«الذئاب القيصرية» الروسية تجرّب أسلحتها على خطوط التماس

جنود أوكرانيون يستولون على دبابات روسية قريباً من الحدود البيلاروسية (أ.ب)
جنود أوكرانيون يستولون على دبابات روسية قريباً من الحدود البيلاروسية (أ.ب)
TT

«الذئاب القيصرية» الروسية تجرّب أسلحتها على خطوط التماس

جنود أوكرانيون يستولون على دبابات روسية قريباً من الحدود البيلاروسية (أ.ب)
جنود أوكرانيون يستولون على دبابات روسية قريباً من الحدود البيلاروسية (أ.ب)

ما زالت الحرب الأوكرانية، بعد مرور قرابة عام على اندلاعها، تُذهل العالم بكل جديد. فهي حرب تجاوزت كل الأعراف وكسرت كل الخطوط الحمراء، لتستحق لقب «الحرب الكونية الهجينة والشاملة»، وهو اللقب الأكثر انتشاراً في روسيا. في حرب أوكرانيا استخدمت الأطراف المنخرطة كل أدواتها القتالية والدبلوماسية، ليتجاوز تأثيرها كثيراً طرفي النزاع المباشرين. من المواجهة الإعلامية والسياسية التي قسمت العالم، إلى تقويض إمدادات الطاقة وتحطيم سلاسل إمدادات الأغذية، لتترك بلداناً ومناطق بأكملها تتضور برداً وجوعاً.
لكن الأبرز في ساحات القتال، حالياً، أن الحرب المتواصلة وضعت قواعد وآليات جديدة يعكف الخبراء العسكريون على دراسة تأثيراتها المستقبلية، واحتمال تطويرها في حروب مقبلة.
الاستخدام النشط للمرتزقة إلى جانب القوات النظامية، وتسليم الدور الأساسي في المواجهات المباشرة على خطوط التماس لأصحاب سوابق، ومجموعات لا ترحم، ولا تعترف بقوانين إنسانية، لأنها «لا تملك ما قد تخسره»، حمل تحولاً أساسياً في مسار الحروب بين الدول، ستكون له تبعات قوية، على الأرجح.
كما أن دخول تقنيات جديدة مثل الاستخدام المكثف للمسيّرات الهجومية على منشآت البنى التحتية المدنية، تحوّل إلى درس جديد في فنون القتال الحديثة، ويقول خبراء إن الأطراف تسابق الزمن لتوظيفه من خلال تطوير آليات لمواجهة «أسراب من المسيّرات» تشن هجوماً عنيفاً متزامناً لشل قدرات العدو. وهو أمر يبدو أن موسكو ستكون سباقة إليه بعدما أعلنت عن بدء تطوير هذه التقنية القتالية.
والأحدث في هذه الحرب التي ما زالت تعد بمفاجآت كثيرة، جاء مع الإعلان الروسي عن دخول «الذئاب القيصرية» على خط المواجهة. وبعيداً عن دلالات الاسم الذي تم اختياره لهذه المجموعات في ظروف الحرب، التي تم مراراً التذكير بأنها تشكل امتداداً لحروب روسيا القيصرية والسعي إلى «استعادة» أراضيها ومجدها الغابر، فإن هذه ليست مجموعات من المقاتلين العاديين، كما قد يخطر في البال للوهلة الأولى. بل تضم مبتكري طرازات من الأسلحة والمواد المتفجرة التي لم تجرّب بعد، وستكون جبهات القتال ساحات لتجريبها.
وفي هذا الإطار، أعلن رئيس مركز «تسارسكيي فولكي» (الذئاب القيصرية)، ديمتري روغوزين، أن المركز يوفّر أقصر الطرق للشركات الخاصة والمطورين لاختبار عيّنات الأسلحة والمعدات على خط المواجهة. المركز يجمع حالياً «مئات» من مبتكري طرازات الأسلحة والتقنيات العسكرية والمواد المتفجرة، الذين لم يجدوا بعد فرصة لقبول «اختراعاتهم» ووضعها موضع التنفيذ، وهم بحاجة إلى إجراء سلسلة تجارب عليها. هل هناك أفضل من ظروف «الحرب الحقيقية» لتجربة الأسلحة؟ قدمت «التجربة السورية» جواباً على السؤال في أوقات سابقة. وقد أقرت موسكو بتجربة أكثر من 300 طراز من الأسلحة والمعدات الحديثة في ساحات القتال السورية، ووجدت أن بعضها «غير صالح» للقتال الحقيقي فتوقفت عن إنتاجه، بينما أدخلت تعديلات كثيرة على طرازات عديدة من الأسلحة والقذائف لتزيد من فاعلياتها بعد تلك التجارب.
لكن المذهل في الموضوع أن تلك كانت طرازات من الأسلحة والمعدات الموجودة بالفعل لدى الجيش، التي جرّبت سابقاً في ميادين التجارب قبل أن تذهب إلى معركة حقيقية، في حين أن الحديث يدور حالياً عن تطوير أسلحة وتقنيات ما زالت في طور الابتكار وسوف تُجرّب مباشرة على جبهات القتال.
قال روغوزين، الذي شغل سابقاً منصب مدير مؤسسة «روس كوسموس» المسؤولة عن صناعات الفضاء، لوكالة أنباء «نوفوستي» الحكومية، إن «المركز العلمي والتقني (الذئاب القيصرية) يوفر في واقع الأمر فرصة خاصة للمطورين، أو لفرق من مطوري التقنيات، المتحمسين والمستعدين لتقديم اختراعاتهم الخاصة، إذ يمنحهم أقصر الطرق للوصول إلى خطوط الجبهة، لإجراء اختبارات ميدانية واسعة النطاق لما يقدمونه من اختراعات».
