صعود الصين كقوة عظمى يمثل نقطة فاصلة في العقود الأخيرة؛ حيث استطاعت أن تعيد النظر في موازين القوى الفكرية في العالم، بما في ذلك علاقتنا الجدلية مع الغرب، أو قل ذلك «الآخر» الذي يقطننا منذ قرون.
ويعد كتاب طه حسين «مستقبل الثقافة في مصر» عام 1938، أحد أهم العلامات التي ساهمت في تأكيد هذه العلاقة مع أوروبا تحديداً، ومن ثم فإن مراجعة القضايا التي أثارها العميد تصبح ضرورة، قبل القيام بأي مغامرة فكرية جديدة في القرن الحادي والعشرين، خاصة أن الصيغ الفكرية التي سادت في القرن الماضي مثل صيغة (إما... أو) سقطت مع عصر العولمة حيث يزداد العالم تقارباً وانكماشاً، وبات من الصعب اليوم استبدال الشرق الجغرافي بالغرب التاريخي.
من أبرز القضايا التي أكدها طه حسين (1889 – 1973) في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» أن «العقل المصري القديم ليس عقلاً شرقياً إذا فهم من الشرق الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار» (حسين: ص – 22» وإنما هو عقل بحر متوسطي «إن تأثر بشيء، فإنما يتأثر بالبحر الأبيض المتوسط» (حسين: ص – 19).
هذه القضية التي قتلت بحثاً على مدار قرن كامل ليست هي الأهم اليوم، في تصوري.
وإنما «حيرة المثقف» طه حسين وقتئذ، ودهشته من موقف المصريين وقناعتهم بأنهم شرقيون، بل من نظرة الأوروبيين أيضاً التي لا تختلف كثيراً عن موقف المصريين لأنفسهم!
يقول: «يرى المصريون أنفسهم أنهم شرقيون، وهم لا يفهمون من الشرق معناه الجغرافي اليسير وحده، بل معناه العقلي والثقافي، فهم يرون أنفسهم أقرب إلى الهندي والصيني والياباني منهم إلى اليوناني والإيطالي والفرنسي» (حسين: ص 22)
من جهة أخرى، فإن الأوروبيين «يبذلون الجهود الخصبة الشاقة في تحقيق الصلات بين المصريين القدماء والحضارة اليونانية التي هي أصل حضارتهم، ثم هم بعد هذا كله يعرضون عن الحق، ويتجاهلون هذه الأوليات، ويرون في سيرتهم وسياستهم أن مصر جزء من الشرق، وأن المصريين فريق من الشرقيين» (حسين: ص 24).
تبصرات كورنو الثاقبة
على الضفة الأخرى من البحر المتوسط، وتحديداً في فرنسا التي فتن بها طه حسين، كان يعمل «أوغسطين كورنو» (1801 – 1877م)، أحد الآباء المؤسسين لما بعد الحداثة في الفلسفة والتاريخ والاقتصاد والسياسة، على فك طلاسم هذا اللغز مبكراً، الذي تحير في فهمه عميد الأدب العربي عام 1938.
وعلى الرغم من أن كتاب «كورنو» الصادر عام 1861م «مقدمة في الأفكار الأساسية في العلوم والتاريخ» (وهو المصدر في مقالنا)
Traite de l›enchainement des idees fondamentales dans les sciences et dans l›histoire.
لم يكن مخصصاً لمصر، لأن اهتمامه انصبّ على فلسفة التاريخ والتاريخ العالمي المقارن، فإن تبصراته الثاقبة فيما يتعلق بـ«مستقبل الماضي» و«تاريخ المستقبل»، حيث شكلت مصر أحد محاور هذا التاريخ، كانت دقيقة للغاية.
فقد طرح في منتصف القرن التاسع عشر تقسيماً لمستقبل العالم، كان أقرب إلى الأساطير والأوهام من وجهة نظر معاصريه، تسوده «الصين» كقوة عظمى في الشرق، والولايات المتحدة كقوة عظمى في الغرب، وهو ما تحقق بالفعل في القرن الحادي والعشرين.
رأى «كورنو» التشابه الكبير بين مصر والصين قديماً، على العكس تماماً مما رآه طه حسين؛ حيث يشير كورنو إلى «تشابه الكتابة الإيديوغرافية في مصر والصين، التي تختلف عن الكتابة الأبجدية». (كورنو: ص 101). كما أن «الأسرات الحاكمة كان يخلف بعضها بعضاً في كل من مصر والصين عبر آلاف السنين، دون تغيير نظام المؤسسات الوطنية بشكل عميق». (كورنو: ص – 468)
«وباستثناء الإغريق والهنود والعرب، لم يكن لدى أي شعب قديم آخر اهتمام بالعلوم الرياضية والفلكية، مثل الصين ومصر» (كورنو: ص 360، 361).
بل إن الميل المشترك «لدى مصر والصين إلى علم التنجيم والملاحظات الدقيقة للظواهر الفلكية، إضافة إلى الكلدانيين، يختلف تماماً عن الميل لدى الإغريق فيما يخص علم الفلك الذي استخدم أساساً في أغراض التجارة» (كورنو: ص 361).
