غلاف الكتاب العربي في سوق نشر ضعيفة

ينافس فنياً رغم محدودية الإمكانات (1 من 2)

«دار الساقي» كانت أغلفتها بقرار جماعي
«دار الساقي» كانت أغلفتها بقرار جماعي
TT

غلاف الكتاب العربي في سوق نشر ضعيفة

«دار الساقي» كانت أغلفتها بقرار جماعي
«دار الساقي» كانت أغلفتها بقرار جماعي

يزداد اهتمام دور النشر العربية بأغلفة كتبها، مع مجاراتها لتطور فنون التصميم في العالم أجمع. لكن الناشرين اللبنانيين يؤكدون أن الاهتمام بالأغلفة ليس جديداً، فثمة تجارب عربية مهمة في القرن الماضي، والمصممون ليسوا مقطوعين من شجرة، بل لهم جذور ومصادر إلهام ضاربة في التاريخ.
يتفق الناشرون على أن أغلفة الكتب التي يقدمونها للقراء، تبلور بمرور الزمن، وبفعل التراكم، هوية الدار التي يديرونها. ومع ذلك، لا يزال الكتاب العربي من حيث التصميم والغلاف أقل جمالية من الكتب الغربية، رغم محاولات حثيثة لإضفاء لمسات فنية عليه. «هذا عائد إلى ضعف سوق النشر العربية مقارنة بالغرب. هناك فرق بين السوقين، فحين تتطور السوق تطور معها أدواتها». يقول الشاعر الفلسطيني خالد سليمان الناصري، صاحب «منشورات المتوسط»: «إن الغلاف له جانب تسويقي، وهو يزدهر في أزمنة الرفاهية والبحبوحة».
وتدفع الدور العربية ما بين 100 و500 دولار لمصمم الغلاف. وهو مبلغ زهيد إذا ما قيس بما تدفعه دار فرنسية مثل «روبير لافون» على سبيل المثال، التي تنتج أكثر من 200 كتاب في السنة. إذ تقول مديرة الدار إلسا لافون: «إن الغلاف الواحد يكلف الدار ما بين 600 يورو و5 آلاف يورو». أي أن السعر يبدأ حيث تنتهي ميزانية الغلاف العربي. وتنفق دار «روبير لافون» أكثر من 300 ألف يورو سنوياً على الرسامين، وتوظف 4 مصممي غرافيك بدوام كامل، وعشرات المصممين المستقلين.

