علي بن مخلوف: الفلسفة العربية جزء أساسي من الإرث الثقافي للبشرية

يبذل جهوداً كبيرة لإعادة الاعتبار إليها في الغرب

علي بن مخلوف
علي بن مخلوف
TT

علي بن مخلوف: الفلسفة العربية جزء أساسي من الإرث الثقافي للبشرية

علي بن مخلوف
علي بن مخلوف

يعد علي بن مخلوف أحد الاختصاصيين الكبار في الفلسفة العربية: أي فلسفة الفارابي وابن سينا وابن رشد وسواهم. ولكنه أيضاً أحد الاختصاصيين المهمين في الفلسفة الغربية وبخاصة الفلسفة التحليلية أو الوضعية المنطقية على طريقة برتراند رسل وغوتليب فريج وفتغنشتاين، إلخ. وهي من أصعب الفلسفات وأكثرها تعقيداً. وبالتالي فقد جمع المجد الفلسفي من طرفيه العربي والأوروبي. لقد أصبح جسراً بين حضارتين أو ضفتين. وبصفته تلك فقد أسهم في إقامة مؤتمرات كبرى بين مؤسستين كبيرتين هما: مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية في الدار البيضاء، والمعهد الدولي للفلسفة في باريس. وعن هذه المؤتمرات التي شارك فيها المثقفون العرب والمثقفون الفرنسيون والأوروبيون عموماً نتجت خمسة مجلدات تحتوي على المداخلات. هذه المجلدات هي التالية: أولاً «العقل ومسألة التخوم أو الحدود التي ينبغي أن يتوقف عندها». ثانياً «دروب الفلسفة العالمية ومتاهاتها». ثالثاً «تنقلات أو رحلات النظريات الفلسفية من عالم إلى آخر». رابعاً «هل حقاً أن كل شيء نسبي يا ترى؟». خامساً «القانون والمشاركة السياسية».
هذا من جهة، وأما من جهة أخرى فيبذل علي بن مخلوف جهوداً كبيرة لإعادة الاعتبار إلى الفلسفة العربية والفلاسفة العرب الكبار في الغرب. نقصد الكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن الطفيل، وابن رشد، وابن باجة، إلخ. فهؤلاء ذهبوا ضحية التقسيم التعسفي لتاريخ الفكر. فالكتب الغربية تنطّ مباشرةً من دراسة أرسطو وأفلاطون وبقية فلاسفة الإغريق قبل 2500 سنة إلى دراسة ديكارت. وهي بذلك تقفز على مرحلة العصور الوسطى كلها: أي على ألف سنة من عمر الحضارة البشرية. والمشكلة هي أن العصور الوسطى الأوروبية ليست عصوراً وسطى إسلامية أو عربية، وإنما هي العصر الذهبي للعرب! هنا يقع الإشكال. ولكن ينبغي الاعتراف بأن هذا التحقيب الأوروبي لتاريخ الفكر لا يظلم فقط الفلسفة العربية وإنما أيضاً الفلسفة المسيحية واليهودية التي سادت القرون الوسطى: أي فلسفة القديس توما الأكويني وموسى بن ميمون الذي كتب رائعته «دلالة الحائرين» باللغة العربية ثم تُرجمت لاحقاً إلى العبرية.