وأوضح السياسي، الذي برز اسمه منذ سنوات طويلة كأحد «صقور» المواجهة مع الغرب، أنه «من المستحيل تحقيق نتائج إيجابية بنسبة 100 في المائة على أساس هذه الاختبارات على الفور، وإنما يتلقى المطورون تعليقات محددة على تقنياتهم وبإمكانهم وضع تلك التعليقات في الاعتبار بسرعة لتحسين اختراعاتهم». ويتعلق ذلك، وفقاً لروغوزين، بـ«تقنيات لإنشاء أو اختراق مناطق محصنة، وطائرات مسيّرة، وكذلك ذخيرة طيران موجهة».
تم إنشاء فرقة «الذئاب القيصرية» بمبادرة من روغوزين نفسه، ووفقاً للتعريف الرسمي «تقدم الفرقة المساعدة الفنية العسكرية لقوات جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، ويعمل المستشارون بشكل وثيق مع مطوري المعدات والمنظومات العسكرية المختلفة، فيما تتمثل المهمة الرئيسية في التقديم الفوري لنماذج جديدة كجزء من العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا».
وخلال العام الماضي، قضى روغوزين نحو 3 أشهر في دونيتسك مع مجموعة من المستشارين بهدف تطوير مشروعه، وتعرض لإطلاق نار في 21 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، وأصيب بجروح بسبب قذيفة، ويواصل العلاج حالياً في موسكو.
وفور الإعلان المثير للجدل من روغوزين، أكد «رئيس قسم التنمية البشرية» في «الذئاب القيصرية» فلاديمير ماتفيتشوك، لوكالة «نوفوستي»، أن المركز تلقى «مئات من استمارات الالتحاق التي تضم خبراء عسكريين تقنيين ومطورين ومبتكرين». وتابع ماتفيتشوك: «لقد قدمنا الروبوت الخاص بنا في قناتنا الرسمية على تطبيق (تلغرام)، ويعالج موظفونا ومركزنا العلمي والتقني مئات الاستبيانات من المتطوعين المتخصصين العسكريين والتقنيين ممن أعربوا عن رغبتهم في الانضمام إلى فرقة (الذئاب القيصرية)». لا تتحدث وسائل الإعلام الروسية عن آليات لتطبيق القوانين الإنسانية المتعلقة بالحروب على نشاط هذا المركز. يبدو هذا الملف الغائب الأكبر حتى الآن في حرب أوكرانيا.
بالتوازي مع ذلك، لا يخفى أن موسكو تسابق الزمن لتعويض المخزون الحربي الذي تم استخدامه بكثافة في الحرب. وينفي مسؤولون روس صحة معطيات غربية تحدثت عن نقص في مخزون روسيا من القذائف. وقال سيرغي تشيميزوف مدير عام الشركة الحكومية «روستيخ»، إن «مزاعم كييف وبعض وسائل الإعلام الأجنبية بأن الجيش الروسي يعاني من نقص في القذائف لا أساس لها». وأضاف في حديث مع وكالات أنباء رسمية، الجمعة، أن مؤسسته «قامت بطلب من وزارة الدفاع، بزيادة إنتاج عدة أنواع من الذخائر مرات عديدة، وبعض الطرازات تمت زيادة إنتاجها بشكل ضخم». وأشار المسؤول عن المجمع الصناعي العسكري إلى أنه «خلال تنفيذ العملية العسكرية الخاصة تم بالفعل استهلاك كمية كبيرة من الذخيرة من جميع الطرازات - الخراطيش وقذائف المدفعية وقذائف الدبابات والصواريخ».
وكانت وسائل إعلام غربية نقلت في وقت سابق عن مصادر استخباراتية أن روسيا قامت بشراء ملايين قذائف المدفعية والصواريخ من كوريا الشمالية، ورأت أن ذلك يعد مؤشراً إلى أن العقوبات «حدت بشكل خطير من سلاسل التوريد، وأجبرت موسكو على اللجوء إلى الدول المارقة للحصول على الإمدادات العسكرية».
بدوره، قال الخبير العسكري أليكسي ليونكوف، إن «هذه المزاعم وغيرها ليست سوى جزء من حملة إعلامية مغرضة». وأشار إلى أنه تعمل في روسيا شركات عديدة ضخمة تنتج الأسلحة والمعدات الحربية، من بينها مؤسسة «الأسلحة الصاروخية التكتيكية» التي تنتج مجموعة مختلفة من الصواريخ، ومؤسسة «ألماز أنتي»، التي تنتج صواريخ موجهة مضادة للطائرات، وشركة «تيخماش» التي تنتج مجموعة واسعة من المدفعية والصواريخ. في الوقت ذاته، كشف تشيميزيف عن واحدة من أبرز نتائج الاستخدام المكثّف للمسيّرات الهجومية، ومدى تأثيرها على توجّه صانعي السلاح الروس. إذ تحدث المسؤول عن تصميم «طائرات مسيّرة للعملية العسكرية الخاصة، قادرة على مهاجمة أهدافها على شكل سرب ضخم وبشكل متزامن». قال تشيميزيف لوكالة أنباء «نوفوستي»، إن «خبراء المؤسسة صمموا مروحيات هجومية للاستخدام في العملية العسكرية الخاصة يمكنها مهاجمة مواقع العدو ضمن سرب من الطائرات المسيّرة». وزاد: «كما نقوم بتطوير مروحيات تكتيكية صغيرة للاستطلاع وتوجيه المدفعية. يمكنها المشاركة في مهاجمة مواقع العدو ضمن سرب الطائرات المسيّرة وإلقاء قنابل».
وتابع قائلاً: «نحن ندرك وكذلك وزارة الدفاع أن هذه التقنية ستغيّر مسار العملية العسكرية، لذلك نحن نعمل ونتعاون مع الوزارة في هذا المجال». وأوضح أن المجمع الصناعي العسكري «على استعداد لتوفير الطائرات المسيّرة وفقاً لاحتياجات وزارة الدفاع».


