العجائبية في أدب الرحلات.. رحلة ابن فضلان نموذجًا

بحث يقسمها إلى نوعين حقيقي وخيالي

غلاف «العجائبية في أدب الرحلات»
غلاف «العجائبية في أدب الرحلات»
TT

العجائبية في أدب الرحلات.. رحلة ابن فضلان نموذجًا

غلاف «العجائبية في أدب الرحلات»
غلاف «العجائبية في أدب الرحلات»

صدر عن دار السويدي للنشر والتوزيع في أبوظبي كتاب «العجائبية في أدب الرحلات: رحلة ابن فضلان نموذجًا» للدكتورة الخامسة علاوي. وقد حاز هذا الكتاب القيّم على جائزة ابن بطوطة للدراسات عام 2008 - 2009.
يتألف الكتاب من مقدمة وثلاثة فصول رئيسة وخاتمة، كما اعتمدت الباحثة على أكثر من 130 مصدرًا عربيًا وأجنبيًا بينها رسائل جامعية ووثائق ودوريات أثرتْ البحث وأوصلت الدراسة إلى مستوى علمي رصين.
أوردت الخامسة علاوي تعريف عبد الفتاح كيليطو لأدب الرِّحْلات الذي يقول بأنه «مجموعة من الآثار الأدبية التي تتناول انطباعات المؤلف عن رحلاته في بلاد مختلفة وقد يتعرّض فيها لوصف ما يراه من عادات وسلوك وأخلاق، وتسجيل دقيق للمناظر الطبيعية التي يشاهدها أو يسرد مراحل رحلته مرحلة مرحلة، أو يجمع بين كل هذا في آنٍ واحد».
تُقسِّم الباحثة الرحلات إلى نوعين، الأول الرحلة الحقيقية مثل رحلة ابن بطوطة، ورحلة ابن جبير، ورحلة العبدري. والرحلة الخيالية مثل قصة ابن طفيل لحي بن يقظان، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وروبنسون كروزو لدانيال ديفو وسواها من الرحلات المستقرة في الذاكرة الجمعية للقرّاء.
تقترح الباحثة إطلاق مصطلح، «الأدب الجغرافي» على أدب الرحلات، وذلك لغلبة منهج الجغرافيا الوصفية عليه ولكن هذه التسمية لا تجرّده من خصائصه الأدبية وطابعه الفني الذي يشدّ القرّاء ويمدّهم بعنصري المتعة والفائدة.
لابد من الإشارة إلى أن أدب الرحلات قريب جدًا من السيرة الذاتية والمذكرات واليوميات، بل إن الباحث كيليطو يرى من الصعوبة بمكان أن يفصل الرحلة عن السيرة الذاتية.
تسعى هذه التغطية إلى تسليط الضوء على رحلة ابن فضلان نفسها بوصفها نموذجًا تحليليًا يقدِّم صورة حيّة ومباشرة قائمة على الخبرة ومعايشة الآخر. لذلك سوف ينصّب تركيزنا على الفصل الثالث من هذا الكتاب بعد أن نتوقف قليلاً عند بعض التعاريف والمفاهيم الأساسية التي لا يمكن تفاديها أو غضّ الطرف عنها لعل أبرزها العجب الذي يعرّفه ابن منظور بأنه «إنكار ما يرِد عليك لقلة اعتياده والنظر إلى شيء غير مألوف ولا معتاد». أما المعجم الوسيط فيعرّف العجب: «بأنه روعة تأخذ الإنسان عند استعظام الشيء». في حين يذهب الفراهيدي إلى القول: «أما العجيب فالعجب. وأما العُجاب فالذي جاوز حدّ العجب». ويعرّف زكريا القزويني العجب بأنه «حيرة تعرض للإنسان لقصوره عن معرفة سبب الشيء أو عن معرفة كيفية تأثيره». وثمة تعريفات أخرى تؤكد بأن «العجب انفعال النفس عمّا خفي سببهُ»، وهو لا يكون إلا في النادر الوقوع، وإنما يسقط للأنس وكثرة المشاهدة. قد يكون تعريف تودوروف هو الأكثر دقة حينما يصور «التردد والحيرة كميزة خاصة بالمحكي العجائبي. فالعجائبي حسب تودوروف هو «التردد الذي يُحُسهُ كائن لا يعرف غير القوانين الطبيعية فيما هو يواجه حدثًا فوق طبيعي حسب الظاهر». وبما أنّ التردد هو السمة الأساسية لتعريفه، فإن ذلك يدعو إلى التساؤل: هل أن ما يحدث هو وهم أم حقيقة؟ والبطل مثل القارئ يبقى مترددًا بين تفسيرين أحدهما عقلي والآخر غيبي. وحالما يختار القارئ أحد التفسيرين فإنه يغادر العجائبي ليدخل في أحد الجنسين المجاورين: العجيب والغريب على حدّ قول تودوروف.
العجائبية في رحلة ابن فضلان
ثمة أسئلة منطقية تطرحها الباحثة الجزائرية الخامسة علاوي من بينها: لماذا اكتفى ياقوت الحموي بذكر ابن فضلان في معجم البلدان ولم يُذكر في معجم الأدباء؟ وإذا كانت القصة الفضلانية معروفة بين الناس فهل طال نُسَخُها الضياع بعد وفاة الحموي عام 626هـ؟ وأكثر من ذلك: كيف أهمل المؤرخون الكبار من أمثال ابن الأثير والخطيب البغدادي أرخنة هذا الوفد المهم الذي خرج بأمر من الخليفة نفسه؟
