ما الإنسان؟... سؤال الكينونة

رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
TT

ما الإنسان؟... سؤال الكينونة

رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)
رأس إنسان مقطوع إلى نصفين ومحفوظ للدراسة في معرض التشريح السنوي لجامعة مالايا في كوالالمبور بماليزيا 7 يناير 2023 (إ.ب.أ)

لعل السؤال عن ماهية الإنسان أحد أصعب الأسئلة وأيسرها، أعقدها وأوضحها في آن. إنه ميسور وواضح لو قنعنا بتعريفه البيولوجي، حيث الإنسان هو ذلك الكائن الضعيف، الذي يولد جنيناً، ويصير رضيعاً يحتاج إلى حضانة شاملة، قبل أن يصبح طفلاً يحتاج إلى تربية طويلة وتعليم شاق، ثم شاباً فرجلاً ذا جسد أقوى قياساً إلى طفولته، لكنه أوهى بالقياس إلى غيره من الحيوانات. فإذا طمحنا إلى تعريف سيكولوجي وأخلاقي أصبح الأمر صعباً، لأن الهشاشة البيولوجية للإنسان يقابلها تعقيد كبير في تكوينه السيكولوجي وحضوره الأخلاقي، يثير التباين حوله والاختلاف عليه. فالبعض ينظرون إليه باعتباره الخليفة الأرضي الذي خصَّه الله بتلقي الوحي وعمارة الأرض. والبعض الآخر يراه ذلك الكائن الوثني الذي طالما عبد الأصنام وأنكر الإله. والبعض الثالث يراه متوحشاً قتل المختلفين عنه ليرضي إحساسه بالقوة، أو حتى وغداً تدفعه الرغبة في التملك إلى خيانة بني وطنه ودينه وربما التخلي عن عائلته. والبعض الرابع يراه ذلك الكائن النبيل، الذي بذل جهوداً مضنية عبر أجيال متوالية في رفع راية العمران والتمدن وحمل مشعل الاستنارة والتقدم. والغريب في الأمر أن الإنسان هو كل ذلك، فهو الملاك والشيطان، وما بينهما من ألوان الطيف.
إنه المخلوق المعقد، الذي ينطوي ليس فقط على مجموعة من الخلايا والأعصاب والرغبات، كما يزعم الماديون، ولا يقتصر سلوكه على ردود الأفعال الشرطية، كما يدعي السلوكيون، ولا يقتصر عقله على مجرد مخ مادي يعكس الواقع بحذافيره كآلة فوتوغرافية، كما يرى التجريبيون، بل إنه يملك وعياً مركباً وخيالاً خلاقاً ذا قدرة توليدية، قادراً على الفهم والتحليل عبر الاستدلال أو التجريب، إذ يُبقي هذا العقل ويستبعد من المعلومات، كما يهمِّش ويرِّكز من الأفكار ما يمكنه من فهم الواقع الطبيعي والاجتماعي عبر ذاته الحافلة بالأشواق والمعاني والذكريات.
وهو الكائن الذي يطمح إلى الفضيلة رغم انطوائه على حس الغريزة، إذ تدفعه المنظومات الأخلاقية والرمزية المحيطة به في كل مكان وزمان إلى الخجل من حسيته، وإلى الرغبة في التسامي عليها، ولو أخفق أحياناً، وذلك في محاولة لا تتوقف ولا تنتهي لتجاوز حس الضرورة القاهر إلى أفق الحرية الشامل. ومن ثم يبقى الفارق شاسعاً بين الإنسان وما عداه من موجودات طبيعية أو كائنات بيولوجية. فالطبيعة لا تملك فكراً أو قصداً، لا تعرف الخير أو الشر، بل تخضع لقوانين حتمية تتحكم في ظواهرها، ومن ثم يجري التحول فيها بطيئاً، وفق نظام صارم ودورات تاريخية طويلة. أما الإنسان فيفكر، ويقصد بفكره تحقيق أهداف وبلوغ غايات. لذا تخضع جميع الظواهر الاجتماعية للتغير السريع والتحول المدهش، وتتمرد على القسر في قوالب مغلقة أو الخضوع لتصورات حتمية.
ومن هنا، برزت الثنائية الوجودية التي عبر عنها ديكارت مفتتحاً الفلسفة الحديثة بالفكر والامتداد، ووضعتها الفلسفات المعاصرة في قالب الذات والموضوع، الإنسان هو الفكر الذي يُمارس من خلال ذات تتأمل العالم الطبيعي الممتد، تفحصه وتُمحِّصه وتنقده، أي تعرفه.