غلاف الكتاب اللبناني ينهل من المخطوطات كما التكنولوجيا
«غلاف رديء قد يتسبب في سوء تسويق كتاب جيد جداً»، تقول رانيا المعلم، مديرة تحرير «دار الساقي»، شارحة لنا كيف أن الغلاف الجذاب لا يقل أهمية عن العنوان. فأن تتمكن «دار النشر» من التوصل إلى إنتاج أغلفة كتب تبقى في ذاكرة القراء لهو عنصر أساسي في صناعة الكتاب. لهذا فإن «دار الساقي» لا تستخف باختيار أغلفتها، بل تعطيها حيزاً مهماً من وقتها وعنايتها. بعد أن يقدم المصمم اقتراحه، تعقد الدار اجتماعاً تشارك فيه هيئة التحرير وقسم التوزيع، لأن الموزع يعرف ذوق القارئ. «نحن ندرك أن الكتاب في النهاية هو سلعة، يجب أن يقدم بشكل لائق. فالغلاف هو الواجهة، وهو أول ما تقع عليه عين القارئ، إن لم يستحسنه انصرف عنه، بصرف النظر عن مضمونه». لكن في الوقت نفسه، تشرح رانيا المعلم بأن «ثمة حرصاً على عدم رفع تكلفة الغلاف، لأن ذلك ينعكس ارتفاعاً في سعر الكتاب، ويحمّل القارئ أعباء ترهقه. أي أن المسألة تحتاج موازنة، لكن من دون مساومة بين الجمالية، والجاذبية، والتكلفة المعقولة».
«الجديد» كلاسيكية ولكن...
هل بهدف التوفير، استخدمت «دار الجديد» منذ تأسيسها الأغلفة المتقشفة، الكلاسيكية، البسيطة والأنيقة، التي تتبع خطاً واحداً؟ تجيب صاحبة الدار رشا الأمير، بأن هذا الخيار لم يكن سببه التوفير، ولا الاستسهال، لأن العمل على تصميم وتطوير هذا الغلاف الأبيض بخطوط حمراء، مستمر ودائم، وليس مستقراً على حال واحدة. «أردنا غلافاً يشبه شخصية الدار. وعندنا نمطان؛ واحد بالأبيض مع خطوط حمراء، هو الذي يغلّف دواوين أنسي الحاج ومحمود درويش وكتب عبد الله العلايلي، وهذا حاول كثيرون تقليده على بساطته. ونمط آخر أكثر تنوعاً، نلجأ من خلاله إلى رسم أو صورة أو تصميم يخلط بين أكثر من عنصر». وتعتبر رشا الأمير أن الدور العربية التي رسمت لنفسها خطاً ومشت عليه، حيث يمكننا معرفة كتبها من أغلفتها، قليلة جداً. عشرات الأسماء من مصممين، ورسامين، وخطاطين، وفنانين، تعاونت معهم «دار الجديد» منذ انطلاقتها، من بين آخرهم الأردني تامر الأحمر، الذي صمم النسخة الأولى لغلاف كتاب إسكندر رياشي «نسوان من لبنان»، والفنان المصري أحمد بدر.
الغلاف العربي ضارب في القدم
رشا الأمير تقول إن «مرجعيتنا في صناعة الأغلفة تعود إلى أجدادنا أيام كانوا يجلّدون المخطوطات، وتلك كانت حرفة فنية». ولا يزال التجليد موجوداً، وإن قلّ عدد العاملين في المهنة. وتعود الأمير إلى المخطوطات وهوامشها لأنها تحب أن تستوحي منها في صناعة كتبها، وترى في ذلك فائدة جليلة.
وتلفت مديرة «دار الآداب» رنا إدريس إلى أن اهتمام دارها بالأغلفة بدأ من يوم أسسها والدها الأديب الراحل سهيل إدريس. «كانت للمصريين تجربة مهمة في هذا المجال في الستينات والسبعينات. وارتأى والدي أن يصمم بعض أغلفته في مصر، أيام إصدار كتب عدلي رزق الله وإدوارد الخراط. هذا يظهر مدى الاهتمام بالغلاف، رغم أن التواصل لم يكن سهلاً ويحتاج أياماً».
نجاح طاهر وهوية «الآداب»
تروي رنا إدريس أن الروائية حنان الشيخ جاءت إلى «دار الآداب» نهاية الثمانينات، ومعها مخطوطة روايتها «مسك الغزال»: «يومها، أخبرتنا أنها تحب رسومات الفنانة نجاح طاهر، وتريدها أن تصمم لها الغلاف. من حينها، والفنانة طاهر تصمم أغلفتنا، وتعطي لكتبنا هويتها الفنية».
تعود رنا إدريس بالذاكرة إلى أيام كانت تعمل فيها الفنانة نجاح طاهر في غرفة زجاجية، خصصتها كمشغل لها في منزلها في الرملة البيضاء. هناك كانت السيدتان تناقشان معاً أمر أغلفة كتب «دار الآداب»، قبل أن تنتقل نجاح طاهر إلى مقرها الجديد في «الزاوية». تقول رنا إدريس: «نجاح فنانةٌ تقرأ النص قبل أن تستوحي غلافها. عندها تذوق أدبي رفيع. ونحن في (دار الآداب) نحب هذا، وأنا شخصياً أحب شغل نجاح، لأنها أعطت لـ(دار الآداب) طابعها الخاص. صارت لكتبنا بفضل أغلفتها صيغة معينة، وشخصية خاصة».
تتميز «منشورات المتوسط» بأن مؤسسها وصاحبها خالد سليمان الناصري، إضافة إلى أنه شاعر، هو مصمم أيضاً، صمم كتباً لدور عربية كثيرة، منها «دار المدى»، ثم عمل مع دور نشر إيطالية، قبل أن تصبح له داره، ويعنى بأغلفتها. ويعتبر الناصري أن «المتوسط» تمكنت من أن تجعل الغلاف يُحكى عنه، ويخرج من نمطيته. الغلاف بالنسبة له قد يكون سبباً لجذب القراء. فغلاف كتاب «سيمفونية الموتى» لصاحبه المؤلف الإيراني غير المعروف، عباس معروفي، كان سبباً في بيع الكتاب ورواجه. الغلاف عبارة عن صفحة نوتات موسيقية على شكل أجساد بشرية، لفتت النظر بشكل كبير، وهناك من طلب أن يستخدم الغلاف كبوستر. لكن الناصري لا ينكر أنه بعد الفرح بالغلاف، إما أن يكون النص على مستوى جيد وإما لا يكون.
«المتوسط» على ضفتين
مع تجربته على الضفتين، يعتقد الناصري أن بعض الدور الإيطالية لها أغلفة ممتازة وعظيمة، لكن ثمة دوراً أخرى لا تلقي بالاً للأمر. أما أجمل الأغلفة التي أقيمت حولها دراسات فهي أغلفة «دار بنغوين» الإنجليزية، و«يجب ألا نغمط من سبقونا حقهم. ففي مصر تجربة مهمة مع محيي الدين اللباد وحلمي التوني، و(دار الريس) قدمت أغلفة مهمة أيضاً».
موضوع الغلاف تقام حوله الأطاريح والأبحاث. ومع هذا، يلفت صاحب «منشورات المتوسط» إلى أنه تخصص غير موجود في الجامعات العربية، باستثناء فرع واحد في جامعة الرباط بالمغرب.
غلاف الكتاب يتألف من تركيبة معقدة من العناصر، حسب رشا الأمير. وهو فن له تطوره التاريخي، وعناصره المتغيرة، وتحولاته في الزمن الذي نحن فيه؛ حيث دخلت على صناعته التكنولوجيا بشكل كبير. وهي تأنف من الأغلفة البشعة التي تُصنع بروح تجارية، وتقول: «حين أضطر إلى قراءة كتاب غلافه بشع، أنزع الغلاف وأرميه في أول مزبلة، بكل راحة ضمير، كي أتمكن من إكمال القراءة. لست مضطرة إلى تحمل ألوان وأشكال مزعجة».

