يحتدم الجدل منذ وقت غير قصير بين المحللين السياسيين والخبراء الأمنيين حول أنجع السبل للتصدي للإرهاب واستئصاله.. فثمة فريق يؤمن بأنه ليس هناك إطلاقا ما يبرّر الجرائم الإرهابية، لا سيما تلك التي تنطوي على فظائع صادمة كتلك التي يقترفها تنظيم «داعش»، وقبله العمليات الخطرة ضد المدنيين التي ادعى مسؤوليته عنها تنظيم «القاعدة» كهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2011 في نيويورك وواشنطن.
وفي المقابل، يرى آخرون أن تجفيف منابع الإرهاب لا بد أن يشمل مقاربات سياسية عقلانية وواقعية، ويعد أن تحليل الجذور الدينية والفكرية والبيئية والسياسية والمصلحية للحركات والتنظيمات الإرهابية خطوة لا بد منها لفهم كيفية تحوّل الإحباط والغضب إلى حركات تنتهج العنف، أو كيف تعمد بعض الجماعات إلى تشويه المفاهيم التعليمية والتلقينية عند الشباب فتحرفهم عن الفهم السليم للدين وتجندهم لخدمة مخططاتها المتطرفة.
كثر الحديث عن تنظيم «داعش» المتطرف وعن سبل محاربته. وحتى اليوم، ركّز التحالف الغربي والعربي من جهته على ضرب قوة التنظيم العسكرية في العراق من خلال حرب جوية مع دعم أرضي تولته قوات عراقية مسلّحة يغلب عليها الطابع الطائفي. وأعلنت «خلية الصقور» الاستخباراتية، الخميس الماضي، بحسب موقع «المدى» العراقي، عن مقتل أكثر من 53 عنصرًا في التنظيم، بينهم قياديون؛ أبرزهم المسؤول العسكري للتنظيم ومسؤول تجهيز الانتحاريين، بقصف جوي عراقي في ثلاث عمليات منفصلة غرب مدينة الرمادي عاصمة محافظة الأنبار في غرب العراق.
غير أن هذا النهج، الذي قد يبدو في الظاهر مناسبًا للجميع، مع إصابة كثير من مسؤولي التنظيم، لا يأخذ في الاعتبار - إلا قليلاً - الواقع القائل إن «داعش» تنظيم إرهابي لها حساباته ومخطّطاته الخاصة، وإن الإرهاب هو أسلوب من أساليب الحرب التي تستخدمها تنظيمات من هذا النوع لتحقيق أهداف سياسية شتى. ذلك أن قتال «داعش» في ميدان المعركة فقط ستكون له نتائج محدودة ما لم يترافق، فعليًا، مع عملية سياسية شاملة.
لقد تمكن تنظيم داعش من تأمين ديمومته، لا بل شهد كثيرا من التغيّرات والتحوّلات إبّان الحرب الدائرة في سوريا، وأيضا نتيجة الفراغ الأمني الذي أعقب رحيل القوات الأميركية الأخيرة من العراق. بالنسبة لكثيرين، يتمثل الهدف الأساسي للتنظيم في «إقامة دولة إسلامية» - وفق مفهومه طبعًا - في مناطق الكثافة السنّيّة في العراق وفي سوريا، إلا أنه في شهر أبريل (نيسان) الماضي، كشفت مجلة «دير شبيغل» الألمانية ملفّات سرّية يملكها سمير عبد محمد الخلفاوي، المعروف أيضا باسم «حجي أبو بكر»، وهو عضو في تنظيم داعش وضابط استخبارات سابق في الجيش العراقي، تضمنّت معلومات ومخططات لما يعرّفه اليوم باسم «الدولة الإسلامية» المزعومة. وأظهرت هذه المخططات كيف ينظر حجي أبو بكر إلى الدين باعتباره وسيلة فعّالة للتجنيد تحت راية «الدولة الإسلامية» المزعومة، ومصدرًا لا ينضب لتدفق المقاتلين.