مقالات ذات صلة

تقرير: الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات على شركات صينية تدعم روسيا

أوروبا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني شي جينبينغ (رويترز)

تقرير: الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات على شركات صينية تدعم روسيا

كشف تقرير صحافي أن الاتحاد الأوروبي يدرس فرض عقوبات على عدة شركات صينية يُزعم أنها ساعدت شركات روسية في تطوير طائرات مسيرة هجومية تم استخدامها ضد أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (بروكسل )
أوروبا مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسية سيرغي ناريشكين (أرشيفية - رويترز)

مدير المخابرات الروسية: نرغب في «سلام راسخ وطويل الأمد» في أوكرانيا

قال مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسية إن بلاده تعارض تجميد الصراع في أوكرانيا؛ لأن موسكو بحاجة إلى «سلام راسخ وطويل الأمد».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
أوروبا جانب من التجارب الروسية على إطلاق صواريخ لمحاكاة رد نووي (أرشيفية - أ.ف.ب)

ضابط روسي هارب: كنا على استعداد لتنفيذ ضربة نووية في بداية الحرب

قال ضابط روسي هارب إنه في اليوم الذي تم فيه شن الغزو في فبراير 2022 كانت قاعدة الأسلحة النووية التي كان يخدم فيها «في حالة تأهب قتالي كامل».