ورغم أن الفارق بين الإنسان والحيوان يظل أضيق منه مع العالم الطبيعي، فإنه يظل فارقاً وجودياً رغم أي تشابه فسيولوجي؛ حيث تفتقد أكثر الحيوانات رقياً إلى ممكنات التسامي الأخلاقي، فلا تستطيع التمييز بين الظلم والعدل، الجميل والقبيح، فيما يحيا الإنسان في فلكها، يدركها ويفهمها حتى لو عجز عن ممارستها. وفيما تعيش أرقى الحيوانات في الحاضر وحده بلا وعي تاريخي، يعيش الإنسان في التاريخ بكل أبعاده، إذ يتجذر في معطيات الحاضر وهو يستعد لخوض المستقبل، بناءً على خبرات الماضي، فيتصرف وفقاً لحكم مأثورة، أو ينفذ خططاً مدروسة، استعداداً لأزمنة قد لا يعيش حتى يراها وإنما يتخيلها. وربما كان الحيوان يخاف كالإنسان، غير أنه ذلك الخوف الغريزي فقط على الطعام خشية الجوع أو على الجسد خشية الافتراس. أما الإنسان فيضيف إلى هذا النوع البدائي من الخوف أشكالاً أرقى: كالخوف الميتافيزيقي من إله يعبده عندما يرتكب إثماً، والخوف الوجودي من فناء يلامسه عندما يدهم المحيطين به. الخوف النبيل على من يواجهون الأخطار والكوارث والمظالم. ورغم أن الحيوانات الأكثر تطوراً ربما تعاني القلق، فإن قلقها مجرد شعور يصاحب الخوف على الحياة أو الطعام، أي على «الراهن»، وليس قلقاً سيكولوجياً على «الآتي» كقلق الإنسان. وقد يميل ذكر الحيوان إلى أنثاه، غير أن ميله يظل انعكاساً لغريزة تلقائية تتوجه نحو أقرب الإناث إليه، التي ينصرف عنها بعد قضاء حاجته مباشرة، أما الحب الإنساني فذو بعد جواني عميق، كما ينزع إلى مشاركة طويلة بين الرجل والمرأة، ومن ثم تأسست قوانين الزواج في جل الحضارات.
ورغم خضوع الإنسان، كجميع الكائنات، لقانون العدم، فميزته الكبرى أنه الأكثر وعياً بذلك القانون، وإدراكاً للمعنى الكامن وراءه، فوحده الإنسان يعرف أنه سيموت، بل يستعد للحظة موته، سواء بثقة وهدوء، أو بهلع وخوف.
أما الحيوان فيلاقي حتفه مرة واحدة فقط، عندما يصادفه، دون انتظار. وربما كان هناك فارق بين موت يأتينا في الشيخوخة، نجلس لننتظره، حتى أن البعض يبني لنفسه قبراً ويجهز الكفن، تطبيقاً لسنة كونية هي أن يموت القديم عندما يشيخ تاركاً المجال للوليد الجديد، حيث الاستمرار والفناء، الوجود والعدم، أمور تقع في صميم الطبيعة الإنسانية، وبين موت طارئ، يداهمنا في ريعان الشباب لمرض قاهر أو حادث عارض، تجسيداً لحكمة إلهية لا يستطيع الإنسان كشف كنهها أو سبر غورها. وفي الحالين، تكشف واقعة الموت، كحد للحياة، عن أبرز مصادر قلق الإنسان، فهو يعيش ويتعلم، يبني ويعمّر، رغم إدراكه أن عمره محدود، وأن غيره سيأتي بعده ليحل محله ويستمتع بعصير جهده. كما تكشف عن أبرز وجوه عظمته، وهي تصالحه مع محدوديته، وإدراكه لحقيقة أن الموت المنتظر أو حتى المفاجئ لا يعني أن مشروع حياته باء بالفشل، على نحو قد يدفعه إلى الشعور بالعدمية، بل ربما كان ناجحاً إلى الحد الذي أتى ثماره سريعاً، فلم يعد لاستمرار معاناته الوجودية سبب جوهري.
يرتبط الموت هنا بجسد هزمه الفناء، أما النجاح فرهن قدرة الإنسان على ترك بصمة روحه فيمن يعيش بعده، إذا ما تمكن من تجسيد المثل العليا للحياة، فليس المهم أن يكون العمر طويلاً بل أن يكون ملهماً، أن يساعد الآخرين على التصالح مع عالمهم أو على تطوير وجودهم. لقد عاش أناس كثيرون طويلاً كالأموات، لا يضيفون إلى الحياة شيئاً، ناهيك عن الأوغاد الذين أخذوا ولا يزالون يأخذون منها إلى درجة تجعلهم عبئاً عليها، إذ لم يرَ معاصروهم سوى شرهم الظاهر، ولم نسمع نحن عنهم إلا ضجيجهم الباطل. أما نبلاء الإنسانية وأبطالها فلهم قيمتهم السامية ولو قصرت أعمارهم، سواء كانوا من أبطال العقل والخيال كالفلاسفة والمفكرين والأدباء والشعراء والفنانين، الذين طالما علمونا، بل أرشدونا إلى حقيقتنا الداخلية، أم من أبطال السياسة والسلاح الذين يبنون الأمم ويدافعون عن الأوطان، بل يمنحونها حقيقتها الخارجية. يموت هؤلاء نعم، يختفون من عالمنا قطعاً، لكنهم يعيشون دوماً، ينشرون أجنحتهم على زماننا والأزمان التي تلينا. بل إن موتهم المبكر غالباً ما يضيف إلى حياتهم، إذ يتمم أسطورتهم، ويمنحهم خلوداً استثنائياً، يعكس الحد الأقصى للحضور الإنساني على الأرض.
* باحث مصري



ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