لقد كان لهذا الكيان الجديد، الذي نشأ وتطوّر في خضم الفوضى العارمة في سوريا والعراق، هدف أساسي واحد: بناء دولة تسمح للسنّة باستعادة زمام السلطة بعدما خسروها في الحكومة العراقية التي يسيطر عليها الشيعة حاليًا بشكل أساسي. وهكذا وقع الخبراء ووسائل الإعلام في فخ حجي أبو بكر، وانغمسوا في مناقشات وتحاليل مطوّلة ومعمّقة حول ما إذا كان تنظيم داعش إسلاميا أم لا. وفي هذا السياق، انكبّوا على دراسة كثير من أشرطة الفيديو المرعبة حول أساليب «داعش» الهمجية التي تظهر فظائع الذبح والحرق والقتل إغراقًا التي استهدفت كل من اعتبره التنظيم «عدوًا للإسلام»، مركّزين بشكل حصري على وحشية الآيديولوجية المزعومة، كما على نجاحاتها العسكرية، ومطالبتها بالعودة إلى أيام الخلافة.
أما اليوم، فإن السؤال المهم الذي يطرح نفسه هو: ما الذي يريده «داعش»؟
منذ أن نشأ التنظيم، عمد إلى فرض الشريعة في المدن التي يسيطر عليها، وإلى فصل البنين عن البنات في المدارس، وإلى إجبار النساء على ارتداء النقاب، كما أدخل المحاكم الشرعية لبسط «عدالته»، مستهدفًا الأقليات الذين إما أجبرهم على اتباع تعاليمه وقوانينه أو قام بتصفيتهم بوحشية على غرار الإيزيديين (في شمال غرب العراق) الذين عمد التنظيم إلى استعبادهم وسبي نسائهم.
أدّت هذه التصرّفات إلى تكوّن اقتناع لدى كثيرين بأن هدف «داعش» الرئيسي هو تأسيس خلافة تحكمها شريعة الله. ولكن هل هذا حقًا الهدف الأساسي أو الوحيد للتنظيم؟
بغض النظر عما إذا كانت هذه الادعاءات صحيحة أم لا، وعلى الرغم من أنها نجحت في استقطاب كثير من الشباب المسلم من مختلف أنحاء العالم الذين شعروا بالتهميش في مجتمعاتهم، فإن الواقع على الأرض يشير إلى عكس ذلك؛ ففي الوقت الذي ما زال فيه السنّة في بغداد يقاتلون للدفاع عن «إقليمهم»، عمد «داعش»، بحكم قوة الأمر الواقع، إلى عرض «إقليم» آخر عليهم تحت حجة «الأمة الإسلامية».
وهكذا تمكّن «داعش» من السيطرة على مئات الأميال المربّعة بين سوريا والعراق، حيث انعدمت سلطة الدولة.. فمنذ البداية، استطاع التنظيم المتطرف بسط حكمه على معابر على الحدود السورية مع تركيا وصولاً إلى المدن المتاخمة للعاصمة العراقية بغداد. ومن ثم، نجح في إرساء شكل من أشكال الحكم وإنشاء ما يشبه شكل «دولة» في المناطق التي يسيطر عليها، مركّزًا على استغلال الاقتناع السائد بين «كثرة كاثرة» من السكان السنّة بأنهم مضطهدون على يد الحكومة التي يسيطر عليها الشيعة بزعامة نوري المالكي، وأنهم محرومون من الموارد الأساسية في البلاد ولا يحق لهم المشاركة في السلطة.
ولقد تنطبق المقولة التالية على «داعش»، إذ ترى البروفسورة لويز ريتشاردسون، مؤلفة الكتاب الشهير «ماذا يريد الإرهابيون: فهْم العدو لاحتواء الخطر» أن الإرهاب «ظاهرة معقدة، وهو تكتيك يلجأ إليه كثير من الجماعات لغايات متعدّدة ومختلفة».
وعليه، فإن جزءًا مما يريده بعض أعضاء «داعش» هو استعادة السلطة المفقودة؛ حيث أشار تقرير مجلة «دير شبيغل» إلى أن وراء تطور فكرة «داعش» لدى حجي أبو بكر وكثير من البعثيين الذين ساهموا في إنشاء التنظيم، قرار بول بريمر، رئيس سلطة الاحتلال الأميركي في بغداد حينذاك، الذي قضى بحل الجيش بمرسوم في مايو (أيار) 2003. وذلك القرار، كما هو معروف، حرم الآلاف من الضباط السنّة المتمرّسين لقمة عيشهم. ولاحقًا، اتسع تهميش السنّة ليطال القبائل العراقية الكبيرة لا سيما غرب البلاد وشمالها. وتأكيدا على ذلك، عدّ الشيخ رعد سليماني، وهو شخصية عراقية بارزة في قبيلة الدليم الكبيرة، في مقابلة سابقة أجرتها معه «الشرق الأوسط» في العاصمة الأردنية عمّان، أن «نحو 90 في المائة من قوى (داعش) مؤلفة من عشائر عراقية»، شارحًا أن التهميش السياسي والاجتماعي لأهل السنّة في العراق يمثل أحد الأسباب التي تفسّر دعم القبائل والعشائر العراقية لـ«داعش».