هذا الكلام لا يعني أنه لا يوجد فرق بين فلسفة القرون الوسطى وفلسفة القرون الحديثة. فالواقع أنه يوجد فرق أساسي. نضرب على ذلك مثلاً لذلك الانقسام الثنائي الكائن بين الإيمان والعقل، أو بين الدين والفلسفة. فهذا الانقسام حديث يعود إلى عهد ديكارت ولم يكن معروفاً في القرون الوسطى. بالنسبة إلى فلاسفة القرون الوسطى الإسلاميين، كما المسيحيين واليهود، فإن العقل هو الله أو قُلْ هو صادر عن الله مباشرةً وليس مستقلاً بذاته. أما بالنسبة إلى ديكارت ومَن تلاه فالعقل منبثق عن الذات البشرية ومستقل بذاته. من هنا نتج الشعار الشهير أو الكوجيتو: «أنا أفكر، فأنا موجود». وهذا يعني أن الفلسفة كانت في القرون الوسطى مجرد خادمة للدين أو لعلم اللاهوت، ولكنها تحررت من هذا الخضوع والتبعية في العصور الحديثة، وأصبحت مستقلة بذاتها. هنا يكمن الفرق بين العصور الوسطى والعصور الحديثة.
ولكن الشيء المدهش الذي يثير الإعجاب لدى فلاسفة العرب هو أنهم كانوا يحترمون الحقيقة من أي جهة جاءت أو أينما وجدوها. وكانوا يعتقدون أنه ينبغي أن نستفيد من المعرفة ولو جاءت من جهة شعوب أجنبية غريبة عنّا؛ بل حتى غير مسلمة. «علينا أن نأخذ الحقيقة من أي كان، سواء كان مشاركاً لنا في الملّة أم لا»، كما قال الكندي حرفياً. وضمن هذا المنظور الواسع نلاحظ أن «كتاب الملة» للفارابي أي «كتاب الدين» لا يتضمن أي هجاء أو شتم أو تكفير للأديان الأخرى كما يفعل الأصوليون عادةً. أبداً، أبداً. إنه خالٍ تماماً من الروح الطائفية التي كانت ملازمة لتفكير القرون الوسطى. وبالتالي فهو يتحدث عن الدين أو عن الأديان كلها من وجهة نظر فلسفية محضة، ويضعها على قدم المساواة. وموقف الفارابي هذا مدهش جداً وسابق لأوانه بكثير. وقُل الأمر ذاته عن أبي العلاء المعرّي، نابغة الزمان.
والآن نطرح هذا السؤال: كيف برّر الفلاسفة العرب أخذ العلم عن فلاسفة اليونان؟ عن هذا السؤال يجيب علي بن مخلوف قائلاً ما معناه: لقد انتشرت الفلسفة في العالم العربي الإسلامي بصفتها حكمة لا فلسفة. وذلك لأن كلمة الحكمة ليست غريبة على الأذن العربية. بل هي عربية قُحّة. نقول ذلك ونحن نعلم أن كلمة «حكيم» هي أحد أسماء الله الحسنى التسعة والتسعين. وبالتالي فلا اعتراض عليها. بل هي محترَمة ومقبولة تماماً في مجتمع مسلم مجبول جبلاً بالنص القرآني المقدس. لقد فكّر الفلاسفة المسلمون على النحو التالي: إذا ما قدمنا للجمهور المسلم فكرنا على أساس أنه فلسفة فسوف يجفل فوراً ويبتعد عنّا بل يشكّ فينا وفي إيماننا وصحة عقيدتنا. ولكن إذا ما قدمناه على أساس أنه حكمة، فسوف يقبل بنا ويُقبل علينا بلا أي مشكلة. وهذا ما فعله ابن رشد في كتابه الشهير: «فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». فلم يضع كلمة «فلسفة»، الغريبة الشاذة الأجنبية، على العنوان. لقد تحاشاها بشكل تكتيكي ذكي. ولكنه منذ الفقرة الأولى من الكتاب عاد إلى استخدام كلمة فلسفة! وهذا يعني أنه اتَّبع حيلة معيّنة ماكرة لكيلا يصدم الجمهور المسلم. وهذا ما فعله الفارابي أيضاً قبله في كتابه الشهير: «الجمع بين رأيي الحكيمين أرسطو وأفلاطون». فلم يقل «الجمع بين رأيي الفيلسوفين». ولكن على أي حال فإن كلمة فلسفة في اللغة اليونانية تعني حب الحكمة. وبالتالي فالكلمة العربية مطابقة للكلمة اليونانية من حيث المعنى. لقد حاول الفلاسفة العرب إقامة التوفيق أو المصالحة بين النصوص المقدسة من جهة، والفلسفة الوثنية لأفلاطون وأرسطو من جهة أخرى. ولكنهم ما كانوا يقولون عنهم إنهم فلاسفة وثنيون وإنما يستخدمون كلمة «المتقدمين» أو القدماء: أي أرسطو وأفلاطون وسواهما من فلاسفة اليونان. وذلك لأنهم لو قالوا إنهم وثنيون لانفضّ عنهم الجمهور المسلم فوراً؛ بل لكفَّرهم أيضاً؛ إذ كيف يمكن أن تتأثروا بفلاسفة وثنيين أو تقيموا لكلامهم وزناً؟ معاذ الله، أعوذ بالله.