من يختار الغلاف؟
تميل دور النشر العربية عموماً للتفاهم مع الكاتب حول الغلاف الذي تقرره. هي تعرف أفضل منه كيف يجب أن يكون العنوان، أو ما هو شكل الغلاف الأكثر جذباً. وإذا كانت «دار الساقي» تقرر مع فريق عملها شكل الغلاف، وكذلك «دار الجديد»، و«دار الآداب» لها فنانتها، فإن الكاتب تبقى له كلمته. أما الناصري فيقول إن الكلمة النهائية حول الغلاف في «منشورات المتوسط» تعود للدار: «بالنسبة لي، أعتقد أنني أعرف أكثر من الكاتب ما يمكن أن يساعد على لفت النظر إلى الكتاب، إلا إذا كان للكاتب رأي آخر، وتصميم استطاع أن يقنع الدار به. أما إذا لم نقتنع فالقرار للدار».

الكتب المترجمة... أي أغلفة؟
بينما تعتبر «دار الآداب» أن الكتاب المترجم يجب أن ينقل إلى العربية بروح مختلفة وبغلاف خاص، لأنه يعيش حياة ثانية حين ينتقل إلى لغة أخرى، نجد «دار الجديد» أقل تشدداً، وتترك الأمر لظروفه. «في عمليات النشر، كثير من الاتفاقات والتفاهمات التي تتم حول تفاصيل صغيرة، أو أمور أكبر، ومن بينها الغلاف، الذي يمكن أن يتغير، أو يتم الاحتفاظ به عند الترجمة»، كما تقول الأمير. وهو أيضاً رأي «منشورات المتوسط» التي تعمل على أغلفة جديدة لترجماتها إلى اللغة العربية: «لكن يحدث أن يكون الاحتفاظ بغلاف الكتاب الأصل أكثر جذباً للقارئ، خصوصاً في حال الكتب المشهورة». وتشرح لنا رنا إدريس بأن استخدام غلاف الكتاب الأجنبي عند ترجمته إلى العربية ليس بالأمر المتاح دائماً. شراء حقوق الترجمة والنشر لا يتضمن حقوق استعمال الغلاف: «حين استفسرت عن حقوق استخدام غلاف رواية (أيها العالم الجميل أين أنت؟) للروائية الشهيرة سالي روني، أُخبرت أن عليّ أن أتواصل مع 3 جهات مختلفة: الرسام، والمصمم، ومن طبع الغلاف، وأدفع لكل منهم حقوقه، هذا عدا الجهد المطلوب للمراسلة والنقاشات». وتضيف: «مع سوق النشر العربية الضعيفة التي تعاني فوضى القرصنة، لا يمكن لأي دار عربية أن تدفع على الغلاف، كما دار نشر أجنبية. من بين كل 10 كتب مترجمة، بالكاد تباع بشكل جيد 3 عناوين. ومن بين كل 20 كتاباً عربياً جديداً يطبع، نعرف سلفاً أن عنواناً أو اثنين لا أكثر، يمكن أن يصلا إلى الطبعة الثانية».



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.