يعْرف المختصون بأدب الرحلات بأن الخليفة العباسي المقتدر (295 - 320هـ) قد تلّقى رسالة من ألمش بن يلطوار، ملك البلغار الذين يقطنون على ضفاف الفولغا، يطلب منه أن يرسل له فقيهًا يعلّم الصقالبة شرائع الدين، وبناء المساجد، وإقامة المآذن في جميع أنحاء المملكة. وقد تكون هذه النقاط الثلاث إضافة إلى أخرى غيرها هي الهدف الرئيسي للرحلة. فقبل أن ينطلق الوفد الذي كان يرأسه سوسن الرسّي كان ابن فضلان قد اُنتُدِب لقراءة الكتاب الذي بعثه الخليفة، وتسليم ما أُهدي إلى ملك البلغار، ثم الإشراف على الفقهاء والمعلمين الصقالبة.
تؤكد الباحثة بأن للرحلة مسارين: الأول عام ويبدأ من بلاد العجم، الأتراك، الصقالبة، الروسيّة وينتهي بالخزر. والثاني خاص يبدأ ببغداد ويمرّ بـ23 مدينة قبل أن ينتهي بالخزر. علما بأن طريق العودة هو نفس طريق الذهاب.
غادر الوفد 11 صفر 309هـ (21 يوليو (تموز) 921م). ذاقَ أفراد البعثة الأمرين بسبب سوء الأحوال الجوية في بلاد العجم والترك، حيث منعهم أمير خوارزم من المغادرة وإلقاء أنفسهم في التهلكة. ورب سائل يسأل: لماذا كان ابن فضلان يكرر إثر خروجه من بغداد سِرنا وأقمنا، ثم رحلنا وقطعنا من دون أن يتوقف عند التفاصيل الجغرافية، الأمر الذي يكشف عن احتمالية كون ابن فضلان فارسي الأصل وهذه المضارب مألوفة إليه، فلا غرابة أن يكتفي بالإشارة إليها أو التلميح العابر لها.
لابد من الأخذ بعين الاعتبار أن ابن فضلان كان قادمًا من بغداد حاضرة الدنيا وقد حلّ في بلدان متخلفة آنذاك، ولا بد أنه كان يشعر بالتفوق الحضاري والديني فلا غرابة أن يركِّز على ثلاثية الوثنية والعنف والشبقية التي تقصاها بشكل دقيق. فهؤلاء كانوا يعبدون السمك والكراكي والحيّات وتماثيل الأعضاء الذكرية. وقد شبههم غير مرة بـ«الحمير الضالة». وقد قال عن الأتراك إن الواحد منهم «لا ينزع الثوب الذي يلي جسده حتى ينتثر قطعًا» كما أنهم لا يغتسلون من بول وغائط وأن نساءهم لا يستترن عند الجلوس. أما الصقالبة فهم يستحمون في الأنهار عراة، ويمارسون الحُب أمام الآخرين من دون أن يشعروا بالحرج. ولا يقتصر هذا الأمر على عامة الناس وإنما يمتد إلى الملك الذي يواقع زوجته أو جاريته أمام 400 من أفراد حاشيته وجنوده.
اعتمد ابن فضلان على الوصف العجائبي الذي يثير دهشة القارئ مثل سقوط الحيّات الضخمة من الشجرة الباسقة، وهي للمناسبة تشبه حكاية السندباد في وادي الحيّات. وقصة الرجل الضخم الذي يصل طوله إلى 12 ذراعًا، أو السمكة الكبيرة التي تخرج من البحر ويقطع الناس من لحمها على قدر حاجتهم ثم تتحرك وتعود إلى البحر، أو قصة الجن المسلمين والكفار الذين يتقاتلون في السماء ويسببون الرعب لابن فضلان ورجاله. وقد يكون تفسير الجاحظ هو الأقرب للصواب حيث يقول: «إذا استوحش الإنسان تمثّل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرّق ذهنه، وانتفضت أخلاطه فرأى ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمع، وتوهم الشيء الحقير أنه عظيم جليل». ثمة مواقف عجائبية كثيرة لا يمكن حصرها في هذا المجال الضيق ولكنها لا تمنع من كون هذه الرسالة رسالة تحليلية، استكشافية عن الآخر المتمثل في تلك المضارب النائية. وقد كُتبت بأسلوب شيّق لا يبتعد فيه ابن فضلان عن أسلوب الأديب، ولا يقترب من أسلوب الجغرافي الذي يصف عناصر الطبيعة بدقة بالغة. ونختم بقول المستشرق الروسي كراتشكوفسكي الذي وجد في رسالة ابن فضلان قطعة رائعة من أدب الرحلات حيث قال: «لا يمكن إنكار قيمة الرحلة الأدبية، وأسلوبها القصصي السلس، ولغتها الحيّة المصورة التي لا تخلو بين آونة وأخرى من بعض الدعابة التي لم تكن مقصودة».



القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
TT

القطاع الثقافي ضحية سياسات التقشف الأوروبية

المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن
المتحف الفني "تيت بريتن" بلندن

الأزمات الخانقة التي أصبحت تثقل كاهل الدول الغربية، وصعود الأنظمة اليمينية المتطرفة، لم تعد سراً على أحد، لكن اللافت للانتباه التداعيات الخطيرة لكل هذه التطورات على القطاع الثقافي، فزيادة على ضعف الاهتمام تخلّ كثير من الحكومات عن اتباع سياسات حماية لثقافتها. إنه وضع القارة العجوز الآن؛ حيث نجحت ديون الحكومات المتراكمة، ومشكلات البطالة، والتضخم، والتوقعات المتشائمة لمعدلات النمو، في تغييب الإشكاليات الثقافية، والدفع بها إلى الصفوف الخلفية. الوضع في تدهور مستمر، حتى أصبحنا لا نستطيع مواكبة الأخبار التي تُفيد بقصّ الدعم، وخفض الميزانيات الثقافية لكثرتها.

في فرنسا، دعم الحكومة للمؤسسات الثقافية الكبرى لا يزال قائماً باعتبارها تُسهم بقوة في إنعاش قطاع السياحة، خصوصاً المتاحف والمكتبات الوطنية والمسارح، لكن الميزانية في تراجع مستمر. فمع مطلع 2025 تفقد وزارة الثقافة أكثر من 200 مليون يورو، معظمها اقتطعت من التمويل الذي كان يخصص للتراث والإبداع، وبعضها يخص أعرق المؤسسات الفرنسية؛ كأوبرا باريس، التي خسرت 6 ملايين يورو، ومسرح كوميدي فرنسييز، الذي انخفض تمويله العام بنحو 5 ملايين، ومتحف اللوفر بـ3 ملايين يورو. إلا أن المشكلة ليست في الوزارة فقط، لأنها ليست الداعم الأهم للقطاع الثقافي في البلاد، فمن بين الـ13 ملياراً التي تُشكلها ميزانية القطاع الثقافي في فرنسا لا تمنح الوزارة سوى 4 مليارات، أما البقية، أي أكثر من 9 مليارات، فهي الحصّة التي تسهم بها السلطات المحلية، أي المحافظات «Collectivités locales»، التي تتمتع بميزانيات خاصة بها. والجديد هو أن بعضاً من مسؤولي هذه الهيئات الرسمية شرعوا في تطبيق سياسة التقشف إلى أقصى الحدود، بدءاً بالمؤسسات والمرافق الثقافية والمبدعين؛ حيث حرمتهم من الدعم المادي، عملاً بالمنطق الذي يقول تغذية البطن قبل تغذية العقل.

