نساء يرتدين ملابس حمراء فضفاضة داكنة ذات أساور مذهَّبة اصطففن للترحيب بالضيوف، وكأنهن خرجن للتوّ من فيلم «بن هور» الملحمي الهوليودي، إنتاج عام 1959 عن الإمبراطورية الرومانية المليء بعربات السباق التي تجرُّها الخيول. النساء اصطففن لأخذ معطفك ثم يصحبنك لزميل يرتدي زياً آخر مستوحى من الفيلم نفسه، ليصحبك بدوره من الباب إلى المسرح.
انس كل ما ذكرت. المكان ليس سوى غرفة طعام، وإن كانت مبالغة في بذخها المسرحي الغني بالألوان والأقمشة المزركشة بحيث تبدو جزءاً من مسرح.
هذا المكان هو مطعم «باكاناليا» Baccanalia الجديد الواقع في «مايفير» أرقى أحياء لندن، لكن جو المطعم أبعد ما يكون عن ذلك المزاج القاتم لمحيطه، إذ يبدو كسيارة مهرّج مزركشة تسير وسط موكب جنائزي، ولذلك فإن الوجود في هذا المكان يجعلك إما تستنكر هذا المشهد المتناقض العجيب، أو تستسلم لهذا العرض الغامر وتقف لالتقاط بعض صور «سيلفي» إلى جوار كل من يقابلك.
الخيار الأخير أغلى قليلاً، إذ إن تكلفة دخول المكان لتناول طبق من المعكرونة مع الكمأة السوداء وصلصة الحساء الكريمية تبلغ 162 دولاراً.
هل أنت مستعدّ للحلوى؟ فقطعة كبيرة من حلوى تيراميسو ستكلفك 42 دولاراً، وسيجري قطع الجزء العلوي من الشيكولاتة لك بواسطة نادل باستخدام ملعقة.
كل شيء في المكان يبدو جريئاً، بحيث يجعل المارة يستنكرون أجواءه الاحتفالية الشرهة، وهو ما دفع أصحاب المطاعم المنافِسة القريبة للإقدام على تصورات أكثر جرأة، ولذلك يجد رواد المطعم صعوبة في التركيز على طعامهم، وهي مهمة أشبه بالتحدي في غرفة تعج بالندل الذين يرتدون ملابس تنكرية، وصولاً إلى صنادلهم، ويعرضون ألواناً من الفنون تكفي لملء عدد ليس بالقليل من الغرف في متحف.
يتضمن المكان خمسة منحوتات بيضاء ضخمة وخيالية، من إبداع أنامل الفنان داميان هيرست، تطل من أعلى، أحدها تجسد حيوان وحيد القرن الطائر يحمل عاشقين عاريين، يستعدان للنعيم في الجو. هناك أيضاً عمل يمتد من الأرض إلى السقف يحاكي لوحة توماس كوتور التي رسمها عام 1847 والتي حملت عنوان «الرومان في زمن الاضمحلال». تبدو اللوحة قريبة إلى حد كبير من العمل الأصلي، باستثناء أن عدداً قليلاً من شخوصها ظهروا في ملابسهم الكلاسيكية يستخدمون أجهزة الكمبيوتر المتنقلة والهواتف المحمولة. كان المقصود في العمل الأصلي الذي أبدعه كوتور هو توبيخ الرومان، الذين بدا على ملامحهم الملل والإجهاد جراء حفلات العربدة، وهو ما أدى بإمبراطوريتهم في النهاية إلى السقوط.
لذا فإن النسخة الحديثة تناولت موضوع المطعم المستوحى من الحضارة التي اخترعت كل جديد، ليس لمشاهدة كل شيء في ذلك المكان فحسب، بل أيضاً لعرض صوره على منصة «إنستغرام».
في الوقت الحاضر تعاني بريطانيا من صعوبات مالية حظيت بتغطية إعلامية واسعة تمثلت في زيادة الضرائب، وخفض الإنفاق العام، والتضخم الذي فاق 10 %، وارتفاع تكاليف الوقود وما وصف بأنه فترة «ركود قصيرة وضحلة»، مما يهدد بالأسوأ. كذلك كانت هناك إضرابات من قِبل سائقي سيارات الإسعاف وموظفي مراقبة الحدود وعمال النقل. وضاعف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من مشكلات سلاسل التوريد التي أصابت البلدان في جميع أنحاء العالم.
وصادف اليوم الذي افتُتح فيه مطعم «باكاناليا» في الرابع والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني)، اليوم الذي أعلن فيه جيريمي هانت، وزير الخزانة، في خطاب ألقاه أمام البرلمان، فرض زيادات ضريبية تقارب 30 مليار دولار، و35 مليار دولار تقليصاً في الإنفاق.
في أوائل نوفمبر، تساءلت صحيفة «إيفنينغ ستاندارد» اليومية، في تقرير إخباري عن المطاعم الجديدة، عما إذا كان مطعم «باكاناليا» قد بالغ في بهرجته خلال أزمة اقتصادية صعبة ومضطربة. وعلّقت مارسيلا مارتينيلي، المصممة التي زارت «باكاناليا» في إحدى حفلات العشاء، قائلة «أزمة المعيشة مهمة، ولكن إذا كنت تستطيع تحملها، فزيارة المطعم هي تجربة. ما يهم في وقت كهذا هو أن يقدموا طبق معكرونة جيداً».
في الوقت الذي كانت فيه المطاعم تبحث عن طاقم الخدمة في أوج أزمة العمالة المنتشرة، كان مطعم «باكاناليا» يعج بالعاملين (الأجر العالي هو السر، حسبما أوضح أحدهم) لتشكل مجموعة فعالة ومفيدة، يمكن التعرف عليها من خلال تسلسل هرمي مفصل للأزياء والدبابيس التي يبدو أنها تعكس التقسيم الطبقي لروما القديمة.
في الجزء الأدنى من تسلسل هرم العاملين تجد الرجال والنساء الذين يقدمون الطعام والذين يرتدون ملابس العمل، ثم يرتفع السلم الوظيفي من هناك حيث التحول إلى الملابس الغربية الأنيقة لمن هم في قمة السلم الوظيفي أو بالقرب منه. مساعد مدير البار، على سبيل المثال، يرتدي سترة رياضية من المخمل، ومدير البار يرتدي نسخة مزدوجة الصدر من الثوب نفسه لكنها أكثر فخامة.
شئنا أم أبينا، رواد المطعم هم تلقائياً جزء من هذا النظام الطبقي. فهم أنفسهم نسخ محدثة ممن جرى تصويرهم على الجداريات، لكن مصير الإمبراطورية الرومانية، حسبما صورها بولو، مؤلف الكتاب سالف الذكر، يجب أن يبعث القلق في نفس كل من يرتاد المكان.
*خدمة «نيويورك تايمز»