أضف إلى ما تقدم، المظالم التي تعرّض لها السنّة في ظل حكم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي اتبع نهجًا طائفيًا صريحًا؛ إذ جاءت حملة القمع العنيفة التي شنها المالكي إثر الاحتجاجات في المناطق السنّيّة خلال عام 2013 ضد عشرات الآلاف من السنّة في مدن الرمادي والفلّوجة والموصل وكركوك، لتفاقم الأمور سوءًا وتؤجّج سخط المعارضة، ومن نماذج تلك الحملة الغارة التي شنّت على مخيم احتجاج في الحويجة يوم 23 أبريل 2013 وأدّت إلى مقتل 44 مدنيًا، وفقا لتقرير لجنة برلمانية. ولذا، عندما اجتاح «داعش» ثلث أراضي العراق خلال الصيف الماضي، رحب كثيرون من السنّة به في بداية الأمر، وعدوه محرّرًا لهم. ويعتقد مراقبون جيّدو الاطلاع أن الغالبية العظمى في المناطق الخاضعة لسيطرته ما زالت تؤيده، على الرغم من أن عددًا من المواطنين يعترضون على ممارساته الوحشية، وهذا ما قاله مصدر في الموصل تحدثت معه «الشرق الأوسط» أخيرًا.
ما يجب قوله، هنا، هو أنه حتى الآن يشعر السنّة في العراق بأن حكومة بغداد برئاسة حيدر العبادي، الذي خلف المالكي والذي ينتمي للخلفية المذهبية والحزبية ذاتها، تتجاهل وضعهم، وقد يكون خير مثال على ذلك «مشروع الحرس الوطني» الذي ما زال مطروحًا للنقاش أمام البرلمان على الرغم من أن مجلس الوزراء وافق عليه. ويهدف هذا «المشروع» إلى ضم مختلف الميليشيات والقوات المحلية مثل «قوات التعبئة الشعبية» و«أبناء العراق» و«قوات البيشمركة» الكردية، تحت مظلة واحدة هي «الحرس الوطني». ووفق مخطّط الحكومة، فمن المفترض أن يُنشر هذا «الحرس الوطني» في كل المحافظات العراقية وأن يصار إلى استدعائه عند الحاجة لأغراض مكافحة الإرهاب في فترات الحروب وحالات الطوارئ أو الكوارث الطبيعية. وكانت شبكة «الجزيرة نت» قد ذكرت أنه منذ 24 يونيو (حزيران) الماضي يبدو أن التعديلات التي وافق عليها مجلس الوزراء العراقي بشأن قانون «الحرس الوطني» تقرر وضعها على السكة.
يذكر أن المطالب السنّيّة الأخرى تشمل مشاركة أكبر في العملية السياسية، والعفو العام عن السجناء الذين لم يشاركوا مباشرة في التفجيرات الإرهابية، مع العلم بأنه كان قد ألقي القبض على الآلاف من السنّة بعد انتهاء الاحتلال الأميركي في أعقاب موجة من الهجمات الإرهابية، ومن البديهي أنه لم يشارك بالضرورة فيها جميع الموقوفين. وهذا فضلا عن إدراج البعثيين السابقين في النظام السياسي.. وقد استند «داعش» إلى كل هذه المطالب ليفرض نفسه قوة يحسب لها حساب في العراق.
إلى ذلك، تشير البروفسورة ريتشاردسون، وهي مديرة جامعة سانت آندروز في اسكوتلندا، إلى أن الإرهاب «خليط قاتل مكوَّن من عناصر مهمشة، ومجتمع مؤات، وآيديولوجية مشرِّعة». والواضح إذن أنه بالنسبة إلى «داعش» ليست الآيديولوجية «المزعومة» هي الهدف الأساسي للتنظيم الذي يركز في الوقت عينه على أهداف قريبة وبعيدة المدى، لا بل إن تأسيس «الدولة الإسلامية» المزعومة ليس سوى واجهة لمخطّطات خفية كبرى.