متحف برلين

من الشخصيات التي واجهت انتقاد الدوائر الثقافية بهذا الخصوص كريستال مورونسي، رئيسة منطقة بايي دو لا روار (pays de la Loire) الواقعة غرب فرنسا، وهذا بعد أن أقرّت خفض ميزانية الثقافة بنسبة 73 في المائة، أي أكثر من 200 مليون يورو، وهي سابقة خطيرة في فرنسا علّقت عليها وسائل الإعلام الفرنسية بكثرة تحت شعار «الثقافة من الضعيف إلى الأضعف». فإجراء مثل هذا يعني توجيه ضربة قاضية لكثير من المؤسسات والمرافق الصغيرة التي تُعوّل في استمرار نشاطها على الأموال العامة، ومنها المهرجانات المحلية والمسارح، والمتاحف، وفرق الرقص والجمعيات. النقابات الثقافية وصفت هذا الإجراء بـ«العنيف». أما رئيسة المنطقة كريستال مورونسي فقد بررته بالديون المتراكمة التي تملي على ضمير أي مسؤول اعتماد التقشف لإنقاذ الوضع.

الوضع ليس أحسن حالاً في ألمانيا؛ حيث قررت حكومة ولاية برلين خفض التمويل المخصص للفنون والثقافة بنسبة 12 في المائة، وهو ما يعادل 130 مليون يورو. القرار أدّى إلى مخاوف من أن تفقد المدينة مكانتها، كونها واحدة من العواصم الثقافية الرائدة في أوروبا، حتى إن بعض المؤسسات أصبحت تواجه خطر الإغلاق، أهمها متحف برلين للفنون التشكيلية، ودار أوبرا كوميش. أما البقية فهي في حالة يُرثى لها، فمتحف برغام الشهير اضطر للغلق بسبب ترميمات طويلة الأمد (14 سنة)، علماً بأنه لم ينفذ فيه أي إصلاحات منذ 1930. عمدة برلين كاي فيغنر برّر تخفيضات الميزانية بوصفها ضرورية لضمان استمرارية برلين المالية بعد عام صعب اتسّم بانخفاض الإيرادات. ونصح المؤسسات الثقافية بالتفكير في إيجاد وسائل تمويل خاصة، على غرار النموذج الأميركي الذي يعتمد على الرعاية، مضيفاً أن «العقليات يجب أن تتغير؛ لأن خزائن الدولة أصبحت فارغة حتى بالنسبة للثقافة»، علماً بأن هذا التخفيض في ميزانية الثقافة يتعارض بشكل حاد مع نهج برلين السابق، المتمثل في تعزيز الاستثمار في فضاءاتها الثقافية. ففي عام 2021، وافقت ألمانيا على مبلغ قياسي قدره 2.1 مليار يورو تمويلاً فيدرالياً للثقافة، بزيادة قدرها 155 مليون يورو على العام السابق. شخصيات من الوسط الثقافي والفني انتقدت بشدة هذه التخفيضات، منها المخرج الألماني المعروف وين واندرز، الذي صرح لقناة «أورو نيوز» بأن «سحب التمويل العام قرار سيئ، أعتقد أن عليهم الاستثمار في الثقافة بدلاً من القيام بالعكس؛ لأنهم على المدى الطويل رابحون».

القطاع الثقافي في بريطانيا يعيش هو الآخر أزمة حادة؛ حيث نقل كثير من التقارير الإعلامية الانخفاض الشديد الذي سجلته الميزانيات المخصصة للثقافة منذ 2017 ولعدة سنوات على التوالي حتى وصلت نسبة الانخفاض إلى 48 في المائة، حسب موقع «أرت نيوز» البريطاني، الذي نشر مقالاً بعنوان: «لماذا تُموّل الحكومة البريطانية تمثالاً للملكة إليزابيث بـ46 مليون جنيه إسترليني، في حين القطاع الثقافي على ركبتيه». وجاء فيه: «عدد من المؤسسات الفنية والثقافية في جميع أنحاء المملكة المتحدة يُكافح من أجل البقاء، بسبب توقف التمويلات، كشبكة متاحف (التيت) التي تسهم فيها الحكومة بنسبة 35 في المائة، التي أصبحت تعاني من عجز في الميزانية للعام الثاني على التوالي، بسبب انخفاض الدعم، وإن كانت شبكة متاحف (التيت) ما زالت تنشط ولو بصعوبة فإن مؤسسات أخرى لم يحالفها الحظ؛ حيث تم إغلاق أكثر من 500 متحف بريطاني منذ سنة 2000، منها متحف إيستلي (Eastleigh) في هامبشاير، ومتحف كرانوك تشيس (Crannock Chase) في ويست ميدلاندز، بالرغم من الحملات الكثيرة التي نظمت لإنقاذ هذه المؤسسات».