في معظم الوظائف والمهن، إذا فعلت شيئاً ولم تحقق النجاح، يعتبر رؤساؤك في العمل ذلك أمراً سيئاً، وقد يتم طردك من العمل. لكن هذا بالتأكيد ليس قراراً سليماً. فليس كل جهد يبذله الإنسان ينتهي بتحقيق النجاح بالضرورة. بعبارة أخرى، الفشل أمر لا مفر منه في جميع جوانب الحياة تقريباً. ونظراً لأن التطلعات والجهود المبذولة في أي عمل تنتج عنها دائماً توقعات بالنجاح، فإن الإخفاقات قد تفتح أبواب البؤس في حياة أي شخص.
ومع ذلك، فإن كراهية الفشل من شأنها أن تجعلنا نغفل جانباً مهماً من الصورة الكاملة لحقيقة الحياة البشرية. فالفشل قد يكون كنزاً لا يقدر بثمن لأنه يزيد من احتمالات وحجم النجاح في حال عرف المرء كيف يستفيد منه ويتعلم الدروس. علاوة على ذلك، يبني الفشل لدى الإنسان القوة اللازمة لتحدي حقائق الحياة الصعبة. كما أنه مفتاح النضج والحكمة. إنه يجعل المرء يفكر ويعيد التفكير حتى يواجه ويتفوق على متطلبات وديناميات الحياة. بما أن الفشل يجعل المرء يتأمل أسبابه وعيوبه الشخصية، يستبدل المرء بالعادات السلبية غالباً أخرى أكثر إنتاجية. إنه أيضاً مفتاح التعاطف. أولئك الذين يعانون من آلام الفشل يظهرون عادة أقصى قدر من التعاطف مع الآخرين.
لكن من الصعب التغاضي عن هوسنا بالنجاح في كل مكان نتنافس ونعمل فيه مع الآخرين. ومع ذلك، فإن هذا الدافع الدؤوب لنكون الأفضل يعمينا عن شيء مهم للغاية: الحاجة إلى التواضع في مواجهة تحديات الحياة. في كتاب «في مدح الفشل: أربعة دروس في التواضع»، يناقش الكاتب كوستيكا براداتان الفشل، من وجهة نظر فلسفية، من خلال تسليط الضوء على أربع شخصيات تاريخية عاشت حياة حافلة بالنشاط وواجهت الفشل بإصرار. تظهر الحياة التي عاشها كل من هؤلاء الأشخاص أن التعامل مع الفشل ليس علاجياً فحسب، بل يؤدي في الغالب إلى تحويل مهم في حياتنا أيضاً.
يستكشف براداتان العديد من مجالات الفشل، من الاجتماعية والسياسية إلى الروحانية والبيولوجية. يبدأ الكاتب بتفحص الخيارات الجريئة للفيلسوفة والمتصوفة والناشطة السياسية الفرنسية سيمون أدولفين فايل، التي تولت، تعاطفاً مع العمال الذين كانوا يتعرضون للاستغلال، وظائف في المصنع لا يستطيع جسدها الضعيف تحملها. من هناك ننتقل إلى المهاتما غاندي، الذي دفعه سعيه القاسي من أجل النقاء إلى أعمال أكثر تطرفاً من إنكار الذات. بعد ذلك، نلتقي إميل سيوران، وهو فيلسوف وكاتب روماني معروف بأفكاره السوداوية وكتاباته المتكررة عن الانتحار وسخطه الدائم على الحياة. أما الشخصية الرابعة فهو الياباني يوكيو ميشيما، وهو روائي وشاعر وكاتب مسرحي وممثل ومخرج أفلام، وعرف بانتحاره بالسيف بطريقة السيبوكو (الهارا كيري) بعد محاولة انقلاب فاشلة.
يعتقد براداتان أنه إذا كان هناك وقت يستوجب التفكير بجدية في الفشل، فهو العصر الذي نعيش فيه. نحن نعيش في عصر التقدم المتسارع ونشهد تطورات في العلوم والفنون والتكنولوجيا والطب وجميع أشكال الإنجازات البشرية تقريباً بمعدل لم يسبق له مثيل من قبل. نحن نعرف المزيد عن طريقة عمل الدماغ البشري والمجرات البعيدة أكثر مما كان يتخيله أسلافنا. يبدو أن تصميم نوع متفوق من البشر - أكثر صحة، وأقوى، وأذكى، وأكثر وسامة، وأطول حياة - قيد التنفيذ. حتى الخلود، في رأي بعض العلماء، قد يبدو الآن ممكناً، نتيجة محتملة لهندسة بيولوجية أفضل وأكثر تطوراً.