«الشرق الأوسط» (موسكو)
العالم نظام صاروخي باليستي عابر للقارات من طراز «يارس» الروسي خلال عرض في «الساحة الحمراء» بموسكو يوم 24 يونيو 2020 (رويترز)

كيف كسرت الحرب في أوكرانيا المحرّمات النووية؟

عبر جعل التهديد النووي عادياً، وإعلانه اعتزامه تحويل القنبلة النووية إلى سلاح قابل للاستخدام، نجح بوتين في خلق بيئة مواتية لانتشار أسلحة نووية حول العالم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب يتحدث خلال لقاء تلفزيوني (رويترز)

لمن سينصت ترمب... روبيو أم ماسك؟

قال موقع «بولتيكو» إن كبار المسؤولين الأوروبيين المجتمعين في هاليفاكس للأمن الدولي قلقون بشأن الأشخاص في الدائرة المقربة من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
TT

لماذا يثير الحلف النووي الروسي - الصيني المحتمل مخاوف أميركا وحلفائها؟

وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي على هامش قمة مجموعة العشرين في ريو دي جانيرو بالبرازيل 10 نوفمبر الحالي (أ.ف.ب)

يمثل الصعود العسكري للصين، وبخاصة برنامج تحديث ترسانتها النووية، هاجساً قوياً لدى دوائر صناعة القرار والتحليل السياسي والاستراتيجي في الولايات المتحدة، خصوصاً في ظل التقارب المزداد بين بكين، وموسكو التي تلوح بمواجهة عسكرية مباشرة مع الغرب على خلفية الحرب التي تخوضها حالياً في أوكرانيا.

وفي تحليل نشرته مجلة «ناشونال إنتريست» الأميركية، يتناول ستيفن سيمبالا أستاذ العلوم السياسية في جامعة براندواين العامة بولاية بنسلفانيا الأميركية، ولورانس كورب ضابط البحرية السابق والباحث في شؤون الأمن القومي في كثير من مراكز الأبحاث والجامعات الأميركية، مخاطر التحالف المحتمل للصين وروسيا على الولايات المتحدة وحلفائها.

ويرى الخبراء أن تنفيذ الصين لبرنامجها الطموح لتحديث الأسلحة النووية من شأنه أن يؤدي إلى ظهور عالم يضم 3 قوى نووية عظمى بحلول منتصف ثلاثينات القرن الحالي؛ وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين. في الوقت نفسه، تعزز القوة النووية الصينية المحتملة حجج المعسكر الداعي إلى تحديث الترسانة النووية الأميركية بأكملها.

وأشار أحدث تقرير للجنة الكونغرس المعنية بتقييم الوضع الاستراتيجي للولايات المتحدة والصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إلى ضرورة تغيير استراتيجية الردع الأميركية للتعامل مع بيئة التهديدات النووية خلال الفترة من 2027 إلى 2035. وبحسب اللجنة، فإن النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة والقيم التي يستند إليها يواجه خطر نظام الحكم المستبد في الصين وروسيا. كما أن خطر نشوب صراع عسكري بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا يزداد، وينطوي على احتمال نشوب حرب نووية.

ولمواجهة هذه التحديات الأمنية، أوصت اللجنة الأميركية ببرنامج طموح لتحديث الترسانة النووية والتقليدية الأميركية، مع قدرات فضائية أكثر مرونة للقيام بعمليات عسكرية دفاعية وهجومية، وتوسيع قاعدة الصناعات العسكرية الأميركية وتحسين البنية التحتية النووية. علاوة على ذلك، تحتاج الولايات المتحدة إلى تأمين تفوقها التكنولوجي، وبخاصة في التقنيات العسكرية والأمنية الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية وتحليل البيانات الكبيرة، وفقاً لما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية.