على أي حال، ربما لهذا السبب كان وجود الفلسفة في العالم الإسلامي دائماً مهدداً ومحفوفاً بالمخاطر. بل حتى في عصرنا الحاضر، فإن الأصوليين المحافظين يتهمون الفلسفة بأنها تُبعد عن الدين بل بأنها عدوّة للدين. وفي كل الأحوال فقد استطاع الفقهاء الكبار القضاء عليها بسرعة في نهاية المطاف، بدءاً من الإمام الغزالي وانتهاءً بابن خلدون، مروراً بابن تيمية وعشرات آخرين. «مَن تمنطق فقد تزندق». أعوذ بالله من الكفر والكفار. ولم تقم لها قائمة في أرض الإسلام منذ موت ابن رشد عام 1198 وحتى القرن التاسع عشر، حيث ابتدأت بشائر عصر النهضة.
لقد ماتت الفلسفة عندنا طيلة سبعة قرون متواصلة. وفي هذه القرون السبعة الانحطاطية التي نمنا فيها على التاريخ، تحققت أكبر الفتوحات العلمية والفلسفية في أوروبا. في هذه القرون ظهر كوبرنيكوس، وغاليليو، وديكارت، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، وماركس، وفرويد، وعشرات غيرهم من النجوم والأعلام. ثم يستغرب بعضهم متسائلين: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ولكن إذا ما عُرف السبب بطل العجب.
ينبغي ألا ننسى أن البروفسور علي بن مخلوف من مواليد مدينة فاس العريقة التي لطالما أنجبت العلماء والمفكرين على مدار العصور. نذكر من بين أشهر كتبه: «الفارابي: التفلسف في بغداد إبان القرن العاشر الميلادي». وهنا يقول لنا المؤلف إن المعلّم الثاني بعد أرسطو، أي الفارابي، هو الذي دشَّن المدرسة المنطقية والفلسفية العربية في عاصمة العباسيين وفي عهد البويهيين. وعندئذ تشكل تيار فكري كوني كوسموبوليتي تتناغم فيه المصادر الإغريقية مع التفاسير القرآنية مع كتب البلاغة والشعرية العربية. وكانوا يقرأون كتب الدين وكتب أفلاطون وأرسطو معاً بكل حرية.
ولا ننسى كتابه التالي: «لماذا نقرأ فلاسفة العرب؟ الإرث المنسيّ». هذا الكتاب يقول لنا ما معناه: الفلسفة العربية كما تجسدت في التاريخ بين القرنين الثامن والخامس عشر تشكّل جزءاً لا يتجزأ من الإرث الثقافي للبشرية. وهذا سبب كافٍ لكي نهتم بها وندرسها.
أخيراً عندما سألوا علي بن مخلوف: كيف يمكن تقليص ظاهرة التطرف الديني في العالم الإسلامي؟ أجاب بما معناه: الحل الوحيد هو في التربية والتعليم والتنوير. ونضيف من عندنا: ما دام كلام الشيوخ المتزمتين هو السائد وليس التعليم الفلسفي النقدي للدين، فلا حل ولا خلاص. المسألة فكرية قبل أن تكون سياسية. ولن تُحل سياسياً ما لم تُحل فكرياً ومعرفياً في العمق. ينبغي أن يظهر تعليم جديد للدين الإسلامي في العالم العربي. المقصود تعليم مستنير بضوء العقل ونور الفلسفة. هذا الشيء أصبح حاجة ماسة. وينبغي أن ينتشر هذا التعليم الجديد المستنير لتراثنا العربي الإسلامي الكبير في المدارس والجامعات والفضائيات لكي يواجه التعليم التقليدي، وأكاد أقول: الظلامي المسيطر كلياً تقريباً. فالفلسفة، أي الفكر النقدي المضيء، هي وحدها القادرة على تحجيم العقلية الدوغمائية المتحجرة التي تفرّخ المتطرفين والإرهابيين. نقول ذلك ونحن نعلم أن تراثنا الديني العظيم يحتمل قراءتين: الأولى منفتحة والأخرى منغلقة، الأولى متسامحة والأخرى متعصبة، الأولى تنويرية والأخرى تكفيرية. ولكم الخيار!


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»