من المؤكد أن الوعد بالتقدم والتحسين البشري المستمر هو أمر جيد. ولكن هذا يحمل معه أمراً خطيراً أيضاً - أنه في هذا المستقبل الأكثر كمالاً، ستختفي إمكانية الفشل تماماً، وسيكون النجاح نتيجة حتمية لكل مشروع نقوم به. ولكن لماذا يجب أن تهتم الفلسفة بالفشل؟ يقول براداتان إن تاريخ الفلسفة الغربية على الأقل يشكل سلسلة طويلة من الإخفاقات، وإن كانت منتجة ورائعة. عادة ما يثبت أي فيلسوف كبير نجاحه من خلال معالجة إخفاقات وأخطاء الفلاسفة الآخرين، فقط ليتم رفض أفكاره من قبل الآخرين على أنها فشل آخر. كل جيل فلسفي جديد يشير إلى إخفاقات الجيل السابق. ولكن بين الفشل والفشل، كانت الفلسفة تزدهر على مر القرون. وهكذا، يبدو أن الفشل هو ما تتغذى عليه الفلسفة، وما يبقيها على قيد الحياة. في الحقيقة، فإن نجاح الفلسفة يستند أساساً إلى وجود سلسلة من المحاولات الفاشلة.
لذلك، فإن الفشل مهم لعدة أسباب. فعندما يحدث الفشل، يكشف عن مدى تقارب الشيء ونقيضه في حياتنا. تدفعنا غريزة حب البقاء لدينا إلى رؤية العالم كمكان صلب وموثوق به وغير قابل للفناء. وفي الوقت نفسه، نجد صعوبة بالغة في تصور وجود هذا العالم من دوننا، وننسى مدى قربنا من إمكانية فقداننا لوجودنا. قد يكون فشل محرك الطائرة، على سبيل المثال، أكثر من كافٍ لوضع حد لكل شيء. وعلى الرغم من أن عطل محرك الطائرة قد لا يكون قاتلاً دائماً، فإن الفشل يحمل معه دائماً درجة معينة من التهديد الوجودي. وبذلك يمتلك الفشل وظيفة علاجية مميزة. يعاني معظمنا بشكل مزمن من ضعف التكيف مع البيئة المحيطة به. نحن نتخيل أنفسنا، مهما كبر شأننا أو صغر، أكثر أهمية مما نحن عليه بالفعل ونتصرف كما لو أن العالم موجود فقط من أجلنا ونتوقع أن تكون بقية الكون دائماً في خدمتنا. قد يكون الفشل دواءً ضد هذه الغطرسة، لأنه غالباً ما يجلب معه التواضع.
من ناحية ثانية، من الأهمية بمكان أن نفهم أننا مخلوقات خاطئة ناقصة وغير كاملة. بعبارة أخرى، هناك دائماً فجوة متبقية بين ما نحن عليه وما يمكن أن نكون عليه. مهما كانت الإنجازات البشرية في التاريخ، فقد كانت ممكنة على وجه التحديد بسبب وجود هذه الفجوة. ومن المفارقات أن الصراع مع إخفاقاتنا هو الذي قد يدفعنا لاكتشاف أفضل ما فينا. إن الفجوة بين ما نحن عليه وما يمكن أن نكونه هي أيضاً المساحة التي يتم فيها تصور المدينة الفاضلة، أو اليوتوبيا، التي تعد رد فعل على أوجه القصور وعدم الاستقرار في حياتنا وتعبيراً عن أكثر ما نفتقر إليه. ومع ذلك، من المهم أن نستمر في الحلم وبناء اليوتوبيا. لولا هذه النزعة البشرية، لبقينا نعيش اليوم في عالم أسوأ بكثير. لكن، لنفترض يوماً ما أن العلم قام بحل جميع مشكلاتنا. دعونا نتخيل أننا نتمتع بصحة جيدة، ونعيش إلى أجل غير مسمى، وتعمل أدمغتنا بفضل بعض التحسينات مثل الكومبيوتر. قد يكون ذلك شيئاً مثيراً للاهتمام، لكن لن يكون هناك ما نعيش من أجله. بعبارة أخرى، سيختفي الطموح مع اختفاء إمكانية الفشل، وسنكون كاملين جسدياً وأمواتاً من الناحية الروحية. في نهاية المطاف، قدرتنا على الفشل تجعلنا ما نحن عليه. إن وجود الفشل هو الذي يخلق فينا الطموح أساساً. الفشل، والخوف من الفشل، وتعلم كيفية تجنبه في المستقبل، كلها جزء من عملية يتم من خلالها تحديد شكل البشرية ومصيرها. لهذا فإن القدرة على الفشل هي شيء يجب المحافظة عليه.
وبغض النظر عن مدى نجاح حياتنا، ومدى ذكائنا أو اجتهادنا، فإن نفس النتيجة تنتظرنا جميعاً: الموت، على الرغم من أنه من أجل البقاء في حالة من الرضا النسبي، يتظاهر معظمنا بعدم رؤيته. ومع ذلك، فإننا نتحرك نحو وجهتنا بشكل متسارع. يخلص براداتان إلى أن إخفاقاتنا يمكن أن تقودنا إلى حياة أكثر تواضعاً، وأكثر انتباهاً، وأكثر نقاء. يمكننا الاستغناء عن النجاح، لكننا نفقد الكثير والكثير من دون الفشل.
* باحث ومترجم سوري
لا تخجلوا من الفشل... فهو مفتاح النجاح
لا تخجلوا من الفشل... فهو مفتاح النجاح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة