيقة أو كثرتها من غير أن ننظر في وحدة الكون أو كثرته، وفي وحدة الطبيعة أو كثرتها، وفي وحدة الوجود أو كثرته. ينبغي أن نتدبّر أوّلاً قضيّة التعدّد في هذه الحقول قبل أن نخلص إلى قولٍ حاسم في مسألة وحدة الحقيقة. إذا افترضنا أنّ بنية الوعي الإنساني واحدة، فهل يجوز أن نستخلص من هذه الفرضيّة أنّ إنتاجه واحدٌ؟ الثابت تاريخيّاً أنّ وحدة البنية في الوعي لم تُبطل تنوّعَ تصوّرات العالم، وقد تكاثرت وتعاظمت حتّى بلغت حدّ التناقض.
* مفكر لبناني



غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

TT

غزة... تاريخ من المواجهات والحروب قبل السابع من أكتوبر

مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)
مخيم نازحين في دير البلح عند شاطئ غزة (أرشيفية - أ.ب)

في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط، على مساحة لا تزيد على 360 كيلومتراً مربعاً، بطول 41 كم، وعرض يتراوح بين 5 و15 كم، يعيش في قطاع غزة نحو مليوني نسمة، ما يجعل القطاع البقعة الأكثر كثافة سكانية في العالم.

تبلغ نسبة الكثافة وفقاً لأرقام حديثة أكثر من 27 ألف ساكن في الكيلومتر المربع الواحد، أما في المخيمات فترتفع الكثافة السكانية إلى حدود 56 ألف ساكن تقريباً بالكيلومتر المربع.

تأتي تسمية القطاع «قطاع غزة» نسبة لأكبر مدنه، غزة، التي تعود مشكلة إسرائيل معها إلى ما قبل احتلالها في عام 1967، عندما كانت تحت الحكم المصري.

فقد تردد ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، في احتلال القطاع بعد حرب 1948، قبل أن يعود بعد 7 سنوات، في أثناء حملة سيناء، لاحتلاله لكن بشكل لم يدُم طويلاً، ثم عاد واحتله وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه ديان عام 1967.

خيام النازحين الفلسطينيين على شاطئ دير البلح وسط قطاع غزة الأربعاء (إ.ب.أ)

في عام 1987، أطلق قطاع غزة شرارة الانتفاضة الشعبية الأولى، وغدا مصدر إزعاج كبيراً لإسرائيل لدرجة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، تمنى لو يصحو يوماً ويجد غزة وقد غرقت في البحر.

لكن غزة لم تغرق كما يشتهي رابين، ورمتها إسرائيل في حضن السلطة الفلسطينية عام 1994 على أمل أن تتحول هذه السلطة إلى شرطي حدود. لكن هذا كان أيضاً بمثابة وهم جديد؛ إذ اضطرت إسرائيل إلى شن أولى عملياتها العسكرية ضد غزة بعد تسليمها السلطة بنحو 8 سنوات، وتحديداً في نهاية أبريل (نيسان) 2001.

وفي مايو (أيار) 2004، شنت إسرائيل عملية «قوس قزح»، وفي سبتمبر (أيلول) 2004، عادت ونفذت عملية «أيام الندم». ثم في 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة ضمن خطة عرفت آنذاك بـ«خطة فك الارتباط الأحادي الجانب».

بعد الانسحاب شنت إسرائيل حربين سريعين، الأولى في 25 سبتمبر (أيلول) 2005 باسم «أول الغيث»، وهي أول عملية بعد خطة فك الارتباط بأسبوعين، وبعد عام واحد، في يونيو (حزيران) 2006، شنت إسرائيل عملية باسم «سيف جلعاد» في محاولة فاشلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي الذي خطفته «حماس» آنذاك جلعاد شاليط، بينما ما زالت السلطة تحكم قطاع غزة.

عام واحد بعد ذلك سيطرت حماس على القطاع ثم توالت حروب أكبر وأوسع وأضخم تطورت معها قدرة الحركة وقدرات الفصائل الأخرى، مثل «الجهاد الإسلامي» التي اضطرت في السنوات الأخيرة لخوض حروب منفردة.

ظلت إسرائيل تقول إن «طنجرة الضغط» في غزة تمثل تهديداً يجب التعامل معه حتى تعاملت معها «حماس» في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) بانفجار لم تتوقعه أو تستوعبه إسرائيل وجر حرباً دموية على غزة، وأخرى على لبنان، وسلسلة مواجهات باردة في جبهات أخرى في حرب تبدو نصف إقليمية، وما أسهل أن تتحول إلى نصف عالمية.

أبرز الحروب

«الرصاص المصبوب» حسب التسمية الإسرائيلية أو «الفرقان» فلسطينياً:

بدأت في 27 ديسمبر (كانون الأول) 2008، وشنت خلالها إسرائيل إحدى أكبر عملياتها العسكرية على غزة وأكثرها دموية منذ الانسحاب من القطاع في 2005. واستهلتها بضربة جوية تسببت في مقتل 89 شرطياً تابعين لحركة «حماس»، إضافة إلى نحو 80 آخرين من المدنيين، ثم اقتحمت إسرائيل شمال وجنوب القطاع.

خلفت العمليات الدامية التي استمرت 21 يوماً، نحو 1400 قتيل فلسطيني و5500 جريح، ودمر أكثر من 4000 منزل في غزة، فيما تكبدت إسرائيل أكثر من 14 قتيلاً وإصابة 168 بين جنودها، يضاف إليهم ثلاثة مستوطنين ونحو ألف جريح.

وفي هذه الحرب اتهمت منظمة «هيومان رايتس ووتش» إسرائيل باستخدام الفسفور الأبيض بشكل ممنهج في قصف مناطق مأهولة بالسكان خلال الحرب.

«عمود السحاب» إسرائيلياً أو «حجارة السجيل» فلسطينياً:

أطلقت إسرائيل العملية في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 باغتيال رئيس أركان «حماس»، أحمد الجعبري. واكتفت إسرائيل بالهجمات الجوية ونفذت مئات الطلعات على غزة، وأدت العمليات إلى مقتل 174 فلسطينياً وجرح 1400.

شنت «حماس» أعنف هجوم على إسرائيل آنذاك، واستخدمت للمرة الأولى صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب والقدس وكانت صادمة للإسرائيليين. وأطلق خلال العملية تجاه إسرائيل أكثر من 1500 صاروخ، سقط من بينها على المدن 58 صاروخاً وجرى اعتراض 431. والبقية سقطت في مساحات مفتوحة. وقتل خلال العملية 5 إسرائيليين (أربعة مدنيين وجندي واحد) بالصواريخ الفلسطينية، بينما أصيب نحو 500 آخرين.

مقاتلون من «كتائب القسام» التابعة لـ«حماس» في قطاع غزة (أرشيفية - «كتائب القسام» عبر «تلغرام»)

«الجرف الصامد» إسرائيلياً أو «العصف المأكول» فلسطينياً:

بدأتها إسرائيل يوم الثلاثاء في 8 يوليو (تموز) 2014، ظلت 51 يوماً، وخلفت أكثر من 1500 قتيل فلسطيني ودماراً كبيراً.

اندلعت الحرب بعد أن اغتالت إسرائيل مسؤولين من حركة «حماس» اتهمتهم أنهم وراء اختطاف وقتل 3 مستوطنين في الضفة الغربية المحتلة.

شنت إسرائيل خلال الحرب أكثر من 60 ألف غارة على القطاع ودمرت 33 نفقاً تابعاً لـ«حماس» التي أطلقت في هذه المواجهة أكثر من 8000 صاروخ وصل بعضها للمرة الأولى في تاريخ المواجهات إلى تل أبيب والقدس وحيفا وتسببت بشل الحركة هناك، بما فيها إغلاق مطار بن غوريون.

قتل في الحرب 68 جندياً إسرائيلياً، و4 مدنيين، وأصيب 2500 بجروح.

قبل نهاية الحرب أعلنت «كتائب القسام» أسرها الجندي الإسرائيلي شاؤول آرون، خلال تصديها لتوغل بري لجيش الاحتلال في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وما زال في الأسر.

«صيحة الفجر»:

عملية بدأتها إسرائيل صباح يوم 12 نوفمبر عام 2019، باغتيال قائد المنطقة الشمالية في سرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، بهاء أبو العطا، في شقته السكنية في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وردت «حركة الجهاد الإسلامي» بهجوم صاروخي استمر بضعة أيام، أطلقت خلالها مئات الصواريخ على مواقع وبلدات إسرائيلية.

كانت أول حرب لا تشارك فيها «حماس» وتنجح إسرائيل في إبقائها بعيدة.

طفل فلسطيني يسير أمام أنقاض المباني في مدينة غزة (أ.ف.ب)

«حارس الأسوار» أو «سيف القدس»:

بدأت شرارتها من القدس بعد مواجهات في حي الشيخ جراح، واقتحام القوات الإسرائيلية للمسجد الأقصى ثم تنظيم مسيرة «الأعلام» نحو البلدة القديمة، وهي المسيرة التي حذرت «حماس» من أنها إذا تقدمت فإنها ستقصف القدس، وهو ما تم فعلاً في يوم العاشر من مايو (أيار) عام 2021.

شنت إسرائيل هجمات مكثفة على غزة وقتلت في 11 يوماً نحو 250 فلسطينياً، وأطلقت الفصائل أكثر من 4 آلاف صاروخ على بلدات ومدن في إسرائيل، ووصلت الصواريخ إلى تخوم مطار رامون، وقتل في الهجمات 12 إسرائيلياً.

 

«الفجر الصادق» أو «وحدة الساحات»:

كررت إسرائيل هجوماً منفرداً على «الجهاد» في الخامس من أغسطس (آب) 2022 واغتالت قائد المنطقة الشمالية لـ«سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، تيسير الجعبري، بعد استنفار أعلنته «الجهاد» رداً على اعتقال مسؤول كبير في الحركة في جنين في الضفة الغربية، وهو بسام السعدي.

ردت «حركة الجهاد الإسلامي» بمئات الصواريخ على بلدات ومدن إسرائيلية، وقالت في بيان إنها عملية مشتركة مع كتائب المقاومة الوطنية وكتائب المجاهدين وكتائب شهداء الأقصى (الجناح العسكري لحركة فتح)، في انتقاد مبطن لعدم مشاركة «حماس» في القتال. توقفت العملية بعد أيام قليلة إثر تدخل وسطاء. وقتل في الهجمات الإسرائيلية 24 فلسطينياً بينهم 6 أطفال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

«السهم الواقي» أو «ثأر الأحرار»:

حرب مفاجئة بدأتها إسرائيل في التاسع من مايو 2023، باغتيال 3 من أبرز قادة «سرايا القدس» (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة)، أمين سر المجلس العسكري لسرايا القدس، جهاد غنام (62 عاماً)، وقائد المنطقة الشمالية في السرايا خليل البهتيني (44 عاماً)، وعضو المكتب السياسي أحد مسؤولي العمل العسكري في الضفة الغربية، المبعد إلى غزة، طارق عز الدين (48 عاماً).

وحرب عام 2023 هي ثالث هجوم تشنه إسرائيل على «الجهاد الإسلامي» منفرداً، الذي رد هذه المرة بتنسيق كامل مع «حماس» عبر الغرفة المشتركة وقصف تل أبيب ومناطق أخرى كثيرة بوابل من الصواريخ تجاوز الـ500 صاروخ على الأقل.

... ثم الحرب الحالية في السابع من أكتوبر 2023.