ولم يقترح تقرير اللجنة أرقاماً دقيقة للأسلحة التي تحتاجها الولايات المتحدة ولا أنواعها، لمواجهة صعود الصين قوة نووية منافسة وتحديث الترسانة النووية الروسية. ورغم ذلك، فإن التكلفة المرتبطة بتحديث القوة النووية الأميركية وبنيتها التحتية، بما في ذلك القيادة النووية وأنظمة الاتصالات والسيطرة والدعم السيبراني والفضائي وأنظمة إطلاق الأسلحة النووية وتحسين الدفاع الجوي والصاروخي للولايات المتحدة، يمكن أن تسبب مشكلات كبيرة في الميزانية العامة للولايات المتحدة.

في الوقت نفسه، فالأمر الأكثر أهمية هو قضية الاستراتيجية الأميركية والفهم الأميركي للاستراتيجية العسكرية الصينية والروسية والعكس أيضاً، بما في ذلك الردع النووي أو احتمالات استخدامه الذي يظهر في الخلفية بصورة مثيرة للقلق.

في الوقت نفسه، يرى كل من سيمبالا صاحب كثير من الكتب والمقالات حول قضايا الأمن الدولي، وكورب الذي عمل مساعداً لوزير الدفاع في عهد الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان، أنه من المهم تحديد مدى تنسيق التخطيط العسكري الاستراتيجي الروسي والصيني فيما يتعلق بالردع النووي والبدء باستخدام الأسلحة النووية أو القيام بالضربة الأولى. وقد أظهر الرئيسان الصيني شي جينبينغ والروسي فلاديمير بوتين، تقارباً واضحاً خلال السنوات الأخيرة، في حين تجري الدولتان تدريبات عسكرية مشتركة بصورة منتظمة. ومع ذلك فهذا لا يعني بالضرورة أن هناك شفافية كاملة بين موسكو وبكين بشأن قواتهما النووية أو خططهما الحربية. فالقيادة الروسية والصينية تتفقان على رفض ما تعدّانه هيمنة أميركية، لكن تأثير هذا الرفض المشترك على مستقبل التخطيط العسكري لهما ما زال غامضاً.

ويمكن أن يوفر الحد من التسلح منتدى لزيادة التشاور بين الصين وروسيا، بالإضافة إلى توقعاتهما بشأن الولايات المتحدة. على سبيل المثال، حتى لو زادت الصين ترسانتها النووية الاستراتيجية إلى 1500 رأس حربي موجودة على 700 أو أقل من منصات الإطلاق العابرة للقارات، سيظل الجيش الصيني ضمن حدود معاهدة «ستارت» الدولية للتسلح النووي التي تلتزم بها الولايات المتحدة وروسيا حالياً. في الوقت نفسه، يتشكك البعض في مدى استعداد الصين للمشاركة في محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، حيث كانت هذه المحادثات تجري في الماضي بين الولايات المتحدة وروسيا فقط. ولكي تنضم الصين إلى هذه المحادثات عليها القبول بدرجة معينة من الشفافية التي لم تسمح بها من قبل بشأن ترسانتها النووية.

وحاول الخبيران الاستراتيجيان سيمبالا وكورب في تحليلهما وضع معايير تشكيل نظام عالمي ذي 3 قوى عظمى نووية، من خلال وضع تصور مستقبلي لنشر القوات النووية الاستراتيجية الأميركية والروسية والصينية، مع نشر كل منها أسلحتها النووية عبر مجموعة متنوعة من منصات الإطلاق البرية والبحرية والجوية. ويظهر التباين الحتمي بين الدول الثلاث بسبب الاختلاف الشديد بين الإعدادات الجيوستراتيجية والأجندات السياسة للقوى الثلاث. كما أن خطط تحديث القوة النووية للدول الثلاث ما زالت رهن الإعداد. لكن من المؤكد أن الولايات المتحدة وروسيا ستواصلان خططهما لتحديث صواريخهما الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية التي تطلق من الغواصات والقاذفات الثقيلة بأجيال أحدث من منصات الإطلاق في كل فئة، في حين يظل الغموض يحيط بخطط الصين للتحديث.