نقطة التقاء وافتراق بين حسين وكورنو
من المفارقات اللافتة أن النقطة الوحيدة التي يلتقي فيها كورنو مع العميد هي نفسها مصدر الفرقة بينهما! ذلك أن «مصر الفرعونية تشكل الحلقة الأولى في سلسلة الحضارات الغربية» (كورنو: ص 362)، لكنها لأسباب كثيرة تم استيعابها لاحقاً داخل المركزية الأوروبية كما يقول كورنو، وبالتالي لم تستطع أن تظل القوة المقابلة للصين في الشرق، أو قل؛ لقد اضطرت مصر إلى التوقف عن مسايرة الحضارة الصينية في صيرورتها التاريخية حتى اليوم، كقوة مستقلة لها خصوصيتها.
ويري كورنو أن أهم هذه الأسباب هي «أن الحضارة المصرية لم تكن معزولة جغرافياً مثل الحضارة الصينية، ولم تستطع أن تقاوم بلا توقف هجمات الجيوش الغازية مثل الحضارة الصينية، لذا انتهت حضارة مصر الفرعونية منذ فترة طويلة، لكنها تركت الآثار التي صمدت أمام الزمن، والأكثر مجداً من آثارها هي الإسهامات الثقافية والعلمية والفنية التي قدمتها لليهود واليونانيين، والتي كان لها أبلغ الأثر في التحضير لظهور الحضارة الأوروبية» (كورنو: ص 359، 360).
ويتبنى كورنو فكرة وجود قوتين دائماً في مسار التاريخ الإنساني، ويتشابه في ذلك إلى حد ما مع «ليبنتز» و «فولتير»، و«هيغل»، حيث تميزت مسارح الحضارة الإنسانية بسمة أساسية، هي «التناقض بين الجزأين الشرقي والغربي للعالم القديم».
بمعنى أنه لم يكن مطروحاً من قبل أن يكون هناك مسرح وسط أو «بين بين»، رغم تأكيد كورنو على ما قامت به «مصر وسوريا والفينيقيون وبين النهرين والكلدان والعرب في شبه الجزيرة العربية؛ حيث شكلوا نقطة الالتحام الحقيقية بين الشرق والغرب، في وقت من الأوقات، لكن كل ذلك سوف يتطور في العصور التالية (كورنو: ص 362).
ربما يفسر هذا جزئياً، في تصوري، لماذا يرسخ في وعي المصريين العميق حتى اليوم أنهم شرقيون، من الناحية الجغرافية والذهنية أيضاً، وهو ما انتقده طه حسين في كتابهً.
النموذج الغربي – حسب كورنو - يطبع كل شيء بطابعه ويستوعبه بالكامل، وإن حمل بعض السمات الشرقية، مثل روسيا والهند أيضاً، وهو ما يختلف في حال الصين اختلافاً جذرياً حيث تبرز خصوصية الصين ككتلة واحدة منسجمة تحمل سمات شرقية أصيلة.
وتتميز الصين بأنها تستطيع أن تفيد من الآخر أياً كان هذا الآخر، وأن تستوعب منجزاته وتهضم أفكاره، ثم تفرز هذا الوافد شيئاً صينياً خالصاً وفقاً لنموذجها الحضاري الخاص.
علاقات تتقاطع في الشرق الأوسط
عودة ظهور الصين كقوة عظمى في عصرنا الراهن، وتغلغلها في مسام جهات العالم الأربع، أوشكت أن تغير مفهوم العلاقات بين الشرق والغرب، التي شغلت معظم المؤرخين والمفكرين في القرون السابقة، بما في ذلك «أوغسطين كورنو» و«طه حسين»، فضلاً عن تغيير العلاقات الرأسية بين الشمال والجنوب في عصر العولمة، والعلاقات الأفقية الناشئة، التي تتشكل في رحم العالم الآن، وتتقاطع مجدداً في الشرق الأوسط، ولا سيما المنطقة العربية، وهو تحول تاريخي كبير.
فكيف نستطيع اقتناص هذه الفرصة التاريخية من جديد، وابتكار صيغة جديدة كـ«مركز» التقاء الأقطاب المتعددة، يساهم في ملء الفجوات والثغرات وبناء جسور التواصل العالمي؟
لا أنسى أبداً أثناء العمل على كتابنا المشترك «العالم أفقياً... أميركا والصين والسعودية»، الدكتور عثمان الصيني وأنا (صدر عام 2019) ما قاله مهندس العلاقات التاريخية بين أميركا والصين وأكبر الخبراء الاستراتيجيين في العالم، هنري كيسنجر، إن «الثغرات الثقافية» بين أميركا والصين ستشكل دائماً مصدراً للخلافات السياسية بينهما؛ حيث اعتبر أن «الثقافة» هي المدخل الصحيح لفهم الخصوصيات الجوهرية بين القوتين العظميين.
هل نحن على استعداد للقيام بهذا الدور التاريخي، خاصة أن الصين تقدم لنا اليوم نموذجاً مغايراً يتحدى معارفنا التقليدية؟
* باحث مصري