ورغم أن الولايات المتحدة تمتلك ترسانة نووية تتفوق بشدة على ترسانتي روسيا والصين، فإن هذا التفوق يتآكل بشدة عند جمع الترسانتين الروسية والصينية معاً. فالولايات المتحدة تمتلك حالياً 3708 رؤوس نووية استراتيجية، في حين تمتلك روسيا 2822 رأساً، والصين 440 رأساً. علاوة على ذلك، فالدول الثلاث تقوم بتحديث ترساناتها النووية، في حين يمكن أن يصل حجم ترسانة الأسلحة النووية الاستراتيجية الصينية إلى 1000 سلاح بحلول 2030.

ولكن السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إلى أي مدى ستفقد الولايات المتحدة تفوقها إذا واجهت هجوماً مشتركاً محتملاً من جانب روسيا والصين مقارنة بتفوقها في حال التعامل مع كل دولة منهما على حدة؟ ولا توجد إجابة فورية واضحة عن هذا السؤال، ولكنه يثير قضايا سياسية واستراتيجية مهمة.

على سبيل المثال، ما الذي يدفع الصين للانضمام إلى الضربة النووية الروسية الأولى ضد الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي (ناتو)؟ ولا بد أن نتخيل سيناريو متطرفاً، حيث تتحول الأزمات المتزامنة في أوروبا وآسيا إلى أزمات حادة، فتتحول الحرب الروسية - الأوكرانية إلى مواجهة بين روسيا وحلف «الناتو»، في الوقت الذي تتحرك فيه الصين للاستيلاء على تايوان، مع تصدي الولايات المتحدة لمثل هذه المحاولة.

وحتى في هذه الحالة المتطرفة، لا شك أن الصين تفضل تسوية الأمور مع تايوان بشروطها الخاصة وباستخدام القوات التقليدية. كما أنها لن تستفيد من الاشتراك في حرب بوتين النووية مع «الناتو». بل على العكس من ذلك، أشارت الصين حتى الآن بوضوح تام إلى روسيا بأن القيادة الصينية تعارض أي استخدام نووي أولاً في أوكرانيا أو ضد حلف شمال الأطلسي. والواقع أن العلاقات الاقتصادية الصينية مع الولايات المتحدة وأوروبا واسعة النطاق.

وليس لدى الصين أي خطة لتحويل الاقتصادات الغربية إلى أنقاض. فضلاً عن ذلك، فإن الرد النووي للولايات المتحدة و«الناتو» على الضربة الروسية الأولى يمكن أن يشكل مخاطر فورية على سلامة وأمن الصين.

وإذا كان مخططو الاستراتيجية الأميركية يستبعدون اشتراك روسيا والصين في توجيه ضربة نووية أولى إلى الولايات المتحدة، فإن حجم القوة المشتركة للدولتين قد يوفر قدراً من القوة التفاوضية في مواجهة حلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة.

وربما تدعم الصين وروسيا صورة كل منهما للأخرى بوصفها دولة نووية آمنة في مواجهة الضغوط الأميركية أو حلفائها لصالح تايوان أو أوكرانيا. ولكن إذا كان الأمر كذلك، فمن المرجح أن توفر «الفجوة» بين أعداد الأسلحة النووية غير الاستراتيجية أو التكتيكية التي تحتفظ بها روسيا والصين والموجودة في المسرح المباشر للعمليات العسكرية، مقارنة بتلك المتاحة للولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي، عنصر ردع ضد أي تصعيد تقليدي من جانب الولايات المتحدة ضد أي من الدولتين.

أخيراً، يضيف ظهور الصين قوة نووية عظمى تعقيداً إلى التحدي المتمثل في إدارة الاستقرار الاستراتيجي النووي. ومع ذلك، فإن هذا لا يمنع تطوير سياسات واستراتيجيات إبداعية لتحقيق استقرار الردع، والحد من الأسلحة النووية، ودعم نظام منع الانتشار، وتجنب الحرب النووية. ولا يمكن فهم الردع النووي للصين بمعزل عن تحديث قوتها التقليدية ورغبتها في التصدي للنظام الدولي القائم على القواعد التي تفضلها الولايات المتحدة وحلفاؤها في آسيا. في الوقت نفسه، فإن التحالف العسكري والأمني بين الصين وروسيا مؤقت، وليس وجودياً. فالتوافق بين الأهداف العالمية لكل من الصين وروسيا ليس كاملاً، لكن هذا التحالف يظل تهديداً خطيراً للهيمنة الأميركية والغربية على النظام العالمي.